تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 357 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 357

357- تفسير الصفحة رقم357 من المصحف
الآية: 54 {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين}
قوله تعالى: "قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" بإخلاص الطاعة وترك النفاق. "فإن تولوا" أي فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين. ودل على هذا أن بعده "وعليكم" ولم يقل وعليهم. "فإنما عليه ما حمل" أي من تبليغ الرسالة. "وعليكم ما حملتم" أي من الطاعة له؛ عن ابن عباس وغيره. "وإن تطيعوه تهتدوا" جعل الاهتداء مقرونا بطاعته. "وما على الرسول إلا البلاغ المبين" أي التبليغ "المبين".
الآية: 55 {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}
نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ قاله مالك. وقيل: إن سبب هذه الآية أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو، وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم، وأنهم لا يضعون أسلحتهم؛ فنزلت الآية. وقال أبو العالية: مكث رسول صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعدما أوحي إليه خائفا هو وأصحابه، يدعون إلى الله سرا وجهرا، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح. فقال رجل: يا رسول الله، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: (لا تلبثون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة). ونزلت هذه الآية، وأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنوا. قال النحاس: فكان في هذه الآية دلالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعز أنجز ذلك الوعد. قال الضحاك في كتاب النقاش: هذه تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لأنهم أهل الإيمان وعملوا الصالحات. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون). وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه، واختاره وقال: قال علماؤنا هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وأن الله استخلفهم ورضي أمانتهم، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم، لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر الأمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبوا عن حوزة الدين؛ فنفذ الوعد فيهم، وإذا لم يكن هذا الوعد لهم نجز، وفيهم نفذ، وعليهم ورد، ففيمن يكون إذا، وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون فيما بعده. رضي الله عنهم. وحكى هذا القول القشيري عن ابن عباس. واحتجوا بما رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا). قال سفينة: أمسك عليك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرا، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ستا. وقال قوم: هذا وعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: (زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها). واختار هذا القول ابن عطية في تفسيره حيث قال: والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها؛ كالذي جرى في الشام والعراق وخراسان والمغرب. قال ابن العربي: قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله؛ حتى في المفتين والقضاة والأئمة، وليس للخلافة محل تنفذ فيه الموعدة الكريمة إلا من تقدم من الخلفاء. ثم ذكر اعتراضا وانفصالا معناه: فإن قيل هذا الأمر لا يصح إلا في أبي بكر وحده، فأما عمر وعثمان فقتلا غيلة، وعلي قد نوزع في الخلافة. قلنا: ليس في ضمن الأمن السلامة من الموت بأي وجه كان، وأما علي فلم يكن نزاله في الحرب مذهبا للأمن، وليس من شرط الأمن رفع الحرب إنما شرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره، لا كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. ثم قال في آخر كلامه: وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين؛ فهذا نهاية الأمن والعز.
قلت: هذه الحال لم تختص بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم حتى يخصوا بها من عموم الآية، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم. ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أحد وغيرها وخاصة الخندق، حتى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال: "إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا" [الأحزاب: 10 - 11]. ثم إن الله رد الكافرين لم ينالوا خيرا، وأمن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله: "ليستخلفنهم في الأرض". وقوله: "كما استخلف الذين من قبلهم" يعني بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم وديارهم فقال: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها" [الأعراف: 137]. وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين، ثم إن الله تعالى أمنهم ومكنهم وملكهم، فصح أن الآية عامة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غير مخصوصة؛ إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب له التسليم، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم. وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: (لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة). وقال صلى الله عليه وسلم: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون). خرجه مسلم في صحيحه؛ فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. فالآية معجزة النبوة؛ لأنها إخبار عما سيكون فكان.
