تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 255 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 255

255 : تفسير الصفحة رقم 255 من القرآن الكريم

** وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
يقول تعالى: يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون: {لست مرسل} أي ما أرسلك الله {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم} أي حسبي الله هو الشاهد علي وعليكم. شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة, وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان, وقوله: {ومن عنده علم الكتاب} قيل: نزلت في عبد الله بن سلام, قاله مجاهد, وهذا القول غريب, لأن هذه الاَية مكية, وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, والأظهر في هذا ما قاله العوفي عن ابن عباس قال: هم من اليهود والنصارى, وقال قتادة: منهم ابن سلام وسلمان وتميم الداري, وقال مجاهد في رواية عنه: هو الله تعالى, وكان سعيد بن جبير ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام ويقول: هي مكية, وكان يقرؤها {ومن عنده عُلِمَ الكتاب} ويقول: من عند الله, وكذا قرأها مجاهد والحسن البصري.
وقد روى ابن جرير من حديث هارون الأعور عن الزهري عن سالم, عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها {ومن عنده عُلِمَ الكتاب}, ثم قال: لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات, قلت, وقد رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من طريق هارون بن موسى هذا, عن سليمان بن أرقم, وهو ضعيف, عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعاً كذلك ولا يثبت, والله أعلم, والصحيح في هذا أن {ومن عنده} اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به, كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} الاَية: وقال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} الاَية, وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة. وقد ورد في حديث الأحبار عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة.
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة وهو كتاب جليل: حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني, حدثنا عبدان بن أحمد, حدثنا محمد بن مصفى, حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة يوسف بن عبد الله بن سلام, عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام أنه قال لأحبار اليهود: إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عيداً, فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة, فوافاهم وقد انصرفوا من الحج, فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس حوله, فقام مع الناس, فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنت عبد الله بن سلام ؟» قال قلت: نعم, قال «ادن». قال: فدنوت منه. قال: «أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام, أما تجدني في التوراة رسول الله ؟» فقلت له: انعت ربنا, قال: فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: {قل هو الله أحد الله الصمد} إلى آخرها, فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة, فكتم إسلامه, فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجذها, فألقيت نفسي, فقالت أمي: لله أنت, لو كان موسى بن عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة, فقلت: والله لأنا أسر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من موسى بن عمران إذ بعث, وهذا حديث غريب جداً. آخر تفسير سورة الرعد, و لله الحمد والمنة.

سورة إبراهيم
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الاَخِرَةِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور {كتاب أنزلناه إليك} أي هذا كتاب أنزلناإليك يا محمد, وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء, على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد, كما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور, والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} الاَية. وقال تعالى: {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور} الاَية.
وقوله: {بإذن ربهم} أي هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم {إلى صراط العزيز}, أي العزيز الذين لا يمانع ولا يغالب, بل هو القاهر لكل ما سواه, {الحميد} أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وأمره ونهيه الصادق في خبره. وقوله: {الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} قرأ بعضهم مستأنفاً مرفوعاً وقرأ آخرون على الإتباع صفة للجلالة, كقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض} الاَية. وقوله: {وويل للكافرين من عذاب شديد} أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك, ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الاَخرة, أي يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا, ونسوا الاَخرة وتركوها وراء ظهورهم {ويصدون عن سبيل الله} وهي اتباع الرسل {ويبغونها عوج} أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة عائلة, وهي مستقيمة في نفسها لا يضرها من خالفها, ولا من خذلها فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق, لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح.

** وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ فَيُضِلّ اللّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم, ليفهموا عنهم ما يريدون, وما أرسلوا به إليهم, كما روى الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن عمر بن ذر قال: قال مجاهد عن أبي ذر: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يبعث الله عز وجل نبياً إلا بلغة قومه». وقوله: {فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم, يضل الله من يشاء عن وجه الهدى, ويهدي من يشاء إلى الحق {وهو العزيز} الذي ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, {الحكيم} في أفعاله, فيضل من يستحق الإضلال ويهدي من هو أهل لذلك, وقد كانت هذه سنته في خلقه أنه ما بعث نبياً في أمة إلا أن يكون بلغتهم, فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم, واختص محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة إلى سائر الناس, كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي, وأعطيت الشفاعة, وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وله شواهد من وجوه كثيرة. وقال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميع}.

** وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَذَكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ
يقول تعالى: {وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم, تدعوهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور, كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتن}, قال مجاهد: هي التسع الاَيات {أن أخرج قومك} أي أمرناه قائلين له {أخرج قومك من الظلمات إلى النور} أي ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان, {وذكرهم بأيام الله} أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه, وإنجائه إياهم من عدوهم, وفلقه لهم البحر, وتظليله إياهم بالغمام, وإنزاله عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من النعم, قال ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد, وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه حيث قال حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم, حدثنا محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وذكرهم بأيام الله} قال: بنعم الله, ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث محمد بن أبان به, ورواه عبد الله ابنه أيضاً موقوفاً وهو أشبه.
وقوله: {إن في ذلك لاَيات لكل صبار شكور} أي إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة لكل صبار, أي في الضراء شكور أي في السراء, كما قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر, وإذا أعطي شكر. وكذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أمر المؤمن كله عجب, لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته ضراء صبر, فكان خيراً له, وإن أصابته سراء شكر, فكان خيراً له».