تفسير الطبري تفسير الصفحة 255 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 255
256
254
 الآية : 43
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }.
يقول تعالـى ذكره وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا بـالله من قومك يا مـحمد لَسْتَ مُرْسَلاً تكذيبـا منهم لك, وجحودا لنبوّتك. فَقُلْ لهم إذا قالوا ذلك: كَفَـى بـاللّهِ يقول: قل حسبـي الله شَهِيدًا, يعنـي شاهدا, بَـيْنِـي وَبَـيْنَكُمْ علـيّ وعلـيكم بصدقـي وكذبكم, وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـم الكِتابِ فمن إذا قرىء به كذلك فـي موضع خفض عطفـا به علـى اسم الله, وكذلك قرأ قرأة الأمصار بـمعنى: والذين عندهم علـم الكتاب الكتب التـي نزلت قبل القرآن كالتوراة والإنـجيـل. وعلـى هذه القراءة فسّر ذلك الـمفسرون. ذكر الرواية بذلك:
15618ـ حدثنـي علـي بن سعيد الكندي, قال: حدثنا أبو مـحياة يحيى بن يعلـى, عن عبد الـملك بن عمير, عن ابن أخي عبد الله بن سلام, قال: قال عبد الله بن سلام: نزلت فـيّ: كَفَـى بـاللّهِ شَهِيدًا بَـيْنِـي وَبَـيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ.
حدثنا الـحسين بن علـيّ الصدائي, قال: حدثنا أبو داود الطيالسي, قال: حدثنا شعيب بن صفوان, قال: حدثنا عبد الـملك بن عمير, أن مـحمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام, قال: قال عبد الله بن سلام: أنزل فـيّ: قُلْ كَفَـى بـاللّهِ شَهِيدًا بَـيْنِـي وَبَـيْنَكُمْ وَمِنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ.
15619ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: قُلْ كَفَـى بـاللّهِ شَهِيدًا بَـيْنِـي وَبَـيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ فـالذين عندهم علـم الكتاب: هم أهل الكتاب من الـيهود والنصارى.
15620ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي, عن سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ قال: هو عبد الله بن سلام.
15621ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح, فـي قوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ قال: رجل من الإنس, ولـم يسمه.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ عبد الله بن سلام.
15622ـ قال: حدثنا يحيى بن عبـاد, قال: حدثنا شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ.
15623ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قال: قول مشركي قريش: قُلْ كَفَـى بـاللّهِ شَهِيدًا بَـيْنِـي وَبَـيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ أناس من أهل الكتاب كانوا يشهدون بـالـحقّ ويقرّون به, ويعلـمون أن مـحمدا رسول الله, كما يحدّث أن منهم عبد الله بن سلام.
15624ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن قتادة: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ قال: كان منهم عبد الله بن سلام, وسلـمان الفـارسيّ, وتـميـم الداريّ.
15625ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الوهاب, عن سعيد, عن قتادة: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ قال هو عبد الله بن سلام.
وقد ذُكر عن جماعة من الـمتقدمين أنهم كانوا يقرءونه: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» بـمعنى: من عند الله علـم الكتاب. ذكر من ذُكر ذلك عنه:
15626ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, عن هارون, عن جعفر بن أبـي وحشية, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» يقول: من عند الله عُلِـم الكتاب.
15627ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, عن شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» قال: من عند الله.
قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» قال: من عند الله علـم الكتاب.
15628ـ وقد حدثنا هذا الـحديث الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» قال: هو الله, هكذا قرأ الـحسن: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ».
قال: حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الـحسن, مثله.
قال: حدثنا علـيّ, يعنـي ابن الـجعد, قال: حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الـحسن: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» قال: الله, قال شعبة: فذكرت ذلك للـحكم, فقال: قال مـجاهد, مثله.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت منصور بن زاذان يحدّث عن الـحسن, أنه قال فـي هذه الآية: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» قال: من عند الله.
قال: حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا هوذة, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» قال: من عند الله علـم الكتاب.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن الـحسن: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» قال: من عند الله علـم الكتاب, هكذا قال ابن عبد الأعلـى.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان الـحسن يقرؤها: «قُلْ كَفَـى بـاللّهِ شَهِيدًا بَـيْنِـي وَبَـيْنَكُمْ وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكتابُ» يقول: من عند الله علـم الكتاب, وجملته.