قوله تعالى: "ليستخلفنهم في الأرض" فيه قولان: أحدهما: يعني أرض مكة؛ لأن المهاجرين سألوا الله تعالى ذلك فوعدوا كما وعدت بنو إسرائيل؛ قال معناه النقاش. الثاني: بلاد العرب والعجم. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ لأن أرض مكة محرمة على المهاجرين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكن البائس سعد بن خولة). يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. وقال في الصحيح أيضا: (يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا). واللام في "ليستخلفهم" جواب قسم مضمر؛ لأن الوعد قول، مجازها: قال الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات والله ليستخلفنهم في الأرض فيجعلهم ملوكها وسكانها. "كما استخلف الذين من قبلهم" يعني بني إسرائيل، أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم. وقراءة العامة "كما استخلف" بفتح التاء واللام؛ لقوله: "وعد". وقوله: "ليستخلفنهم". وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم "استخلف" بضم التاء وكسر اللام على الفعل المجهول. "وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم" وهو الإسلام؛ كما قال تعالى: "ورضيت لكم الإسلام دينا" [المائدة: 3] وقد تقدم. وروي سليم بن عامر عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل أما بعزهم فيجعلهم من أهلها وأما بذلهم فيدينون بها). ذكره الماوردي حجة لمن قال: إن المراد بالأرض بلاد العرب والعجم؛ وهو القول الثاني: على ما تقدم آنفا. "وليبدلنهم" قرأ ابن محيصن وابن كثير ويعقوب وأبو بكر بالتخفيف؛ من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختيار أبي حاتم. الباقون بالتشديد؛ من بدل، وهي اختيار أبي عبيد؛ لأنها أكثر ما في القرآن، قال الله تعالى: "لا تبديل لكلمات الله" [يونس: 64]. وقال: "وإذا بدلنا آية" [النحل: 101] ونحوه، وهما لغتان. قال النحاس: وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: قرأ عاصم والأعمش "وليبدلنهم" مشددة، وهذا غلط على عاصم؛ وقد ذكر بعده غلطا أشد منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى أن بين التثقيل والتخفيف فرقا، وأنه يقال: بدلته أي غيرته، وأبدلته أزلته وجعلت غيره. قال النحاس: وهذا القول صحيح؛ كما تقول: أبدل لي هذا الدرهم، أي أزله وأعطني غيره. وتقول: قد بدلت بعدنا، أي غيرت؛ غير أنه قد يستعمل أحدهما موضع الآخر؛ والذي ذكره أكثر. وقد مضى هذا في "النساء" والحمد لله، وذكرنا في سورة "إبراهيم" الدليل من السنة على أن بدل معناه إزالة العين؛ فتأمله هناك. وقرئ "عسى ربنا أن يبدلنا" [القلم: 32] مخففا ومثقلا. "يعبدونني" هو في موضع الحال؛ أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص. ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم. "لا يشركون بي شيئا" فيه أربعة أقوال: أحدها، لا يعبدون إلها غيري؛ حكاه النقاش. الثاني، لا يراؤون بعبادتي أحدا. الثالث، لا يخافون غيري؛ قاله ابن عباس. الرابع، لا يحبون غيري؛ قال مجاهد. "ومن كفر بعد ذلك" أي بهذه النعم. والمراد كفران النعمة؛ لأنه قال تعالى: "فأولئك هم الفاسقون" والكافر بالله فاسق بعد هذا الإنعام وقبله.
الآية: 56 {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون}
تقدم؛ فأعاد الأمر بالعبادة تأكيدا.
الآية: 57 {لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير}
قوله تعالى: "لا تحسبن الذين كفروا" هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصرة. وقراءة العامة "تحسبن" بالتاء خطابا. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو حيوة "يحسبن" بالياء، بمعنى لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين. وهذا قول الزجاج. وقال الفراء وأبو علي: يجوز أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين الأرض. فـ "الذين" مفعول أول، و"معجزين" مفعول ثان. وعلى القول الأول "الذين كفروا" فاعل "أنفسهم" مفعول أول، وهو محذوف مراد "معجزين" مفعول ثان. قال النحاس: وما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة؛ فمنهم من يقول: هي لحن؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن. وممن قال هذا أبو حاتم. وقال الفراء: هو ضعيف؛ وأجازه على ضعفه، على أنه يحذف المفعول الأول، وقد بيناه. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول في هذه القراءة: يكون "الذين كفروا" في موضع نصب. قال: ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض.
قلت: وهذا موافق لما قاله الفراء وأبو علي؛ لأن الفاعل هناك النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا القول الكافر. و"معجزين" معناه فائتين. وقد تقدم. "ومأواهم النار ولبئس المصير" أي المرجع.
الآية: 58 {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم}
قال العلماء، هذه الآية خاصة والتي قبلها عامة؛ لأنه قال: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها" [النور: 27] ثم خص هنا فقال: "ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" فخص في هذه الآية بعض المستأذنين، وكذلك أيضا يتأول القول في الأولى في جميع الأوقات عموما. وخص في هذه الآية بعض الأوقات، فلا يدخل فيها عبد ولا أمة؛ وغْداً كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان. قال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد، دخل عليها غلام لها كبير، فاشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنزلت عليه الآية. وقيل: سبب نزولها دخول مدلج على عمر؛ وسيأتي.
اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى "ليستأذنكم" على ستة أقوال
الأول: أنها منسوخة، قاله ابن المسيب وابن جبير.
الثاني: أنها ندب غير واجبة؛ قاله أبو قلابة، قال: إنما أمروا بهذا نظرا لهم.
الثالث: عنى بها النساء؛ قاله أبو عبدالرحمن السلمي.
الرابع: وقال ابن عمر: هي في الرجال دون النساء.
الخامس: كان ذلك واجبا، إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب، ولو عاد الحال لعاد الوجوب حكاه المهدوي عن ابن عباس.
السادس: أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء؛ وهو قول أكثر أهل العلم؛ منهم القاسم وجابر بن زيد والشعبي. وأضعفها قول السلمي لأن "الذين" لا يكون للنساء في كلام العرب، إنما يكون للنساء - اللاتي واللواتي - وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر، لأن "الذين" للرجال في كلام العرب، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل، والكلام على ظاهره، غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم. وأما قول ابن عباس فروى أبو داود عن عبيدالله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: آية لم يؤمر بها أكثر الناس آية الاستئذان وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي. قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس "يأمر به". وروى عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد، قول الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم". قال أبو داود: قرأ القعنبي إلى "عليم حكيم" قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد.
قلت: هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير؛ فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها. وروى وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" قال: ليست بمنسوخة. قلت: إن الناس لا يعملون بها؛ قال: الله عز وجل المستعان.
