تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 357 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 357

356

ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله فقال: 54- "قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" طاعة ظاهرة وباطنة بخلوص اعتقاد وصحة نية، وهذا التكرير منه تعالى لتأكيد وجوب الطاعة عليهم، فإن قوله: "قل لا تقسموا طاعة معروفة" في حكم الأمر بالطاعة، وقيل إنهما مختلفان، فالأول نهي بطريق الرد والتوبيخ، والثاني أمر بطريق التكليف لهم والإيجاب عليهم "فإن تولوا" خطاب للمأمورين، وأصله فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة والانقياد، وجواب الشرط قوله: "فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم" أي فاعلموا أنما على النبي ما حمل مما أمر به من التبليغ وقد فعل، وعليكم ما حملتم: أي ما أمرتم به من الطاعة، وهو وعيد لهم، كأنه قال لهم: فإن توليتم فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل "وإن تطيعوه" فيما أمركم به ونهاكم عنه "تهتدوا" إلى الحق وترشدوا إلى الخير وتفوزوا بالأجر، وجملة "وما على الرسول إلا البلاغ المبين" مقررة لما قبلها، واللام إما للعهد فيراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم، وإما للجنس فيراد كل رسول، والبلاغ المبين: التبليغ الواضح أو الموضح. قيل يجوز أن يكون قوله: "فإن تولوا" ماضياً وتكون الواو لضمير الغائبين، وتكون هذه الجملة الشرطية مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأول أرجح. ويؤيده الخطاب في قوله : " وعليكم ما حملتم " وفي قوله : " وإن تطيعوه تهتدوا " ويؤيده أيضاً قراءة البزي "فإن تولوا" بتشديد التاء وإن كانت ضعيفة لما فيها من الجمع بين ساكنين.
55- "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات" هذه الجملة مقررة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب لهدايتهم، وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض لما استخلف الذين من قبلهم من الأمم، وهو وعد يعم جميع الأمة. وقيل هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك، فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم، بل ويمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله فقد أطاع الله ورسوله، واللام في "ليستخلفنهم في الأرض" جواب لقسم محذوف، أو جواب للوعد بتنزيله منزلة القسم، لأنه ناجز لا محالة، ومعنى ليستخلفهم في الأرض: ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم، وقد أبعد من قال إنها مختصة بالخلفاء الأربعة، أو بالمهاجرين، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة، وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهر قوله: "كما استخلف الذين من قبلهم" كل من استخلفه الله في أرضه فلا يخص ذلك ببني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها. قرأ الجمهور "كما استخلف" بفتح الفوقية على البناء للفاعل. وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم بضمها على البناء للمفعول، ومحل الكاف النصب على المصدرية: أي استخلافاً كما استخلف، وجملة "وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم" معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب، والمراد بالتمكين هنا: التثبيت والتقرير: أي يجعله الله ثابتاً مقرراً ويوسع لهم في البلاد ويظهر دينهم على جميع الأديان، والمراد بالدين هنا: الإسلام، كما في قوله: "ورضيت لكم الإسلام ديناً" ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أولاً، وهو جعلهم ملوكاً، وذكر التمكين ثانياً، فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض والطرو، بل على وجه الاستقرار والثابت، بحيث يكون الملك لهم ولعقبهم من بعدهم، وجملة "وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً" معطوفة على التي قبلها. قرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر "ليبدلنهم" بالتخفيف من أبدل، وهي قراءة الحسن واختارها أبو حاتم. وقرأ الباقون بالتشديد من بدل واختارها أبو عبيد، وهما لغتان، وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى، فقراء التشديد أرجح من قراءة التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقاً، وأنه يقال بدلته: أي غيرته، وأبدلته: أزلته وجعلت غيره. قال النحاس، وهذا القول صحيح. والمعنى: أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلا الله سبحانه ولا يرجون غيره. وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلا في السلاح ولا يمسون ويصبحون إلا على ترقب لنزول المضرة بهم من الكفار، ثم صاروا في غاية الأمن والدعة وأذل الله لهم شياطين المشركين وفتح عليهم البلاد، ومهد لهم في الأرض ومكنهم منها، فلله الحمد، وجملة "يعبدونني" في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم، وجملة "لا يشركون بي شيئاً" في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني: أي يعبدونني، غير مشركين بي في العبادة شيئاً من الأشياء، وقيل معناه: لا يراءون بعبادتي أحداً، وقيل معناه: لا يخافون غيري، وقيل معناه لا يحبون غيري "ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" أي من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح، أو من استمر على الكفر، أو من كفر بعد إيمان، فأولئك الكافرون هم الفاسقون، أي الكاملون في الفسق. وهو الخروج عن الطاعة والطغيان في الكفر.
