تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 269 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 269

269 : تفسير الصفحة رقم 269 من القرآن الكريم

** وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لّعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكّرُونَ * وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنّ اللّهَ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ
يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج, ويمتن على عباده بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه, وجعله السمك والحيتان فيه, وإحلاله لعباده لحمها حيها وميتها في الحل والإحرام, وما يخلقه فيه من اللاَلىء والجواهر النفيسة, وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حلية يلبسونها, وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره أي تشقه, وقيل تمخر الرياح, وكلاهما صحيح, وقيل تمخره بجؤجئها وهو صدرها المسنم ـ الذي أرشد العباد إلى صنعتها وهداهم إلى ذلك إرثاً عن أبيهم نوح عليه السلام, فإنه أول من ركب السفن, وله كان تعليم صنعتها, ثم أخذها الناس عنه قرناً بعد قرن, وجيلاً بعد جيل, يسيرون من قطر إلى قطر, ومن بلد إلى بلد, ومن إقليم إلى إقليم, لجلب ما هناك إلى ما هنا, وما هنا إلى ما هناك, ولهذا قال تعالى: {ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} أي نعمه وإحسانه.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية البغدادي, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو عن سهل بن أبي صالح عن أبيه, عن أبي هريرة قال: كلم الله البحر الغربي وكلم البحر الشرقي, فقال للبحر الغربي: إني حامل فيك عباداً من عبادي, فكيف أنت صانع فيهم ؟ قال: أغرقهم, فقال: بأسك في نواحيك, وأحملهم على يدي, وحرمت الحلية والصيد, وكلم هذا البحر الشرقي فقال: إني حامل فيك عباداً من عبادي فما أنت صانع بهم ؟ فقال: أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها, فأثابه الحلية والصيد, ثم قال البزار: لا نعلم من رواه عن سهل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو, وهو منكر الحديث. وقد رواه سهل عن النعمان بن أبي عياش عن عبد الله بن عمر موقوفاً.
ثم ذكر تعالى الأرض وما ألقى فيها من الرواسي الشامخات, والجبال الراسيات, لتقر الأرض ولا تميد, أي تضطرب بما عليها من الحيوانات فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك, ولهذا قال: {والجبال أرساه} وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة, سمعت الحسن يقول: لما خلقت الأرض كانت تميد, فقالوا: ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً, فأصبحوا وقد خلقت الجبال, فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وقال سعيد عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة أن الله لما خلق الأرض جعلت تمور, فقالت الملائكة: ما هذه بمقرة على ظهرهاأحداً فأصبحت صبحاً وفيها رواسيها. وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثني حجاج بن منهال, حدثنا حماد عن عطاء بن السائب, عن عبد الله بن حبيب, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما خلق الله الأرض قَمصت وقالت: أي رب تجعل علي بني آدم يعملون الخطايا ويجعلون علي الخبث ؟ قال: فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون, فكان إقرارهاكاللحم يترجرج.
وقوله: {وأنهاراً وسبل} أي جعل فيها أنهاراً تجري من مكان إلى مكان آخر رزقاً للعباد, ينبع في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر, فيقطع البقاع والبراري والقفار, ويخترق الجبال والاَكام, فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة, وجنوباً وشمالاً. وشرقاً وغرباً, ما بين صغار وكبار, وأودية تجري حيناً وتنقطع في وقت, وما بين نبع وجمع , وقوي السير وبطئه بحسب ما أراد وقدر وسخر ويسر, فلا إله إلا هو ولا رب سواه, وكذلك جعل فيها سبلاً أي طرقاً يسلك فيها من بلاد إلى بلاد حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممراً ومسلكاً, كما قال تعالى: {وجعلنا فيها فجاجاً سبل} الاَية.
وقوله: {وعلامات} أي دلائل من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك , يستدل بها المسافرون براً وبحراً إذا ضلوا الطرق. وقوله: {وبالنجم هم يهتدون} أي في ظلام الليل, قاله ابن عباس, وعن مالك في قوله: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} يقول: النجوم وهي الجبال, ثم نبه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئاً بل هم يخلقون, ولهذا قال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق ؟ أفلا تذكرون} ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم, فقال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} أي يتجاوز عنكم, ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك, ولو أمركم به لضعفتم وتركتم, ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم, ولكنه غفور رحيم, يغفر الكثير ويجازي على اليسير, وقال ابن جرير: يقول إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته, رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة.

** وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ
يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر, وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة, إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون, كما قال الخليل: {أتعبدون ما تنحتون ؟ والله خلقكم وما تعملون}. وقوله: {أموات غير أحياء} أي هي جمادات لا أرواح فيها,فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل {وما يشعرون أيان يبعثون} أي لا يدرون متى تكون الساعة, فكيف يرتجى عند هذه نفع أوثواب أو جزاء ؟ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء وهو خالق كل شيء.

** إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ قُلُوبُهُم مّنكِرَةٌ وَهُم مّسْتَكْبِرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ
يخبر تعالى أنه لا إله هو الواحد الأحد الفرد الصمد, وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك, كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك {أجعل الاَلهة إلهاً واحداً ؟ إن هذا لشيء عجاب} وقال تعالى: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاَخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} وقوله: {وهم مستكبرون} أي عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده كما قال: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} ولهذا قال ههنا {لا جرم} أي حقاً {أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء {إنه لا يحب المستكبرين}.

** وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ
يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء المكذبين {ماذا أنزل ربكم قالو} معرضين عن الجواب {أساطير الأوّلين} أي لم ينزل شيئاً, إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين, أي مأخوذ من كتب المتقدمين, كما قال تعالى: {وقالوا أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيل} أي يفترون على الرسول ويقولون أقوالاً متضادة مختلفة كلها باطلة, كما قال تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيل} وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ, وكانوا يقولون: ساحر وشاعر وكاهن ومجنون, ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي لما {فكر وقدّر, فقتل كيف قدّر, ثم قتل كيف قدّر, ثم نظر, ثم عبس وبسر, ثم أدبر واستكبر, فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} أي ينقل ويحكى, فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله قال تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} أي إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم, وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم, كما جاء في الحديث {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه, لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه, لا ينقص ذلك من آثامهم شيئ} وقال تعالى: {وليحملّن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} وهكذا روى العوفي عن ابن عباس في الاَية {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} أنها كقوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} وقال مجاهد: يحملون أثقالهم ذنوبهم وذنوب من أطاعهم, ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً.

** قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسّوَءَ عَلَى الْكَافِرِينَ
قال العوفي عن ابن عباس في قوله: {قد مكر الذين من قبلهم} قال: هو النمرود الذي بنى الصرح, قال ابن أبي حاتم وروي عن مجاهد نحوه. وقال عبد الرزاق عن معمر, عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض النمرود, فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره, فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق, وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه وكان جباراً أربعمائة سنة, فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه, ثم أماته, وهو الذي بنى الصرح إلى السماء الذي قال الله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} وقال آخرون: بل هو بختنصر, وذكروا من المكر الذي حكاه الله ههنا كما قال في سورة إبراهيم {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} وقال آخرون: هذا من باب المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره, كما قال نوح عليه السلام: {ومكروا مكراً كبار} أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة, كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة: {بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداد} الاَية.
وقوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم, كقوله تعالى: {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله}, وقوله: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار}, وقال الله ههنا: {فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم} أي يظهر فضائحهم, وما كانت تجنه ضمائرهم فيجعله علانية, كقوله تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي تظهر وتشتهر كما في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدرته, فيقال هذه غدرة فلان بن فلان» وهكذا يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ويخزيهم الله على رؤوس الخلائق ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعاً لهم وموبخاً {أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم} تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم ههنا ؟ {هل ينصرونكم أو ينتصرون} {فما له من قوة ولا ناصر} فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة, وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار {قال الذين أوتوا العلم} وهم السادة في الدنيا والاَخرة, والمخبرون عن الحق في الدنيا والاَخرة, فيقولون حينئذ: {إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه.