تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 260 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 260

260 : تفسير الصفحة رقم 260 من القرآن الكريم

** وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَـَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن نّعْبُدَ الأصْنَامَ * رَبّ إِنّهُنّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مّنَ النّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ
يذكر تعالى في هذا المقام محتجاً على مشركي العرب بأن البلد الحرام بمكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له, وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرأ ممن عبد غير الله, وأنه دعا لمكة بالأمن فقال: {رب اجعل هذا البلد آمن} وقد استجاب الله له فقال تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمن} الاَية, وقال تعالى: {إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمن} وقال في هذه القصة {رب اجعل هذا البلد آمن} فعرفه لأنه دعا به بعد بنائها, ولهذا قال: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة, فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة فإنه دعا أيضاً فقال: {رب اجعل هذا البلد آمن} كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطوّلاً.
وقوله: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته, ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس, وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم, كقول عيسى عليه السلام {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك. وقال عبد الله بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جرير, عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} الاَية, وقول عيسى عليه السلام {إن تعذبهم فإنهم عبادك} الاَية, ثم رفع يديه ثم قال: «اللهم, أمتي, اللهم أمتي, اللهم أمتي» وبكى فقال الله: اذهب يا جبريل إلى محمد, وربك أعلم, وسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله, فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال, فقال الله: اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.

** رّبّنَآ إِنّيَ أَسْكَنتُ مِن ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ رَبّنَا لِيُقِيمُواْ الصّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النّاسِ تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها, وذلك قبل بناء البيت, وهذا كان بعد بنائه تأكيداً ورغبة إلى الله عز وجل, ولهذا قال: {عند بيتك المحرّم}. وقوله: {ربنا ليقيموا الصلاة} قال ابن جرير: هو متعلق بقوله {المحرّم} أي إنما جعلته محرماً ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره: لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم, ولكن قال: {من الناس} فاختص به المسلمون وقوله: {وارزقهم من الثمرات} أي ليكون ذلك عوناً لهم على طاعتك, وكما أنه واد غير ذي زرع فاجعل له ثماراً يأكلونها, وقد استجاب الله ذلك كما قال: {أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدن} وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه السلام.

** رَبّنَآ إِنّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ * الْحَمْدُ للّهِ الّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنّ رَبّي لَسَمِيعُ الدّعَآءِ * رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصّلاَةِ وَمِن ذُرّيَتِي رَبّنَا وَتَقَبّلْ دُعَآءِ * رَبّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ
قال ابن جرير: يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم خليله أنه قال: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن} أي أنت تعلم قصدي في دعائي, وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد, وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك, فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها, لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء, ثم حمد ربه عز وجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر, فقال: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} أي إنه يستجيب لمن دعاه, وقد استجاب لي فيما سألته من الولد, ثم قال: {رب اجعلني مقيم الصلاة} أي محافظاً عليها مقيماً لحدودها {ومن ذرّيتي} أي واجعلهم كذلك مقيمين لها {ربنا وتقبل دعاء} أي فيما سألتك فيه كله {ربنا اغفر لي ولوالدي} وقرأ بعضهم: ولوالدي بالإفراد وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله عز وجل {وللمؤمنين} أي كلهم {يوم يقوم الحساب} أي يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

** وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إِنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ
يقول تعالى: ولا تحسبن الله يا محمد غافلاً عما يعمل الظالمون, أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم, بل هو يحصي ذلك ويعده عليهم عداً {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} أي من شدة الأهوال يوم القيامة, ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر, فقال: {مهطعين} أي مسرعين, كما قال تعالى: {مهطعين إلى الداع} الاَية, وقال تعالى: {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له ـ إلى قوله ـ وعنت الوجوه للحي القيوم}, وقال تعالى: {يوم يخرجون من الأجداث سراع} الاَية. وقوله {مقنعي رؤوسهم} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: رافعي رؤوسهم {لا يرتد إليهم طرفهم} أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر, لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم, عياذاً بالله العظيم من ذلك, ولهذا قال: {وأفئدتهم هواء} أي وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف, ولهذا قال قتادة وجماعة: إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف. وقال بعضهم: هي خراب لا تعي شيئاً لشدة ما أخبر به تعالى عنهم, ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:)