وجملة 56- "وأقيموا الصلاة" معطوفة على مقدر يدل عليه ما تقدم، كأنه قيل لهم فآمنوا واعملوا صالحاً وأقيموا الصلاة، وقيل معطوف على "وأطيعوا الله" وقيل التقدير: فلا تكفروا وأقيموا الصلاة. وقد تقدم الكلام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكرر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد وخصه بالطاعة، لأن طاعته طاعة لله، ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم كما يشعر به الحذف على ما تقرر في علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم "لعلكم ترحمون" أي افعلوا ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول راجين أن يرحمكم الله سبحانه.
57- " لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض " قرأ ابن عامر وحمزة وأبو حيوة "لا يحسبن" بالتحية بمعنى: لا تحسبن الذين كفروا، وقرأ الباقون بالفوقية: أي لا تحسبن يا محمد، والموصول المفعول الأول، ومعجزين الثاني، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين، قاله الزجاج والفراء وأبو علي. وأما على القراءة الأولى، فيكون المفعول الأول محذوفاً: أي لا يحسبن الذي كفروا أنفسهم. قال النحاس: وما علمت أحداً بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يخطئ قراءة حمزة، ومعجزين معناه: فائتين. وقد تقدم تفسيره وتفسير ما بعده. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ويقولون آمنا بالله وبالرسول" الآية قال: أناس من المنافقين وأظهروا الإيمان والطاعة، وهم في ذلك يصدون عن سبيل الله وطاعته وجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم. وأخرجوا أيضاً عن الحسن قال: إن الرجل كان يكون بينه وبين الرجل خصومة أو منازعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محق أذعن وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض وقال: أنطلق إلى فلان، فأنزل سبحانه: "وإذا دعوا إلى الله ورسوله" إلى قوله: "هم الظالمون" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان بينه وبين أخيه شيء فدعاه إلى حكم من حكام المسلمين فلم يجب، فهو ظالم لا حق له". قال ابن كثير بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه: وهذا حديث غريب وهو مرسل. وقال ابن العربي: هذا حديث باطل، فأما قوله: فهو ظالم، فكلام صحيح. وأما قوله: فلا حق له، فلا يصح. ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق انتهى. وأقول: أما كون الحديث مرسلاً فظاهر. وأما دعوى كونه باطلاً فمحتاجة إلى برهان، فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما ذكرنا، ويبعد كل البعد أن يتفق عليهم ما هو باطل، وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا مبارك، حدثنا الحسن فذكره. وليس في هؤلاء كذاب ولا وضاع. ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعي إلى سلطان فلم يجب، فهو ظالم لا حق له" انتهى. ولا يخفاك أن قضاة العدل وحكام الشرع الذين هم على الصفة التي قدمنا لك قريباً هم سلاطين الدين المترجمون عن الكتاب والسنة، المبينون للناس ما نزل إليهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أتى قوم للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال: ذلك شأن الجهاد، قال يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء "طاعة معروفة" قال أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد "طاعة معروفة" يقول: قد عرفت طاعتهم: أي إنكم تكذبون به. وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: "قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق ولا يعطونا؟ قال:فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم". وأخرج ابن جرير وابن قانع والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: قلت يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل: إن كان علي إمام فاجر فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا؟ قال: أقاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء في قوله: "وعد الله الذين آمنوا منكم" الآية. قال: فينا نزلت ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وعبادته وحده لا شريك له سراً، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لن تغبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة، فأنزل الله: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض" إلى آخر الآية"، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبي بن كعب. قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله، فنزلت "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات" الآية. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس "يعبدونني لا يشركون بي شيئاً" قال: لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال: "ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "معجزين في الأرض" قال: سابقين في الأرض.
