تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 357 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 357

357 : تفسير الصفحة رقم 357 من القرآن الكريم

** وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَىَ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض, أي أئمة الناس والولاة عليهم, وبهم تصلح البلاد, وتخضع لهم العباد. وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم, وقد فعله تبارك وتعالى, وله الحمد والمنة, فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها, وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام, وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس, وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة, قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق, فلمّ شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلم, وأَطّدَ جزيرة العرب ومهدها, وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه, ففتحوا طرفاً منها, وقتلوا خلقاً من أهلها. وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام, وثالثاً صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر, ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها وتوفاه الله عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة.
ومنّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق, فقام بالأمر بعده قياماً تاماً, لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله. وتمّ في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس. وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته, وقصر قيصر, وانتزع يده عن بلاد الشام, وانحدر إلى القسطنطينية, وأنفق أموالهما في سبيل الله, كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله, عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها, ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص, وبلاد القيروان, وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط, ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين, وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية, وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز, وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً, وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان, وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه, وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن, ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها, ويبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها» فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله, وصدق الله ورسوله فنسأل الله الإيمان به وبرسوله, والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً» ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني, فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قال «كلهم من قريش». ورواه البخاري من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير به, وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك, وذكر معه أحاديث أخر, وفي هذا الحديث دلالة على أنه لابد من وجود اثني عشر خليفة عادلاً وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر, فإن كثيراً من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء, فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون, وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة, ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين, بل يكون وجودهم في الأمة متتابعاً ومتفرقاً, وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر, ثم عمر, ثم عثمان, ثم علي رضي الله عنه, ثم كانت بعدهم فترة, ثم وجد منهم من شاء الله, ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى. ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكنيته كنيته, يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الخلافة بعدي ثلاثون سنة, ثم تكون ملكاً عضوضاً» وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمن} الاَية, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً, وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة, فقدموها فأمرهم الله بالقتال, فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح, فغبروا بذلك ما شاء الله, ثم إن رجلاً من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة» وأنزل الله هذه الاَية, فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب, فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله تعالى قبض نبيه صلى الله عليه وسلم, فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه, فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط وغيروا فغير بهم, وقال بعض السلف: خلافة أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله, ثم تلا هذه الاَية.
وقال البراء بن عازب: نزلت هذه الاَية ونحن في خوف شديد, وهذه الاَية الكريمة كقوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل متسضعفون في الأرض ـ إلى قوله ـ لعلكم تشكرون}. وقوله تعالى: {كما استخلف الذين من قبلهم} كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض} الاَية, وقال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} الاَيتين.
وقوله {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} الاَية, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه «أتعرف الحيرة ؟» قال: لم أعرفها, ولكن قد سمعت بها. قال «فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد, ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز, قال «نعم كسرى بن هرمز, وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد». قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد, ولقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز, والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سفيان عن أبي سلمة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض, فمن عمل منهم عمل الاَخرة للدنيا لم يكن له في الاَخرة نصيب». وقوله تعالى: {يعبدونني لا يشركون بي شيئ} قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس أن معاذ بن جبل حدثه قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل, قال «يا معاذ». قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك, قال: ثم سار ساعة, ثم قال «يا معاذ بن جبل». قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك, ثم سار ساعة, ثم قال «يا معاذ بن جبل». قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال «هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قلت: الله ورسوله أعلم.. قال «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً». قال: ثم سار ساعة, ثم قال «يا معاذ بن جبل». قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال «فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟» قال: قلت الله ورسوله أعلم. قال «فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم», أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.
وقوله تعالى: {ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه, وكفى بذلك ذنباً عظيماً, فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل وأطوعهم لله, كان نصرهم بحسبهم أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب, وأيدهم تأييداً عظيماً, وحكموا في سائر العباد والبلاد, ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم, ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة ـ وفي رواية حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ـ وفي رواية ـ حتى يقاتلوا الدجال ـ وفي رواية ـ حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون» وكل هذه الروايات صحيحة, ولا تعارض بينها. )

** وَأَقِيمُواْ الصّـلاَةَ وَآتُواْ الزّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بإقامة الصلاة, وهي عبادة الله وحده لا شريك له, وإيتاء الزكاة, وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم, وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي سالكين وراءه فيما به أمرهم, وتاركين ما عنه زجرهم, لعل الله يرحمهم بذلك, ولا شك أن من فعل هذا, أن الله سيرحمه, كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {أولئك سيرحمهم الله}. وقوله تعالى: {لا تحسبن} أي لا تظن يا محمد أن {الذين كفرو} أي خالفوك وكذبوك {معجزين في الأرض} أي لا يعجزون الله, بل الله قادر عليهم وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب, ولهذا قال تعالى: {ومأواهم} أي في الدار الاَخرة {النار ولبئس المصير} أي بئس المآل مآل الكافرين, وبئس القرار وبئس المهاد.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرّاتٍ مّن قَبْلِ صَـلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَآءِ الّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لّهُنّ وَاللّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ
هذه الاَيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض, وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض, فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال (الأول) من قبل صلاة الغداة, لأن الناس إذ ذاك يكونون نياماً في فرشهم {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} اي في وقت القيلولة, لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله {ومن بعد صلاة العشاء} لأنه وقت النوم, فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال, ولهذا قال {ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن} أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال, فلا جناح عليكم في تمكينكم من ذلك إياهم ولا عليهم إن رأوا شيئاً في غير تلك الأحوال.لأنه قد أذن لهم في الهجوم, ولأنهم طوافون عليكم اي في الخدمة وغير ذلك. ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم, ولهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة «إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو والطوافات». ولما كانت هذه الاَية محكمة ولم تنسخ بشيء وكان عمل الناس بها قليلاً جداً, أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس.
كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثني عبد الله بن لهيعة, حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إلى آخر الاَية, والاَية التي في سورة النساء {وإذا حضر القسمة أولو القربى} الاَية, والاَية في الحجرات {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وروى أيضاً من حديث إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف, عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات فلم يعملوا بهن {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إلى آخر الاَية.
وروى أبو داود: حدثنا ابن الصباح وابن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه: أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن, وإني لاَمر جاريتي هذه تستأذن علي. قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به, وقال الثوري عن موسى بن أبي عائشة: سألت الشعبي {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} ؟ قال: لم تنسخ. قلت: فإن الناس لا يعملون بها. فقال: الله المستعان.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان, حدثنا ابن وهب, أخبرنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو, عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن, فقال ابن عباس: إن الله ستير يحب الستر. كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم, ولا حجال في بيوتهم, فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله, فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله. ثم جاء الله بعد بالستور, فبسط الله عليهم الرزق, فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال, فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس, ورواه أبو داود عن القعنبي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به.
وقال السدي: كان أناس من الصحابة رضي الله عنهم يحبون أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة, فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن, وقال مقاتل بن حيان: بلغنا ـ والله أعلم ـ أن رجلاً من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فجعل الناس يدخلون بغير إذن, فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا, إنه ليدخل على المرأة وزوجها ـ وهما في ثوب واحد ـ غلامهما بغير إذن, فأنزل الله في ذلك {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إلى آخرها, ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله {كذلك يبين الله لكم الاَيات والله عليم حكيم} ثم قال تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم} يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث, إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال, يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته, وإن لم يكن في الأحوال الثلاث.
قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: إذا كان الغلام رباعياً, فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه, فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال. وهكذا قال سعيد بن جبير. وقال في قوله {كما استأذن الذين من قبلهم} يعني كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه. وقوله {والقواعد من النساء} قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والضحاك وقتادة: هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد {اللاتي لا يرجون نكاح} أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة} أي ليس عليها من الحرج في التستر كما على غيرها من النساء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي, حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي, عن عكرمة عن ابن عباس {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} الاَية, فنسخ واستثنى من ذلك القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا الاَية, قال ابن مسعود في قوله {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن} قال: الجلباب أو الرداء وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والزهري والأوزاعي وغيرهم. وقال أبو صالح: تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار.
وقال سعيد بن جبير وغيره في قراءة عبد الله بن مسعود {أن يضعن من ثيابهن} وهو الجلباب من فوق الخمار, فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد ان يكون عليها خمار صفيق, وقال سعيد بن جبير في الاَية {غير متبرجات بزينة} يقول: لا يتبرجن بوضع الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عبد الله, حدثنا ابن المبارك حدثني سوار بن ميمون, حدثنا طلحة بن عاصم عن أم الضياء أنها قالت: دخلت على عائشة رضي الله عنها,فقلت: يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والنفاض والصباغ والقرطين والخلخال وخاتم الذهب وثياب الرقاق ؟ فقالت: يا معشر النساء قصتكن كلها واحدة, أحل الله لكن الزينة غير متبرجات, أي لا يحل لكن ان يروا منكن محرماً.
وقال السدي: كان شريك لي يقال له مسلم, وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان, فجاء يوماً إلى السوق وأثر الحناء في يده, فسألته عن ذلك فأخبرني أنه خضب رأس مولاته وهي امرأة حذيفة, فأنكرت ذلك, فقال: إن شئت ادخلتك عليها ؟ فقلت: نعم, فأدخلني عليها فإذا هي امرأة جليلة, فقلت لها: إن مسلماً حدثني أنه خضب لك رأسك ؟ فقالت: نعم يا بني إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً, وقد قال الله تعالى في ذلك ما سمعت. وقوله {وأن يستعففن خير لهن} أي وترك وضعهن لثيابهن وإن كان جائزاً خير وأفضل لهن {والله سميع عليم}.