تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 268 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 268

268 : تفسير الصفحة رقم 268 من القرآن الكريم

** وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده يمتن به عليهم, وهو الخيل والبغال والحمير التي جعلها للركوب والزينة بها, وذلك أكبر المقاصد منها, ولما فصلها من الأنعام, وأفردها بالذكر, استدل من استدل من العلماء ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل بذلك على ما ذهب إليه فيها, كالإمام أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه من الفقهاء بأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير وهي حرام, كما ثبتت به السنة النبوية, وذهب إليه أكثر العلماء.وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية, أنبأنا هشام الدستوائي, حدثنا يحيى بن أبي كثير عن مولى نافع بن علقمة, أنّ ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير, وكان يقول: قال الله تعالى:{والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} فهذه للأكل,{والخيل والبغال والحمير لتركبوه} فهذه للركوب, وكذا روي من طريق سعيد بن جبير وغيره عن ابن عباس بمثله, وقال مثل ذلك الحكم بن عتيبة أيضاً رضي الله عنه, واستأنسوا بحديث رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يزيد بن عبد ربه, حدثنا بقية بن الوليد, حدثنا ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب , عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: نهى رسول اللهصلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث صالح بن يحيى بن المقدام وفيه كلام.
ورواه أحمد أيضاً من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال: حدثنا أحمد بن عبد الملك, حدثنا محمد بن حرب, حدثنا سليمان بن سليم, عن صالح بن يحيى بن المقدام عن جده المقدام بن معد يكرب قال: غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة, فقرم أصحابنا إلى اللحم فسألوني رمكة فدفعتها إليهم, فحبلوها وقلت: مكانكم حتى آتي خالداً فأسأله فأتيته فسألته, فقال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر فأسرع الناس في حظائر يهود فأمرني أن أنادي الصلاة جامعة, ولا يدخل الجنة إلا مسلم, ثم قال: «أيها الناس: إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود, ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها وحرام عليكم لحوم الأتن الأهلية وخيلها وبغالها, وكل ذي ناب من السباع, وكل ذي مخلب من الطير» والرمكة هي الحجرة, وقوله حبلوها أي أوثقوها في الحبل ليذبحوها, والحظائر والبساتين القريبة من العمران, وكأن هذا الصنيع وقع بعد إعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر,والله أعلم, فلو صح هذا الحديث لكان نصاً في تحريم لحوم الخيل, ولكن لا يقاوم ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية, وأذن في لحوم الخيل.
ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير, فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل. وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه ونحن بالمدينة, فهذه أدل وأقوى وأثبت, وإلى ذلك صار جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وأكثر السلف والخلف, والله أعلم. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانت الخيل وحشية, فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام, وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب, والله أعلم. فقد دل النص على جواز ركوب هذه الدواب ومنها البغال, وقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فكان يركبها مع أنه قد نهى عن إنزاء الحمر على الخيل لئلا ينقطع النسل. قال الإمام أحمد: حدثني محمد بن عبيد, حدثنا عمر من آل حذيفة عن الشعبي عن دحية الكلبي قال: قلت يا رسول الله, ألاأحمل لك حماراً على فرس فتنتج لك بغلاً فتركبها ؟ قال: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون».

** وَعَلَىَ اللّهِ قَصْدُ السّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية, نبه على الطرق المعنوية الدينية, وكثيراً ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية, كقوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}, وقال تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير} ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم, وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة, شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه, فبين أن الحق منها ما هي موصلة إليه فقال: {وعلى الله قصد السبيل} كقوله {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} وقال: {قال هذا صراط عليّ مستقيم}.
قال مجاهد في قوله: {وعلى الله قصد السبيل} قال: طريق الحق على الله, وقال السدي, {وعلى الله قصد السبيل} الإسلام. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {وعلى الله قصد السبيل} يقول: وعلى الله البيان, أي يبين الهدى والضلالة. وكذا روى علي بن أبي طلحة عنه, وكذاقال قتادة والضحاك, وقول مجاهد ههنا أقوى من حيث السياق, لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقاً تسلك إليه, فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق وهي الطريق التي شرعها ورضيها, وما عداها مسدودة والأعمال فيها مردودة, ولهذا قال تعالى: {ومنها جائر} أي حائد مائل زائغ عن الحق. قال ابن عباس وغيره: هي الطرق المختلفة والاَراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية, وقرأ ابن مسعود {ومنكم جائر} ثم أخبر تعالى أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته, فقال: {ولو شاء لهداكم أجمعين} كما قال تعالى: {ولو شاء ربك لاَمن من في الأرض كلهم جميع} وقال: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.

** هُوَ الّذِي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَآءً لّكُم مّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزّرْعَ وَالزّيْتُونَ وَالنّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ
لما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب شرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء وهو العلو مما لهم فيه بلغة ومتاع لهم ولأنعامهم, فقال: {لكم منه شراب} أي جعله عذباً زلالاً يسوغ لكم شرابه, ولم يجعله ملحاً أجاجاً {ومنه شجر فيه تسيمون}: أي وأخرج لكم منه شجراً ترعون فيه أنعامكم. كما قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد في قوله فيه تسيمون, أي ترعون ومنه الإبل السائمة, والسوم: الرعي. وروى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السوم قبل طلوع الشمس.
وقوله: {ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها, ولهذا قال: {إن في ذلك لاَية لقوم يتفكرون} أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله, كما قال تعالى: {أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ؟ أإله مع الله ؟ بل هم قوم يعدلون}, ثم قال تعالى:)

** وَسَخّرَ لَكُمُ اللّيْلَ وَالْنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنّجُومُ مُسَخّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَذّكّرُونَ
ينبه تعالى عباده على آياته العظام ومننه الجسام في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان, والشمس والقمر يدوران, والنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السموات نوراً وضياء ليهتدى بها في الظلمات, وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه, يسير بحركة مقدرة لا يزيد عليها ولا ينقص عنها, والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسهيله, كقوله: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} ولهذا قال: {إن في ذلك لاَيات لقوم يعقلون} أي لدلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه.
وقوله: {وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه} لما نبه تعالى على معالم السموات نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة, والأشياء المختلفة من الحيوانات والمعادن, والنباتات والجمادات على اختلاف ألوانها وأشكالها, وما فيها من المنافع والخواص {إن في ذلك لاَية لقوم يذكرون} أي آلاء الله ونعمه فيشكرونها.