تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 359 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 359

359 : تفسير الصفحة رقم 359 من القرآن الكريم

** إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىَ أَمْرٍ جَامِعٍ لّمْ يَذْهَبُواْ حَتّىَ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنّ الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَاْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ وهذا أيضاً أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه, فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول, كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك, أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته وإن من يفعل ذلك فإنه من المؤمنين الكاملين, ثم أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له إن شاء, ولهذا قال {فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله} الاَية. وقد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حدثنا بشر هو ابن المفضل عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم, فإذا أراد أن يقوم فليسلم, فليست الأولى بأحق من الاَخرة» وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عجلان به. وقال الترمذي: حديث حسن.

** لاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قال الضحاك عن ابن عباس: كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم, فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم, قال: فقولوا يا نبي الله, يا رسول الله, وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم, وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود. وقال مقاتل في قوله {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعض} يقول: لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد ولا تقولوا يا ابن عبد الله, ولكن شرفوه فقولوا: يا نبي الله يا رسول الله.
وقال مالك عن زيد بن أسلم في قوله {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعض} قال: أمرهم الله أن يشرفوه, هذا قول, وهو الظاهر من السياق, كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعن} إلى آخر الاَية. وقوله {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي, ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ـ إلى قوله ـ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم} الاَية, فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته. والقول الثاني في ذلك أن المعنى في {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعض} أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره, فإن دعاءه مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا, حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري وعطية العوفي, والله أعلم.
وقوله {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذ} قال مقاتل بن حيان: هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة, ويعني بالحديث الخطبة, فيلوذون ببعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يخرجوا من المسجد, وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة بعد ما يأخذ في الخطبة, وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل, لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بطلت جمعته. وقال السدي: كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض حتى يتغيبوا عنه فلا يراهم, وقال قتادة في قوله {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذ} يعني لواذاً عن نبي الله وعن كتابه. وقال سفيان {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذ} قال: من الصف, وقال مجاهد في الاَية {لواذ} خلافاً.
وقوله {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته, فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله, فما وافق ذلك قبل, وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان, كما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي فليحذر وليخشَ من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً. {أن تصيبهم فتنة} أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة {أو يصيبهم عذاب أليم} أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك. كما روى الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه, قال: هذا ما حدثنا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها, وجعل يحجزهن ويغلبنه ويقتحمن فيها ـ قال ـ فذلك مثلي ومثلكم, أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار, فتغلبوني وتقتحمون فيها» أخرجاه من حديث عبد الرزاق.

** أَلآ إِنّ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمُ
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض, وأنه عالم الغيب والشهادة, وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم, فقال {قد يعلم ما أنتم عليه} وقد للتحقيق, كما قال قبلها { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذ} وقال تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منكم} الاَية, وقال تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك} الاَية, وقال {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} وقال {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الاَية, فكل هذه الاَيات فيها تحقيق الفعل بقد, كقول المؤذن تحقيقاً وثبوتاً: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. فقوله تعالى: {قد يعلم ما أنتم عليه} أي هو عالم به مشاهد له لا يعزب عنه مثقال ذرة, كما قال تعالى: {وتوكل على العزيز الرحيم ـ إلى قوله ـ إنه هو السميع العليم} وقوله {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} وقال تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} أي هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر, وقال تعالى: {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون} وقال تعالى: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به} الاَية, وقال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} وقال {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} والاَيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً.
وقوله {ويوم يرجعون إليه} أي ويوم ترجع الخلائق إلى الله وهو يوم القيامة {فينبئهم بما عملو} أي يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير وصغير وكبير, كما قال تعالى: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} وقال {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحد} ولهذا قال ههنا {ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم} والحمد لله رب العالمين ونسأله التمام.
آخر تفسير سورة النور و لله الحمد والمنة.

سورة الفرقان

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلّ شَيْءٍ فَقَدّرَهُ تَقْدِيراً
يقول تعالى حامداً لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم, كما قال تعالى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات} الاَية, وقال ههنا {تبارك} وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة {الذي نزل الفرقان} نزل فعل من التكرر والتكثر كقوله {والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة, والقرآن نزل منجماً مفرقاً مفصلاً آيات بعد آيات, وأحكاماً بعد أحكام, وسوراً بعد سور, وهذا أشد وأبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه, كما قال في أثناء هذه السورة {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً, ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسير} ولهذا سماه ههنا الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال, والغي والرشاد والحلال والحرام.
وقوله {على عبده} هذه صفة مدح وثناء لأنه أضافه إلى عبوديته, كما وصفه بها في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء, فقال {سبحان الذي أسرى بعبده ليل} وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبد} وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه, فقال {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذير}. وقوله {ليكون للعالمين نذير} أي إنما خصه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} الذي جعله فرقاناً عظيماً إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ويستقل على الغبراء, كما قال صلى الله عليه وسلم «بعثت إلى الأحمر والأسود» وقال «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» فذكر منهن أنه «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» كما قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميع} الاَية, أي الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض الذي يقول للشيء كن فيكون وهو الذي يحيي ويميت, وهكذا قال ههنا {الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك} ونزه نفسه عن الولد وعن الشريك. ثم أخبر أنه {خلق كل شيء فقدره تقدير} أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب, وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه, وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.