تفسير الطبري تفسير الصفحة 357 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 357
358
356
 الآية : 54
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }.
يقول تعالـى ذكره: قُلْ يا مـحمد لهؤلاء الـمقسمين بـالله جهد أيـمانهم لئن أمرتهم لـيُخرجُنّ وغيرهم من أمتك: أطِيعُوا اللّهَ أيها القوم فـيـما أمركم به ونهاكم عنه. وأطِيعُوا الرّسُولَ فإن طاعته لله طاعة. فإن تَوَلّوْا يقول: فإن تُعْرِضوا وتُدْبِروا عما أمركم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نهاكم عنه, وتأبَوا أن تُذْعنوا لـحكمه لكم وعلـيكم. فإنّـمَا عَلَـيْهِ ما حُمّلَ يقول: فإنـما علـيه فعل ما أُمِر بفعله من تبلـيغ رسالة الله إلـيكم, علـى ما كلّفه من التبلـيغ. وَعَلَـيْكُمْ ما حُمّلْتُـمْ يقول: وعلـيكم أيها الناس أن تفعلوا ما أَلزمكم وأوجب علـيكم من اتبـاع رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلـى طاعته فـيـما أمركم ونهاكم.
وقلنا: إن قوله: فإنْ تَوَلّوْا بـمعنى: فإن تتولوا, فإنه فـي موضع جزم لأنه خطاب للذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ يدلّ علـى أن ذلك كذلك قوله: وَعَلَـيْكُمْ ما حُمّلْتـمْ, ولو كان قوله: تَوَلّوْا فعلاً ماضيا علـى وجه الـخبر عن غيب, لكان فـي موضع قوله: وَعَلَـيْكُمْ ما حُمّلْتُـمْ وَعَلَـيْهِمْ ما حُمّلُوا.
وقوله: وَإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا يقول تعالـى ذكره: وإن تطيعوا أيها الناس رسول الله فـيـما يأمركم وينهاكم, تَرْشُدوا وتصيبوا الـحقّ فـي أموركم. وَما عَلـى الرّسُولِ إلاّ البَلاغُ الـمُبِـينُ يقول: وغير واجب علـى من أرسله الله إلـى قوم برسالة إلا أن يبلّغهم رسالته بلاغا يبـين لهم ذلك البلاغ عما أراد الله به, يقول: فلـيس علـى مـحمد أيها الناس إلا أداء رسالة الله إلـيكم وعلـيكم الطاعة وإن أطعتـموه لـحظوظ أنفسكم تصيبون, وإن عصيتـموه بأنفْسكم فتوبقون.
الآية : 55
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَىَ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَعَدَ اللّهُ الّذِين آمَنُوا بـالله ورسوله مِنْكُمْ أيها الناس, وَعمِلُوا الصّالِـحاتِ يقول: وأطاعوا الله ورسوله فـيـما أمراه ونهياه لَـيَسْتَـخْـلِفَنّهُمْ فِـي الأرْضِ يقول: لَـيُورثنهم الله أرض الـمشركين من العرب والعجم, فـيجعلهم ملوكها وساستها. كمَا اسْتَـخْـلَفَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول: كما فعل من قبلهم ذلك ببنـي إسرائيـل, إذ أهلك الـجبـابرة بـالشأم وجعلهم ملوكها وسكانها. وَلَـيُـمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ يقول: ولـيوطئنّ لهم دينهم, يعنـي ملتهم التـي ارتضاها لهم فأمرهم بها. وقـيـل: وعد الله الذين آمنوا, ثم تلقـى ذلك بجواب الـيـمين بقوله: لَـيَسْتَـخْـلفنّهُمْ لأن الوعد قول يصلـح فـيه «أن», وجواب الـيـمين كقوله: وعدتك أن أكرمك, ووعدتك لأكرمنك.
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: كمَا اسْتَـخْـلَفَ فقرأته عامة القرّاء: كمَا اسْتَـخْـلَفَ بفتـح التاء واللام, بـمعنى: كما استـخـلف الله الذين من قبلهم من الأمـم. وقرأ ذلك عاصم: «كمَا اسْتُـخْـلِفَ» بضم التاء وكسر اللام, علـى مذهب ما لـم يْسَمّ فـاعله.
واختلفوا أيضا فـي قراءة قوله: وَلَـيُبَدّلَنّهُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم: وَلَـيُبْدّلنّهُمْ بتشديد الدال, بـمعنى: ولـيغّيرَنّ حالهم عما هي علـيه من الـخوف إلـى الأمن, والعرب تقول: قد بُدّل فلان: إذا غيرت حاله ولـم يأت مكان غيره, وكذلك كلّ مغير عن حاله فهو عندهم مبدّل بـالتشديد. وربـما قـيـل بـالتـخفـيف, ولـيس بـالفصيح. فأما إذا جعل مكان الشيء الـمبدل غيره, فذلك بـالتـخفـيف: أَبْدلته فهو مُبْدَل. وذلك كقولهم: أُبدل هذا الثوب: أي جُعِل مكانه آخر غيره, وقد يقال بـالتشديد غير أن الفصيح من الكلام ما وصفت. وكان عاصم يقرؤه: «وَلَـيُبْدِلَنّهُمْ» بتـخفـيف الدال.
والصواب من القراءة فـي ذلك: التشديد, علـى الـمعنى الذي وصفت قبلُ, لإجماع الـحجة من قرّاء الأمصار علـيه, وأن ذاك تغيـير حال الـخوف إلـى الأمن. وأرى عاصما ذهب إلـى أن الأمن لـما كان خلاف الـخوف وجّه الـمعنى إلـى أنه ذهب بحال الـخوف وجاء بحال الأمن, فخفّف ذلك.
ومن الدلـيـل علـى ما قلنا من أن التـخفـيف إنـما هو ما كان فـي إبدال شيء مكان آخر, قول أبـي النـجم:
عَزْلُ الأمِيرِ للأَمَيرِ الـمُبْدَلِ
وقوله: يَعْبُدُونَنـي يقول: يخضعون لـي بـالطاعة ويتذللون لأمري ونهيـي. لا يُشْرِكُونَ بِـي شَيْئا يقول: لا يشركون فـي عبـادتهم إياي الأوثان والأصنام ولا شيئا غيرها, بل يخـلصون لـي العبـادة فـيفردونها إلـيّ دون كلّ ما عُبد من شيء غيري. وذُكر أن هذه الآية نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل شكاية بعض أصحابه إلـيه فـي بعض الأوقات التـي كانوا فـيها من العدوّ فـي خوف شديد مـما هُمْ فـيه من الرّعب والـخوف وما يَـلْقَون بسبب ذلك من الأذى والـمكروه. ذكر الرواية بذلك:
19838ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قوله: وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِـحات... الآية, قال: مكث النبـيّ صلى الله عليه وسلم عَشْر سنـين خائفـا يدعو إلـى الله سرّا وعلانـية, قال: ثم أُمر بـالهجرة إلـى الـمدينة. قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفون, يُصبحون فـي السلاح ويُـمسون فـيه, فقال رجل: ما يأتـي علـينا يوم نأمن فـيه ونضع عنا السلاج فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: «لا تَغْبُرُونَ إلاّ يَسِيرا حتـى يَجْلِسَ الرّجُلُ مِنْكُمْ فِـي الـمَلإ العَظيـمِ مُـحْتَبِـيا فِـيهِ لَـيْسَ فِـيهِ حَدِيدَةٌ». فأنزل الله هذه الآية: وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ... إلـى قوله: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلكَ» قال: يقول: من كفر بهذه النعمة فَأُولَئِكَ هُمُ الفـاسقُونَ ولـيس يعنـي الكفر بـالله. قال: فأظهره الله علـى جزيرة العرب, فآمنوا, ثم تـجَبّروا, فغَيّر الله ما بهم. وكفروا بهذه النعمة, فأدخـل الله علـيهم الـخوف الذي كان رفعه عنهم قال القاسم: قال أبو علـيّ: بقتلهم عثمان بن عفـان رضي الله عنه.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الكفر الذي ذكره الله فـي قوله: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلكَ فقال أبو العالـية ما ذكرنا عنه من أنه كفر بـالنعمة لا كفر بـالله. ورُوى عن حُذيفة فـي ذلك ما:
19839ـ حدثنا به ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب بن أبـي الشعثاء, قال: كنت جالسا مع حُذيفة وعبد الله بن مسعود, فقال حُذيفة: ذهب النفـاق, وإنـما كان النفـاق علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنـما هو الكفر بعد الإيـمان قال: فضحك عبد الله, فقال: لـم تقول ذلك؟ قال: علـمت ذلك, قال: وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحاتِ لَـيَسْتَـخْـلِفَنّهُمْ فِـي الأرْضِ... حتـى بلغ آخرها.