لما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلائل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الاستئذان فذكره ها هنا على وجه أخص فقال: 58- "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" والخطاب للمؤمنين وتدخل المؤمنات فيه تغليباً كما في غيره من الخطابات. قال العلماء: هذه الآية خاصة ببعض الأوقات.واختلفوا في المراد بقوله: "ليستأذنكم" على أقوال: الأول أنها منسوخة، قاله سعيد بن المسيب. وقال سعيد بن جبير: إن الأمر فيها للندب لا للوجوب. وقيل كان ذلك واجباً حيث كانوا لا أبواب لهم، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس. وقيل إن الأمر هاهنا للوجوب، وإن الآية محكة غير منسوخة، وأن حكمها ثابت على الرجال والنساء، قال: القرطبي: وهو قول أكثر أهل العلم. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: إنها خاصة بالنساء. وقال ابن عمر هي خاصة بالرجال دون النساء. والمراد بقوله: "ملكت أيمانكم" العبيد والإماء، والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان منكم: أي من الأحرار، ومعنى "ثلاث مرات" ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، وعبر بالمرات عن الأوقات لأن أصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات، وانتصاب ثلاث مرات على الظرفية الزمانية: أي ثلاثة أوقات، ثم فسر تلك الأوقات بقوله: "من قبل صلاة الفجر" إلخ، أو منصوب على المصدرية: أي ثلاث استئذانات، ورجح هذا أبو حيان فقال: والظاهر من قوله: "ثلاث مرات" ثلاث استئذانات، لأنك إذا قلت ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات. ويرد بأن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة، وهو التفسير بالثلاثة الأوقات. قرأ الحسن وأبو عمرو في رواية "الحلم" بسكون اللام وقرأ الباقون بضمها. قال الأخفش: الحلم من حلم الرجل بفتح اللام، ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام، ثم فسر سبحانه الثلاث المرات فقال: "من قبل صلاة الفجر" وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، وربما يبيت عرياناً، أو على حال لا يحب أن يراه غيره فيها، ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي من قبل، وقوله: "وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة" معطوف على محل "من قبل صلاة الفجر" ومن في "من الظهيرة" للبيان، أو بمعنى في، أو بمعنى اللام. والمعنى: حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حر الظهيرة وذلك عند انتصاف النهار، فإنهم قد يتجردون عن الثياب لأجل القيلولة. ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث فقال: "ومن بعد صلاة العشاء" وذلك لأنه وقت التجرد عن الثياب والخلوة بالأهل، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل فقال: "ثلاث عورات لكم" قرأ الجمهور: "ثلاث عورات" برفع ثلاث، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من ثلاث مرات. قال ابن عطية: إنما يصح البدل بتقدير أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف واقيم المضاف إليه مقامه، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة، ويجوز أن يكون ثلاث عورات بدلاً من الأوقات المذكورة: أي من قبل صلاة الفجر إلخ، ويجوز أن تكون منصوبة بإضمار فعل: أي أعني ونحوه، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هن ثلاث. قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود. وقال الكسائي: إن ثلاث عورات مرتفعة بالابتداء والخبر ما بعدها. قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة. قال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعورات جمع عورة، والعورة في الأصل الخلل، ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه ويتعين ستره: أي هي ثلاث أوقات يختل فيها الستر. وقرأ الأعمش "عورات" بفتح الواو، وهي لغة هذيل وتميم فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واواً أو ياءً، ومنه: أخو بيضات رايح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوح وقوله: أبو بيضات رايح أو مبعد عجلان ذا زاد وغير مزود و"لكم" متعلق بمحذوف هو صفة لثلاث عورات: أي كائنة لكم، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان "ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن" أي ليس على المماليك ولا على الصبيان جناح: أي إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والاطلاع على العورات. ومعنى بعدهن: بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنتين منها، وهذه الجملة مستأنفة مقررة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة، ويجوز أن تكون في محل رفع صفة لثلاث عورات على قراءة الرفع فيها. قال أبو البقاء: "بعدهن" أي بعد استئذانهم فيهن، ثم حذف حرف الجر والمجرور فبقي بعد استئذانهم، ثم حذف المصدر وهو الاستئذان، والضمير المتصل به. ورد بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره، بل المعنى: ليس عليكم جناح ولا عليهم: أي العبيد والإماء والصبيان جناح في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة، وارتفاع "طوافون" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم طوافون عليكم، والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان. قال الفراء: هذا كقولك في الكلام هم خدمكم وطوافون عليكم، وأجاز أيضاً نصب طوافين لأنه نكرة، والمضمر في "عليكم" معرفة ولا يجيز البصريون أن تكون حالاً من المضمرين اللذين في عليكم وفي بعضكم لاختلاف العاملين. ومعنى طوافون عليكم: أي يطوفون عليكم، ومنه الحديث في الهرة "إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات" أي هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن، ومعنى "بعضكم على بعض" بعضكم يطوف أو طائف على بعض، وهذه الجملة بدل مما قبلها أو مؤكدة لها. والمعنى أن كلاً منكم يطوف على صاحبه العبيد على الموالي والموالي على العبيد، ومنه قول الشاعر: ولما قرنا النبع بالنبع بعضه ببعض أبت عيدانه أن تكسرا وقرأ ابن أبي عبلة " طوافون " بالنصب على الحال كما تقدم عن الفراء، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان، لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها، والإشارة بقوله: "كذلك يبين الله لكم الآيات" إلى مصدر الفعل الذي بعده، كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز: أي مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام "والله عليم حكيم" كثير العلم بالمعلومات وكثير الحكمة في أفعاله.