هكذا حدثنا به بشر: علـم الكتاب, وأنا أحسبه وَهَم فـيه, وأنه: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» لأن قوله وجملته اسم لا يعطف بـاسم علـى فعل ماض.
15629ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الوهاب, عن هارُون: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» يقول: من عند الله علـم الكتاب.
15630ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا أبو عوانة, عن أبـي بشر, قال: قلت لسعيد بن جبـير: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» أهو عبد الله بن سلام؟ قال: هذه السورة مكية, فكيف يكون عبدَ الله بن سلام؟ قال: وكان يقرؤها: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» يقول: من عند الله.
حدثنا الـحسن, قال: حدثنا سعيد بن منصور, قال: حدثنا أبو عوانة, عن أبـي بشر, قال: سألت سعيد بن جبـير, عن قول الله: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» أهو عبد الله بن سلام؟ قال: فكيف وهذه السورة مكية. وكان سعيد يقرؤها: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ».
15631ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي عبـاد, عن عوف, عن الـحسن وجويبر, عن الضحاك بن مزاحم, قالا: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» قال: من عند الله.
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بتصحيح هذه القراءة وهذا التأويـل, غير أن فـي إسناده نظرا, وذلك ما:
15632ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي عبـاد بن العوّام, عن هارون الأعور, عن الزهريّ, عن سالـم بن عبد الله, عن أبـيه, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِـمَ الكِتابُ» عند الله علـم الكتاب.
وهذا خبر لـيس له أصل عند الثقات من أصحاب الزهريّ.
فإذا كان ذلك كذلك وكانت قرّاء الأمصار من أهل الـحجاز والشام والعراق علـى القراءة الأخرى, وهي: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْـمُ الكِتابِ كان التأويـل الذي علـى الـمعنى الذي علـيه قرّاء الأمصار أولـى بـالصواب مـمن خالفه, إذ كانت القراءة بـما هم علـيه مـجمعون أحقّ بـالصواب.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة الرعد

سورة إبراهيم
سُورَة إبْرَاهِيـم مَكِيّة
وَآيَاتهَا ثْنتانِ وَخمُسونَ
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيـمِ
الآية : 1
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }.
قال أبو جعفر الطبري: قد تقدم منا البـيان عن معنى قوله: الر فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وأما قوله: كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَـيْكَ فإن معناه: هذا كتاب أنزلناه إلـيك يا مـحمد يعنـي القرآن. لِتُـخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُـماتِ إلـى النّورِ يقول: لتهديهم به من ظلـمات الضلالة والكفر إلـى نور الإيـمان وضيائه, وتبصّر به أهل الـجهل والعمّى سبل الرشاد والهُدى.
وقوله: بإذْنِ رَبّهِمْ يعنـي: بتوفـيق ربهم لهم بذلك ولطفه بهم. إلـى صراطِ العَزِيزِ الـحَمِيدِ يعنـي: إلـى طريق الله الـمستقـيـم, وهو دينه الذي ارتضاه وشرعه لـخـلقه. والـحميد: فعيـل, صُرف من مفعول إلـى فعيـل, ومعناه: الـمـحمود بآلائه, وأضاف تعالـى ذكره إخراج الناس من الظلـمات إلـى النور بإذن ربهم لهم بذلك إلـى نبـيه صلى الله عليه وسلم, وهو الهادي خـلقه والـموفّق من أحبّ منهم للإيـمان, إذ كان منه دعاؤهم إلـيه, وتعريفهم ما لهم فـيه وعلـيهم, فبـين بذلك صحة قول أهل الإثبـات الذين أضافوا أفعال العبـاد إلـيهم كسبـا, وإلـى الله جلّ ثناؤه إنشاءً وتدبـيرا, وفساد قول أهل القدر الذين أنكروا أن يكون لله فـي ذلك صنع.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15633ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, فـي قوله: لِتُـخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُـماتِ إلـى النّورِ: أي من الضلالة إلـى الهُدى.
الآية : 2
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }.
اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والشام: اللّهُ الّذِي لَهُ ما فِـي السّمَوَاتِ برفع اسم الله علـى الابتداء, وتصيـير قوله: الّذِي لَهُ ما فِـي السّمَوَاتِ خبره. وقرأته عامّة قرّاء أهل العراق والكوفة والبصرة: اللّهِ الّذِي بخفض اسم الله علـى إتبـاع ذلك العَزِيزِ الـحَمِيدِ وهما خفض.
وقد اختلف أهل العربـية فـي تأويـله إذا قرىء كذلك, فذكر عن أبـي عمرو بن العلاء أنه كان يقرؤه بـالـخفض ويقول: معناه: بإذن ربهم إلـى صراط العزيز الـحميد, الذي له ما فـي السموات, ويقول: هو من الـمؤخر الذي معناه التقديـم, ويـمثله بقول القائل: مررت بـالظريف عبد الله, والكلام الذي يوضع مكان الاسم: النعت, ثم يجعل الاسم مكان النعت, فـيتبع إعرابه إعراب النعت الذي وضع موضع الاسم كما قال بعض الشعراء:
لَوْ كُنْتَ ذَا نَبْلٍ وذَا شَرِيبِما خِفْتَ شَدّاتِ الـخَبِـيثِ الذّيبِ
وأما الكسائيّ فإنه كان يقول فـيـما ذكر عنه من خفض أراد أن يجعله كلاما واحدا وأتبع الـخفض الـخفْضَ, وبـالـخفض كان يقرأه.
والصواب من القول فـي ذلك عندي, أنهم قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء معناهما واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وقد يجوز أن يكون الذي قرأه بـالرفع, أراد معنى من خفض فـي إتبـاع الكلام بعضه بعضا, ولكنه رفع لانفصاله من الاَية التـي قبله, كما قال جلّ ثناؤه: إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ أَنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ... إلـى آخر الاَية, ثم قال: التّائِبُونَ العابِدُونَ. ومعنى قوله: اللّهُ الّذِي لَهُ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ الله الذي يـملك جميع ما فـي السموات وما فـي الأرض يقول لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: أنزلنا إلـيك هذا الكتاب لتدعو عبـادي إلـى عبـادة من هذه صفته, ويدعوا عبـادة من لا يـملك لهم ولا لنفسه ضرّا ولا نفعا من الاَلهة والأوثان. ثم توعد جلّ ثناؤه من كفر به ولـم يستـجب لدعاء رسوله إلـى ما دعاه إلـيه من إخلاص التوحيد له, فقال: وَوَيْـلٌ للكافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ يقول: الوادي الذي يسيـل من صديد أهل جهنـم, لـمن جحد وحدانـيته وعبد معه غيره, من عذاب الله الشديد.
الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الاَخِرَةِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ }.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: الّذِينَ يَسْتَـحِبّونَ الـحَياةَ الدّنْـيا علـى الاَخرَةِ الذين يختارون الـحياة الدنـيا ومتاعهم ومعاصيَ الله فـيها علـى طاعة الله وما يقربهم إلـى رضاه من الأعمال النافعة فـي الاَخرة. وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ يقول: ويـمنعون من أراد الإيـمان بـالله واتبـاع رسوله علـى ما جاء به من عند الله من الإيـمان به واتبـاعه. وَيَبْغُونَها عِوَجا يقول: ويـلتـمسون سبـيـل الله, وهي دينه الذي ابتعث به رسوله. عوجا: تـحريفـا وتبديلاً بـالكذب والزور. «والعِوَج» بكسر العين وفتـح الواو فـي الدين والأرض وكلّ ما لـم يكن قائما, فأما فـي كل ما كان قائما كالـحائط والرمـح والسنّ فإنه يقال بفتـح العين والواو جميعا «عَوَج» يقول الله عزّ ذكره: أُولَئِكَ فِـي ضَلالٍ بَعِيدٍ يعنـي: هؤلاء الكافرين الذي يستـحبون الـحياة الدنـيا علـى الاَخرة, يقول: هم فـي ذهاب عن الـحقّ بعيد, وأخذ علـى غير هدى, وجَوْر عن قصد السبـيـل.
وقد اختلف أهل العربـية فـي وجه دخول «علـى» فـي قوله: علـى الاَخِرَةِ فكان بعض نـحويـيّ البصرة يقول: أوصل الفَعَل ب «علـى», كما قـيـل: ضربوه فـي السيف, يريد بـالسيف, وذلك أن هذه الـحروف يوصل بها كلها وتـحذف, نـحو قول العرب: نزلت زيدا, ومررت زيدا, يريدون: مررت به, ونزلت علـيه. وقال بعضهم: إنـما أدخـل ذلك, لأن الفعل يؤدّي عن معناه من الأفعال, ففـي قوله: يَسْتَـحبّونَ الـحَياةَ الدّنـيْا علـى الاَخِرَةِ ولذلك أدخـلت «علـى». وقد بـيّنت هذا ونظائره فـي غير موضع من الكتاب بـما أغنى عن الإعادة.
الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ فَيُضِلّ اللّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
يقول تعالـى ذكره: وما أرسلنا إلـى أمة من الأمـم يا مـحمد من قبلك ومن قبل قومك رسولاً إلا بلسان الأمة التـي أرسلناه إلـيها ولغتهم, لـيُبَـيّنَ لهم يقول: لـيفهمهم ما أرسله الله به إلـيهم من أمره ونهيه, لـيثبت حجة الله علـيهم, ثم التوفـيق والـخذلان بـيد الله, فـيخذل عن قبول ما أتاه به رسوله من عنده من شاء منهم, ويوفّق لقبوله من شاء ولذلك رفع «فـيُضلّ», لأنه أريد به الابتداء لا العطف علـى ما قبله, كما قـيـل: لنُبَـيّنَ لَكُمْ ونُقِرّ فـي الأرْحَامِ ما نَشاءُ وهو العزيز الذي لا يـمتنع مـما أراده من ضلال أو هداية من أراد ذلك به, والـحكيـم فـي توفـيقه للإيـمان من وفقه له وهدايته له من هداه إلـيه, وفـي إضلاله من أضلّ عنه, وفـي غير ذلك من تدبـيره.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15634ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَما أرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلاّ بِلِسان قَوْمِهِ: أي بلغة قومه ما كانت, قال الله عزّ وجلّ: لـيُبَـيّنَ لَهُمْ الذي أرسل إلـيهم لـيتـخذ بذلك الـحجة, قال الله عزّ وجلّ: فَـيُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَذَكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا وحججنا من قبلك يا مـحمد, كما أرسلناك إلـى قومك بـمثلها من الأدلة والـحجج. كما:
15635ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح «ح» وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن الأشيب, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد «ح» وحدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: وَلَقَدْ أرْسَلْنا مُوسَى بآياتِنا قال: بـالبـينات.
15636ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَلَقَدْ أرْسَلْنا مُوسَى بآياتِنا قال: التسع الاَيات: الطوفـان وما معه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد,: أرْسَلْنا مُوسَى بآياتِنا قال: التسع البـينات.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقوله: أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُـماتِ إلـى النّورِ كما أنزلنا إلـيك يا مـحمد هذا الكتاب, لتـخرج الناس من الظلـمات إلـى النور بـاذْنِ رَبّهِمْ, ويعنـي بقوله: أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُـماتِ إلـى النّورِ: أي ادعهم من الضلالة إلـى الهُدى, ومن الكفر إلـى الإيـمان. كما:
15637ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَلَقَدْ أرْسَلْنا مُوسَى بآياتِنا أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُـماتِ إلـى النّورِ يقول: من الضلالة إلـى الهُدى.
15638ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عن عمرو, عن سعيد, عن قتادة, مثله.