19840ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي الشّعْثاء, قال: قعدت إلـى ابن مسعود وحُذيفة, فقال حذيفة: ذهب النّفـاق فلا نفـاق, وإنـما هو الكفر بعد الإيـمان فقال عبد الله: تعلـم ما تقول؟ قال: فتلا هذه الآية: إنّـمَا كانَ قَوْلَ الـمُؤْمِنِـينَ... حتـى بلغ: فَأُولَئِكَ هُمُ الفـاسقُونَ قال: فضحك عبد الله. قال: فلقـيت أبـا الشعثاء بعد ذلك بأيام, فقلت: من أيّ شيء ضحك عبد الله؟ قال: لا فلقـيت أبـا الشعثاء بعد ذلك بأيام, فقلت: من أيّ شيء ضحك عبد الله؟ قال: لا أدري, إن الرجل ربـما ضحك من الشيء الذي يُعْجبه وربـما ضحك من الشيء الذي لا يعجبه, فمن أيّ شيء ضحك؟ لا أدري.
والذي قاله أبو العالـية من التأويـل أشبه بتأويـل الآية, وذلك أن الله وعد الإنعام علـى هذه الأمة بـما أخبر فـي هذه الآية أنه منعم به علـيهم ثم قال عقـيب ذلك: فمن كفر هذه النعمة بعد ذلك فَأُولَئِكَ هُمُ الفـاسِقُونَ.
19841ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قول الله: يَعْبُدونَنِـي لا يُشْرِكُونَ بِـي شَيْئا قال: تلك أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم.
19842ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد: أمنا يَعْبُدونَنِـي لا يُشْرِكُونَ بِـي شَيْئا قال: لا يخافون غيري.
الآية : 56-57
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَقِيمُواْ الصّـلاَةَ وَآتُواْ الزّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ }.
يقول تعالـى ذكره: وأقـيـمُوا أيها الناس الصّلاةَ بحدودها فلا تضيعوها. وآتُوا الزّكاةَ التـي فرضها الله علـيكم أهلها, وأطيعوا رسول ربكم فـيـما أمركم ونهاكم. لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول: كي يرحمكم ربكم فـينـجيكم من عذابه, وقوله: لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا مُعْجزِينَ فِـي الأرْضِ يقول تعالـى ذكره: لا تـحسبنّ يا مـحمد الذين كفروا بـالله معجزيه فـي الأرض إذا أراد إهلاكهم. ومأْوَاهُم بعد هلاكهم النّارُ وَلَبِئْسَ الـمَصِيرُ الذي يصيرون إلـيه ذلك الـمأوى. وقد كان بعضهم يقول: «لا يحسبنّ الذين كفروا» بـالـياء. وهو مذهب ضعيف عند أهل العربـية وذلك أن «تـحسب» مـحتاج إلـى منصوبـين. وإذا قرىء «يَحْسَبنّ» لـم يكن واقعا إلاّ علـى منصوب واحد, غير أنـي أحسب أن قائله بـالـياء ظنّ أنه قد عمل فـي «معجزين», وأن منصوبه الثانـي فـي «الأرض», وذلك لا معنى له إن كان ذلك قصد.
الآية : 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرّاتٍ مّن قَبْلِ صَـلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى بقوله: لـيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ فقال بعضهم: عُنـي بذلك الرجال دون النساء, ونهوا عن أن يدخـلوا علـيهم فـي هذه الأوقات الثلاثة هؤلاء الذين سُمّوا فـي هذه الآية إلاّ بإذن. ذكر من قال ذلك:
19843ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عَنبسة, عن لـيث, عن نافع, عن ابن عمر, قوله: لِـيَسْتَأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ قال: هي علـى الذكور دون الإناث.
وقال آخرون: بل عُنِـي به الرجال والنساء. ذكر من قال ذلك:
19844ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي حصين, عن أبـي عبد الرحمن, فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِـيَسْتأذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ قال: هي فـي الرجال والنساء, يستأذنون علـى كلّ حال, بـاللـيـل والنهار.
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: عُنـي به الذكور والإناث لأن الله عمّ بقوله: الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمانُكُمْ جميع أملاك أيـماننا, ولـم يخصص منهم ذكرا ولا أنثى فذلك علـى جميع من عمه ظاهر التنزيـل.
فتأويـل الكلام: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, لـيستأذنكم فـي الدخول علـيكم عبـيدُكم وإماؤكم, فلا يدخـلوا علـيكم إلاّ بإذن منكم لهم.
وَالّذِينَ لَـمْ يَبْلُغُوا الـحُلُـمَ مِنْكُمْ يقول: والذين لـم يحتلـموا من أحراركم ثلاث مرّات, يعنـي ثلاث مرات فـي ثلاثة أوقات من ساعات لـيـلكم ونهاركم. كما:
19845ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِـيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ قال: عبـيدكم الـمـملوكون. وَالّذينَ لَـمْ يَبْلُغُوا الـحُلُـمَ منْكُمْ قال: لـم يحتلـموا من أحراركم.
قال ابن جُرَيج: قال لـي عطاء بن أبـي ربـاح: فذلك علـى كل صغير وصغيرة أن يستأذن, كما قال: ثَلاَثَ مرّاتٍ منْ قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِـيابَكُمْ مِنَ الظّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ قالوا: هي العَتَـمة. قلت: فإذا وضعوا ثـيابهم بعد العتـمة استأذنوا علـيهم حتـى يصبحوا؟ قال نعم. قلت لعطاء: هل استئذانهم إلاّ عند وضع الناس ثـيابهم؟ قال: لا.
19846ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن صالـح بن كيسان ويعقوب بت عُتبة وإسماعيـل بن مـحمد, قالوا: لا استئذان علـى خدم الرجل علـيه إلاّ فـي العورات الثلاث.
19847ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: لِـيَسْتأذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ يقول: إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء, فلا يدخـل علـيه خادم ولا صبـيّ إلاّ بإذن حتـى يصلّـي الغداة, فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك.
19848ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي قرة بن عبد الرحمن, عن ابن شهاب, عن ثعلبة, عن أبـي مالك القرظي: أنه سأل عبد الله بن سُوَيد الـحارثـيّ, وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن الإذن فـي العورات الثلاث, فقال: إذا وضعت ثـيابـي من الظهيرة, لـم يـلـج علـيّ أحد من الـخدم الذي بلغ الـحلـم ولا أحد مـمن لـم يبلغ الـحلـم من الأحرار, إلاّ بإذن.
19849ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن ابن جُرَيج, قال: سمعت عطاء يقول: قال ابن عبـاس: ثلاث آيات جَحَدَهنّ الناس: الإذن كله, وقال: إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ وقال الناس: أكرمكم أعظمكم بـيتا, ونسيت الثالثة.
19850ـ حدثنا ابن أبـي الشوارب, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا يونس, عن الـحسن, فـي هذه الآية: لِـيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمانُكُمْ قال: كان الـحسن يقول: إذا أبـات الرجل خادمه معه فهو إذنه, وإن لـم يبته معه استأذن فـي هذه الساعات.
19851ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا سفـيان, قال: ثنـي موسى بن أبـي عائشة, عن الشعبـيّ فـي قوله: لِـيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ قال: لـم تُنسخ. قلت: إن الناس لا يعملون به قال: الله الـمستعان.
قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن موسى بن أبـي عائشة, عن الشعبـيّ, وسألته عن هذه الآية: لِـيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ قلت: منسوخة هي؟ قال: لا والله ما نُسخت, قلت: إن الناس لا يعملون بها قال: الله الـمستعان.
19852ـ قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا أبو عَوانة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جُبـير, قال: إن ناسا يقولون نسخت, ولكنها مـما يتهاون الناس به.
19853ـ قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جُبـير فـي هذه الآية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِـيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ... إلـى آخر الآية, قال: لا يعمل بها الـيوم.
19854ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا حنظلة, أنه سمع القاسم بن مـحمد يُسْأَل عن الإذن, فقال: يستأذن عند كلّ عورة, ثم هو طوّاف يعنـي الرجل علـى أمه.
19855ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عثمان بن عمر, قال: أخبرنا عبد العزيز بن أبـي رَوّاد, قال: أخبرنـي رجل من أهل الطائف, عن غَيلان بن شُرَحبـيـل, عن عبد الرحمن بن عوف, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَغْلِبَنّكُمُ الأعْرَابُ عَلـى اسْمِ صَلاَتِكُمْ, قالَ اللّهُ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ وإنّـمَا العَتَـمَةُ عَتَـمَةُ الإبِلِ».
وقوله: ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ برفع «الثلاث», بـمعنى الـخبر عن هذه الأوقات التـي ذكرت. كأنه عندهم قـيـل: هذه الأوقات الثلاثة التـي أمرناكم بأن لا يدخـل علـيكم فـيها من ذكرنا إلاّ بإذن, ثلاثُ عورات لكم لأنكم تضعون فـيها ثـيابكم وتـخـلُون بأهلـيكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «ثَلاثَ عَوْرَاتٍ» بنصب «الثلاث» علـى الردّ علـى «الثلاث» الأولـى. وكأن معنى الكلام عندهم: لـيستأذنكم الذين ملكت أيـمانكم والذين لـم يبلغوا الـحلـم منكم ثلاثَ مرّات, ثلاثُ عورات لكم.
والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان متقاربتا الـمعنى, وقد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ وَلا عَلَـيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنّ, طَوّافُونَ عَلَـيْكُمْ يقول تعالـى ذكره: لـيس علـيكم معشر أربـاب البـيوت والـمساكن, ولا عَلَـيْهِمْ يعنـي: ولا علـى الذين ملكت أيـمانكم من الرجال والنساء والذين لـم يبلغوا الـحلـم من أولادكم الصغار حرج ولا إثم بعدهنّ, يعنـي بعد العورات الثلاث. والهاء والنون فـي قوله: بَعْدَهُنّ عائدتان علـى «الثلاث» من قوله: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ. وإنـما يعنـي بذلك أنه لا حرج ولا جُناح علـى الناس أن يدخـل علـيهم مـمالـيكهم البـالغون وصبـيانهم الصغار بغير إذن بعد هذه الأوقات الثلاث اللاتـي ذكرهنّ فـي قوله: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِـيابَكُمْ مِنَ الظّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ.)
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19856ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: ثم رخص لهم فـي الدخول فـيـما بـين ذلك بغير إذن, يعنـي فـيـما بـين صلاة الغداة إلـى الظهر, وبعد الظهر إلـى صلاة العشاء أنه رخص لـخادم الرجل والصبـيّ أن يدخـل علـيه منزله بغير إذن. قال: وهو قوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ وَلا عَلَـيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنّ فأما من بلغ الـحلُـم فإنه لا يدخـل علـى الرجل وأهله إلاّ بإذن علـى كل حال.
وقوله: طَوّافُونَ عَلَـيْكُمْ رفع «الطوّافون» بـمضمر, وذلك «هم». يقول لهؤلاء الـمـمالـيك والصبـيان الصغار هم طوّافون علـيكم أيها الناس, ويعنـي بـالطوّافـين: أنهم يدخـلون ويخرجون علـى موالـيهم وأقربـائهم فـي منازلهم غدوة وعشية بغير إذن, يطوفون علـيهم بعضكم علـى بعض فـي غير الأوقات الثلاث التـي أمرهم أن لا يدخـلوا علـى ساداتهم وأقربـائهم فـيها إلاّ بإذن. كَذلكَ يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ يقول جلّ ثناؤه: كما بـينت لكم أيها الناس أحكام الاستئذان فـي هذه الآية, كذلك يبـين الله لكم جميع أعلامه وأدلته وشرائع دينه. وَاللّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ يقول: والله ذو علـم بـما يصلـح عبـاده, حكيـم فـي تدبـيره إياهم وغير ذلك من أموره