قال بعض أهل العلم: إن الاستئذان ثلاثا مأخوذ من قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات" قال يزيد: ثلاث دفعات. قال: فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجميع. قال ابن عبدالبر: ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها، والذي عليه جمهورهم في قوله "ثلاث مرات" أي في ثلاث أوقات. ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها "من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء".
أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها، يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري. فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار. ووقت القائلة وقت التجرد أيضا وهي الظهيرة، لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره. وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم؛ فالتكشف غالب في هذه الأوقات. يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه، فوجده نائما قد أغلق عليه الباب، فدق عليه الغلام الباب فناداه، ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن؛ ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخر ساجدا شكرا لله. وهي مكية.
قوله تعالى: "والذين لم يبلغوا الحلم منكم" أي الذين لم يحتلموا من أحراركم؛ قال مجاهد. وذكر إسماعيل بن إسحاق كان يقول: ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم، على التقديم والتأخير، وأن الآية في الإماء. وقرأ الجمهور بضم اللام، وسكنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة، وكان أبو عمرو يستحسنها. و"ثلاث مرات" نصب على الظرف؛ لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثا، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، والظرفية في "ثلاث" بينة: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن صلاة العشاء. وقد مضى معناه. ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت. "ثلاث عورات لكم" قرأ جمهور السبعة "ثلاث عورات" برفع "ثلاث". وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم "ثلاث" بالنصب على البدل من الظرف في قوله "ثلاث مرات". قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود. وقال الفراء: الرفع أحب إلي. قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى: هذه الخصال ثلاث عورات. والرفع عند الكسائي بالابتداء، والخبر عنده ما بعده، ولم يقل بالعائد، وقال نصا بالابتداء. قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة؛ إلا أنه قرأ بالنصب، والنصب فيه قولان: أحدهما: أنه مردود على قوله "ثلاث مرات"؛ ولهذا استبعده الفراء. وقال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. و"عورات" جمع عورة، وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات (بفتح العين) كجفنة وجفنات، ونحو ذلك، وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات؛ لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك؛ فأما قول الشاعر:
أبو بيضات رائح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوح
فشاذ.
قوله تعالى: "ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن" أي في الدخول من غير أن يستأذنوا وإن كنتم متبذلين. "طوافون" بمعنى هم طوافون. قال الفراء: كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم. وأجاز الفراء نصب "طوافين" لأنه نكرة، والمضمر في "عليكم" معرفة. ولا يجيز البصريون أن يكون حالا من المضمرين اللذين في "عليكم" وفي "بعضكم" لاختلاف العاملين. ولا يجوز مررت يزيد ونزلت على عمرو العاقلين، على النعت لهما. فمعنى "طوافون عليكم" أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم؛ ومنه الحديث في الهرة (إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات). فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا؛ لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه، ومنه قوله "إن بيوتنا عورة" [الأحزاب: 13] أي سهلة للمدخل، فبين العلة الموجبة للإذن، وهي الخلوة في حال العورة؛ فتعين امتثاله وتعذر نسخه. ثم رفع الجناح بقوله: "ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض" أي يطوف بعضكم على بعض. "كذلك يبين الله لكم الآيات" الكاف في موضع نصب؛ أي يبين الله لكم آياته الدالة على متعبداته بيانا مثل ما يبين لكم هذه الأشياء. "والله عليم حكيم" تقدم.
قوله تعالى: "ومن بعد صلاة العشاء" يريد العتمة. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى يقول: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل). وفي رواية (فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل). وفي البخاري عن أبي برزة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء. وقال أنس: أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء. وهذا يدل على العشاء الأولى. وفي الصحيح: فصلاها، يعني العصر بين العشاءين المغرب والعشاء. وفي الموطأ وغيره: (ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا). وفي مسلم عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات نحوا من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئا، وكان يخف الصلاة. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذه أخبار متعارضة، لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ، ونهيه عليه السلام عن تسمية المغرب عشاء وعن تسمية العشاء عتمة ثابت، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلا عمن عداهم. وقد كان ابن عمر يقول: من قال صلاة العتمة فقد أثم. وقال ابن القاسم قال مالك: "ومن بعد صلاة العشاء" فالله سماها صلاة العشاء فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمي بما سماها الله تعالى به ويعلمها الإنسان أهله وولده، ولا يقال عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم وقد قال حسان:
وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء
وقد قيل: إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة، إنما كان لئلا يعدل بها عما سماها الله تعالى في كتابه إذ قال: "ومن بعد صلاة العشاء"؛ فكأنه نهيُ إرشاد إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز. ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيها لهذه العبادة الشريفة الدينية عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية، وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة؛ ويشهد لهذا قوله: (فإنها تعتم بحلاب الإبل).
روى ابن ماجه في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (من صلى في جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله بها عتقا من النار). وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله). وروي الدارقطني في سننه عن سبيع أو تبيع عن كعب قال: من توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة وصلى بعدها أربع ركعات فأتم ركوعهن وسجودهن ويعلم ما يقترئ فيهن كن له بمنزلة ليلة القدر.