تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 256 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 256

256 : تفسير الصفحة رقم 256 من القرآن الكريم

** وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذّنَ رَبّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَىَ إِن تَكْفُرُوَاْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأرْضِ جَمِيعاً فَإِنّ اللّهَ لَغَنِيّ حَمِيدٌ
يقول تعالى مخبراً عن موسى حين ذكر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم, إذ أنجاهم من آل فرعون, وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال, حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم, ويتركون إناثهم, فأنقذهم الله من ذلك, وهذه نعمة عظيمة, ولهذا قال: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} أي نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك, أنتم عاجزون عن القيام بشكرها وقيل: وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل {بلاء} أي اختبار عظيم, ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا, والله أعلم, كقوله تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}. وقوله: {وإذ تأذن ربكم} أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم, ويحتمل أن يكون المعنى: وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه, كقوله تعالى: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة}.
وقوله: {لئن شكرتم لأزيدنكم} أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها, {ولئن كفرتم} أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها {إن عذابي لشديد}, وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها, وقد جاء في الحديث «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه». وفي المسند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, مر به سائل فأعطاه تمرة, فسخطها ولم يقبلها, ثم مر به آخر فأعطاه إياها, فقبلها وقال: تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمر له بأربعين درهماً, أو كما قال: قال الإمام أحمد: حدثنا أسود, حدثنا عمارة الصيدلاني عن ثابت عن أنس, قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها أو وحش بها ـ قال ـ: وأتاه آخر فأمر له بتمرة, فقال: سبحان الله تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال للجارية: «اذهبي إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهماً التي عندها» تفرد به الإمام أحمد, وعمارة بن زاذان وثقه ابن حبان وأحمد ويعقوب بن سفيان. وقال ابن معين: صالح. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به, ليس بالمتين. وقال البخاري: ربما يضطرب في حديثه, وعن أحمد أيضاً أنه قال: روى أحاديث منكرة. وقال أبو داود: ليس بذاك وضعفه الدارقطني. وقال ابن عدي: لا بأس به ممن يكتب حديثه.
وقوله تعالى: {وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد} أي هو غني عن شكر عباده, وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره, كقوله: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم} الاَية. وقوله: {فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد}. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم, ما زاد ذلك في ملكي شيئاً, يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم, ما نقص ذلك في ملكي شيئاً, يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد, فسألوني, فأعطيت كل إنسان مسألته, ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» فسبحانه وتعالى الغني الحميد.

** أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاّ اللّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرَدّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فِيَ أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوَاْ إِنّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنّا لَفِي شَكّ مّمّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
قال ابن جرير: هذا من تمام قول موسى لقومه يعني وتذكيره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل, وفيما قال ابن جرير نظر, والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة, فإنه قد قيل: إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة, فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصصه عليهم, لا شك أن تكون هاتان القصتان في التوراة, والله أعلم, وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل مما لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل {جاءتهم رسلهم بالبينات} أي بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات, وقال ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون, عن عبد الله أنه قال في قوله: {لا يعلمهم إلا الله} كذب النسابون. وقال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحداً يعرف ما بعد معد بن عدنان.
وقوله: {فردوا أيديهم في أفواههم} اختلف المفسرون في معناه, قيل: معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل بأمرهم بالسكوت عنهم لما دعوهم إلى الله عز وجل. وقيل: بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم. وقيل: بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل. وقال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة: ومعناه أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم. قال ابن جرير: وتوجيهه أن في هنا بمعنى الباء, قال: وقد سمع من العرب أدخلك الله بالجنة يعنون في الجنة, وقال الشاعر:
وأرغب فيها عن لقيط ورهطهولكنني عن سنبس لست أرغب
يريد أرغب بها. قلت: ويؤيد مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام {وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} فكأن هذا ـ والله أعلم ـ تفسير لمعنى {فردوا أيديهم في أفواههم}. وقال سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله: {فردوا أيديهم في أفواههم} قال: عضوا عليها غيظاً. وقال شعبة عن أبي إسحاق عن أبي هبيرة بن يريم, عن عبد الله أنه قال ذلك أيضاً. وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, ووجهه ابن جرير مختاراً له بقوله تعالى عن المنافقين {وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيط}. وقال العوفي عن ابن عباس: لما سمعوا كلام الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم, وقالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به الاَية, يقولون: لا نصدقكم فيما جئتم به, فإن عندنا فيه شكاً قوياً.