وقوله: وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ يقول عزّ وجلّ: وعظهم بـما سلف من نعمي علـيهم فـي الأيام التـي خـلت. فـاجتزىء بذكر الأيام من ذكر النعم التـي عناها, لأنها أيام كانت معلومة عندهم, أنعم الله علـيهم فـيها نعما جلـيـلة, أنقذهم فـيها من آل فرعون بعد ما كانوا فـيـما كانوا من العذاب الـمهين, وغرق عدوّهم فرعون وقومه, وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم. وكان بعض أهل العربـية يقول: معناه: خوّفهم بـما نزل بعاد وثمود وأشبـاههم من العذاب, وبـالعفو عن الاَخرين. قال: وهو فـي الـمعنى كقولك: خذهم بـالشدّة واللـين. وقال آخرون منهم: قد وجدنا لتسمية النعم بـالأيام شاهدا فـي كلامهم. ثم استشهد لذلك بقول عمرو بن كلثوم:
وأيّامٍ لَنا غُرَ طِوَالٍعَصَيْنا الـمَلْكَ فِـيها أنْ نَدِينا
وقال: فقد يكون إنـما جعلها غرّا طوالاً لإنعامهم علـى الناس فـيها. وقال: فهذا شاهد لـمن قال: وَذَكّرْهمْ بأيّامِ اللّهِ بنعم الله. ثم قال: وقد يكون تسميتها غرّا, لعلوّهم علـى الـملك وامتناعهم منه, فأيامهم غرّ لهم وطوال علـى أعدائهم.
قال أبو جعفر: ولـيس للذي قال هذا القول, من أن فـي هذا البـيت دلـيلاً علـى أن الأيام معناها النعم وجهٌ, لأن عمرو بن كلثوم إنـما وصف ما وصف من الأيام بأنها غرّ, لعزّ عشيرته فـيها, وامتناعهم علـى الـملك من الإذعان له بـالطاعة, وذلك كقول الناس: ما كان لفلان قطّ يوم أبـيض, يعنون بذلك: أنه لـم يكن له يوم مذكور بخير. وأما وصفه إياها بـالطول, فإنها لا توصف بـالطول إلا فـي حال شدّة, كما قال النابغة:
كِلِـينـي لِهَمَ يا أُمَيْـمَةَ ناصِبِولَـيْـلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَوَاكِبِ
فإنـما وصفها عمرو بـالطول لشدّة مكروهها علـى أعداء قومه, ولا وجه لذلك غير ما قلت.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15639ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا فضيـل بن عياض, عن لـيث, عن مـجاهد: وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال: بأنعم الله.
حدثنـي إسحاق بن إبراهيـم بن حبـيب بن الشهيد. قال: حدثنا يحيى بن يـمان, عن سفـيان, عن عبـيد الـمكّتب عن مـجاهد: وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال: بنعم الله.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن عبـيد الـمكتب, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبثر, عن حصين, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى «ح» وحدثنـي الـحرث, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: بأيّامِ اللّهِ قال: بنعم الله.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
15640ـ حدثنـي الـمثنى, قال: أخبرنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال: بـالنعم التـي أنعم بها علـيهم: أنـجاهم من آل فرعون, وفلق لهم البحر, وظلّل علـيهم الغمام, وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى.
15641ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا حبـيب بن حسان, عن سعيد بن جبـير: وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال: بنعم الله.
15642ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ يقول: ذكرهم بنعم الله علـيهم.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَذَكّرْهُمْ بأيامِ الله قال: بنعم الله.
15643ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله: وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال: أيامه التـي انتقم فـيها من أهل معاصيه من الأمـم خوْفهم بها, وحذّرهم إياها, وذكّرهم أن يصيبهم ما أصاب الذين من قبلهم.
15644ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحِمّانـي, قال: حدثنا مـحمد بن أبـان, عن أبـي إسحاق, عن سعد بن جبـير, عن ابن عبـاس. عن أُبَـيّ, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم: وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال: «نِعَم اللّه».
15645ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن الثوري, عن عبـيد الله أو غيره, عن مـجاهد: وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال: بنعم الله. إنّ فِـي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّـارٍ شَكُورٍ يقول: إن فـي الأيام التـي سلفت بنعمي علـيهم, يعنـي علـى قوم موسى لاَيات, يعنـي: لعبرا ومواعظَ لكل صبّـار شكور: يقول: لكلّ ذي صبر علـى طاعة الله وشكر له علـى ما أنعم علـيه من نعمه.
15646ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عن عمرو, عن سعيد, عن قتادة, فـي قول الله عزّ وجلّ: إنّ فِـي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّـارٍ شَكُورٍ قال: نَعْم العبد, عبد إذا ابتلـى صبر وإذا أُعطى شكر