تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 261 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 261

261 : تفسير الصفحة رقم 261 من القرآن الكريم

** وَأَنذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ رَبّنَآ أَخّرْنَآ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ نّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتّبِعِ الرّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوَاْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـَكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ
يقول تعالى مخبراً عن الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب: {ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل} كقوله {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون} الاَية, وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم} الاَيتين, وقال تعالى مخبراً عنهم في حال محشرهم {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم} الاَية, وقال: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربن} الاَية, وقال تعالى: {وهم يصطرخون فيه} الاَية, قال تعالى رداً عليهم في قولهم هذا {أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال} أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذلك, قال مجاهد وغيره {ما لكم من زوال} أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الاَخرة, كقوله {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} الاَية, {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال} أي قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر, ولم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر {حكمة بالغة فما تغني النذر} وقد روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن أن علياً رضي الله عنه قال في هذه الاَية {وإِن كان مكرهم لتزول منه الجبال} قال: أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين, فرباهما حتى استغلظا واستفحلا وشبا, قال: فأوثق رجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت وجوعهما, وقعد هو ورجل آخر في التابوت, قال: ورفع في التابوت عصاً على رأسه اللحم فطارا, وجعل يقول لصاحبه: انظر ما ترى ؟ قال: أرى كذا وكذا حتى قال أرى الدنيا كلها كأنها ذباب. قال: فصوب العصا, فصوبها فهبطا جميعاً, قال: فهو قوله عز وجل: {وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال}.
قال أبو إسحاق: وكذلك هي في قراءة عبد الله {وإن كاد مكرهم} قلت: وكذا روي عن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قرآ {وإن كاد} كما قرأ علي, وكذا رواه سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن أذنان عن علي فذكر نحوه, وكذا روي عن عكرمة أن سياق هذه القصة للنمروذ ملك كنعان أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر, كما رام فرعون ملك القبط في بناء الصرح فعجزا وضعفا, وهما أقل وأحقر وأصغر وأدحر, وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها, نودي أيها الطاغية أين تريد ؟ ففرق ثم سمع الصوت فوقه, فصوب الرماح فصوبت النسور, ففزعت الجبال من هدتها, وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك, فذلك قوله: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}.
ونقل ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها {لتزول منه الجبال} بفتح اللام الأولى وضم الثانية, وروى العوفي عن ابن عباس في قوله: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} يقول: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال, وكذا قال الحسن البصري, ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به, ما ضر شيئاً من الجبال ولا غيرها, وإِنما عاد وبال ذلك عليهم, قلت: ويشبه هذا قول الله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طول}, والقول الثاني في تفسيرها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} يقول: شركهم كقوله: {تكاد السموات يتفطرن منه} الاَية, وهكذا قال الضحاك وقتادة.

** فَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ
يقول تعالى مقرراً لوعده ومؤكداً: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله} أي من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد, ثم أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يغالب, وذو انتقام ممن كفر به وجحده {ويل يومئذ للمكذبين}, ولهذا قال: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض, وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة, كما جاء في الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ ليس فيها معلم لأحد».
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق, عن عائشة أنها قالت: أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} قالت: قلت أين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال: «على الصراط», رواه مسلم منفرداً به دون البخاري, والترمذي وابن ماجه من حديث داود بن أبي هند به, وقال الترمذي: حسن صحيح, ورواه أحمد أيضاً عن عفان عن وهيب عن داود, عن الشعبي عنها, ولم يذكر مسروقاً. وقال قتادة عن حسان بن بلال المزني عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} قالت: قلت يا رسول الله, فأين الناس يومئذ ؟ قال: «لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي, ذاك أن الناس على جسر جهنم».
وروى الإمام أحمد من حديث حبيب بن أبي عمرة عن مجاهد, عن ابن عباس حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} فأين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال: «هم على متن جهنم». وقال ابن جرير: حدثنا الحسن, حدثنا علي بن الجعد, أخبرنا القاسم, سمعت الحسن قال: قالت عائشة: يا رسول الله {يوم تبدل الأرض غير الأرض} فأين الناس يومئذ ؟ قال: «إن هذا شيء ما سألني عنه أحد ـ قال ـ على الصراط يا عائشة», ورواه أحمد عن عفان عن القاسم بن الفضل, عن الحسن به.
وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثني الحسن بن علي الحلواني, حدثني أبو توبة الربيع بن نافع, حدثنا معاوية بن سلام عن زيد يعني أخاه أنه سمع أبا سلام, حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه قال: كنت نائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاءه حبر من أحبار اليهود, فقال: السلام عليك يا محمد, فدفعته دفعة كاد يصرع منها, فقال: لم تدفعني ؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله ؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي» فقال اليهودي: جئت أسألك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أينفعك شيئاً إن حدثتك ؟» قال: أسمع بأذني, فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال: «سل» فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم في الظلمة دون الجسر» قال: فمن أول الناس إجازة ؟ فقال: «فقراء المهاجرين», فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة ؟ قال: «زيادة كبد النون» قال: فما غذائهم في أثرها ؟ قال: «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» قال: فما شرابهم عليه ؟ قال «من عين فيها تسمى سلسبيلاً». قال: صدقت, قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال «أينفعك إن حدثتك ؟} قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد, قال: «ماء الرجل أبيض, وماء المرأة أصفر, فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل منيّ المرأة, أذكرا بإِذن الله تعالى, وإذا علا منيّ المرأة مني الرجل, أنثا بإذن الله» قال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه, وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به».
قال أبو جعفر بن جرير الطبري: حدثنا ابن عوف, حدثنا أبو المغيرة, حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي, عن أبي أيوب الأنصاري أن حبراً من اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذ يقول الله تعالى في كتابه: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} فأين الخلق عند ذلك ؟ فقال: «أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه» ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به. وقال شعبة: أخبرنا أبو إسحاق, سمعت عمرو بن ميمون, وربما قال: قال عبد الله, وربما لم يقل, فقلت له عن عبد الله فقال: سمعت عمرو بن ميمون يقول: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} قال: أرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة, ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي حفاة عراة كما خلقوا, قال: أراه قال قياماً حتى يلجمهم العرق. وروي من وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل عن أبي إسحاق, عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود بنحوه, وكذا رواه عاصم عن زر عن ابن مسعود به. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون: لم يخبر به, أورد ذلك كله ابن جرير.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل, حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب, حدثنا جرير بن أيوب عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} قال: أرض بيضاء لم يسفك عليها دم, ولم يعمل عليها خطيئة» ثم قال: لا نعلم رفعه إلا جرير بن أيوب, وليس بالقوي, ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا معاوية بن هشام عن سنان عن جابر الجعفي, عن أبي جبيرة عن زيد قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال: «هل تدرون لم أرسلت إليهم ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: «فإني أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله {يوم تبدل الأرض غير الأرض} إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة» فلما جاءوا سألهم, فقالوا: تكون بيضاء مثل النقي, وهكذا روي عن علي وابن عباس وأنس بن مالك ومجاهد بن جبر أنها تبدل يوم القيامة بأرض بيضاء من فضة. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: تصير الأرض فضة والسموات ذهباً. وقال الربيع عن أبي العالية بن كعب, قال: تصير السموات جناناً. وقال أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي أو عن محمد بن قيس في قوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} قال: خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم, وكذا روى وكيع عن عمر بن بشير الهمداني عن سعيد بن جبير في قوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} قال: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.
وقال الأعمش عن خيثمة قال: قال عبد الله بن مسعود: الأرض يوم القيامة كلها نار, والجنة من ورائها ترى كواعبها, وأكوابها, ويلجم الناس العرق أو يبلغ منهم العرق, ولم يبلغوا الحساب. وقال الأعمش أيضاً عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن قال: قال عبد الله: الأرض كلها نار يوم القيامة, والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها, والذي نفس عبد الله بيده, إن الرجل ليفيض عرقاً حتى ترسخ في الأرض قدمه, ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب, قالوا: مم ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: مما يرى الناس ويلقون. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن كعب في قوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} قال: تصير السموات جناناً, ويصير مكان البحر ناراً, وتبدل الأرض غيرها. وفي الحديث الذي رواه أبو داود «لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر, فإن تحت البحر ناراً ـ أو تحت النار بحراً ـ» وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي, لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً, ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة». وقوله: {وبرزوا لله} أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله {الواحد القهار} أي الذي قهر كل شيء وغلبه ودانت له الرقاب وخضعت له الألباب.

** وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مّقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىَ وُجُوهَهُمْ النّارُ * لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
يقول تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} وتبرز الخلائق لديانها, ترى يا محمد يومئذ المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم {مقرنين} أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف, كما قال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} وقال: {وإذا النفوس زوّجت} وقال: {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبور} وقال: {والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد} والأصفاد هي القيود, قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش وعبد الرحمن بن زيد, وهو مشهور في اللغة, قال عمرو بن كلثوم:
آبوا بالثياب وبالسبايا
وأبنا بالملوك مصفدينا
وقوله: {سرابيلهم من قطران} أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران, وهو الذي تهنأ به الإبل أي تطلى, قال قتادة: وهو ألصق شيء بالنار. ويقال فيه: قطران بفتح القاف وكسر الطاء وتسكينها, وبكسر القاف وتسكين الطاء, ومنه قول أبي النجم:
كأن قطراناً إذا تلاهاترمي به الريح إلى مجراها
وكان ابن عباس يقول: القطران هنا النحاس المذاب, وربما قرأها {سرابيلهم من قطران} أي من نحاس حار قد انتهى حره, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة. وقوله: {وتغشى وجوههم النار} كقوله: {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون} وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن إسحاق, أنبأنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام, عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من أمر الجاهلية لا يتركن: الفخر بالأحساب, والطعن في الأنساب, والاستسقاء بالنجوم, والنياحة على الميت, والنائحة إذا لم تتب قبل موتها, تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» انفرد بإخراجه مسلم. وفي حديث القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النائحة إذا لم تتب توقف في طريق بين الجنة والنار سرابيلها من قطران وتغشى وجهها النار».
وقوله: {ليجزي الله كل نفس ما كسبت} أي يوم القيامة كما قال: {ليجزي الذين أساءوا بما عملو} الاَية {إن الله سريع الحساب} يحتمل أن يكون كقوله تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النجاز لأنه يعلم كل شيء, ولا يخفى عليه خافية, وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم, كقوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} وهذا معنى قول مجاهد {سريع الحساب} إحصاء ويحتمل ان يكون المعنيان مرادين, والله أعلم.

** هَـَذَا بَلاَغٌ لّلنّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوَاْ أَنّمَا هُوَ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذّكّرَ أُوْلُواْ الألْبَابِ
يقول تعالى هذا القرآن بلاغ للناس كقوله: {لأنذركم به ومن بلغ} أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن كما قال في أول السورة: {الر * كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} الاَية, {ولينذروا به} أي ليتعظوا به {وليعلموا أنما هو إله واحد} أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو {وليذكر أولو الألباب} أي ذوي العقول.
آخر تفسير سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام, والحمد لله رب العالمين.