تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 36 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 36

36 : تفسير الصفحة رقم 36 من القرآن الكريم

** لّلّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَآئِهِمْ تَرَبّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطّلاَقَ فَإِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
الإيلاء الحلف, فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة, فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها, فإن كانت أقل, فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته, وعليها أن تصبر وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة, وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, آلى من نسائه شهراً فنزل لتسع وعشرين, وقال «الشهر تسع وعشرون» ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه, فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر, إما أن يفيء أي يجامع, وإما أن يطلق فيجبره الحاكم على هذا, وهذا لئلا يضر بها, ولهذا قال تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} أي يحلفون على ترك الجماع عن نسائهم, فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور {تربص أربعة أشهر} أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف, ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق, ولهذا قال {فإن فاءو} أي رجعوا إلى ما كانوا عليه وهو كناية عن الجماع, قاله ابن عباس ومسروق والشعبي وسعيد بن جبير وغير واحد ومنهم ابن جرير رحمه الله {فإن الله غفور رحيم} لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين, قوله {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} فيه دلالة لأحد قولي العلماء, وهو القديم عن الشافعي أن المولى إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه, ويعتضد بما تقدم في الحديث عند الاَية التي قبلها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراُ منها, فتركها كفارتها» كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي, والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه التكفير لعموم وجوب التكفير على كل حالف, كما تقدم أيضاً في الأحاديث الصحاح, والله أعلم.
وقوله {وإن عزموا الطلاق} فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر, كقول الجمهور من المتأخرين, وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أشهر تطليقة, وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت, وبه يقول ابن سيرين ومسروق والقاسم وسالم والحسن وأبو سلمة وقتادة وشريح القاضي وقبيصة بن ذؤيب وعطاء وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن طرخان التيمي وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس والسدي, ثم قيل: إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر طلقة رجعية, قاله سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ومكحول وربيعة والزهري ومروان بن الحكم, وقيل: إنها تطلق طلقة بائنة, روي عن علي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت, وبه يقول عطاء وجابر بن زيد ومسروق وعكرمة والحسن وابن سيرين ومحمد بن الحنفية وإبراهيم وقبيصة بن ذؤيب وأبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح, فكل من قال: إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عيها العدة, إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء: أنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها, وهو قول الشافعي, والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب إما بهذا وإما بهذا ولا يقع عليها بمجرد مضيها طلاق, وروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف, فإما أن يطلق وإما أن يفيء, وأخرجه البخاري. وقال الشافعي رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد, عن سليمان بن يسار, قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يوقف المولى, قال الشافعي: وأقل ذلك ثلاثة عشر, ورواه الشافعي عن علي رضي الله عنه أنه يوقف المولى, ثم قال: وهكذا نقول, وهو موافق لما رويناه عن عمر وابن عمر وعائشة وعثمان وزيد بن ثابت وبضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, هكذا قال الشافعي رحمه الله. قال ابن جرير: حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا يحيى بن أيوب, عن عبيد الله بن عمر, عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, قال: سألت اثني عشر رجلاً من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته, فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة أشهر فيوقف, فإن فاء وإلا طلق, ورواه الدارقطني من طريق سهيل. (قلت) وهو يروى عن عمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن عباس, وبه يقول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وطاوس ومحمد بن كعب والقاسم, وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم رحمهم الله, وهو اختيار ابن جرير أيضاً, وهو قول الليث وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور وداود, وكل هؤلاء قالوا: إن لم يفىء ألزم بالطلاق, فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم, والطلقة تكون رجعية, لها رجعتها في العدة, وانفرد مالك بأن قال, لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جداً.
قد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر, الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس رحمه الله في الموطأ, عن عبد الله بن دينار, قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل, فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبهوأرقني أن لا خليل ألا عبهفو الله لولا الله أني أراقبهلحرك من هذا السرير جوانبه

فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها: كم أكثر ما تصبر المراة عن زوجها ؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر, فقال عمر: لا أحبس أحداً من الجيوش أكثر من ذلك وقال محمد بن إسحاق, عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ما زلت أسمع حديث عمرأنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة, وكان يفعل ذلك كثيراً إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها, تقول:
تطاول هذا الليل وازور جانبهوأرّقني أن لا ضجيع ألا عبه) ألا عبه طوراً وطوراً كأنمابدا قمراً في ظلمة الليل حاجبه) يسر به من كان يلهو بقربهلطيف الحشا لا يحتويه أقاربه) فو الله لولا الله لا شيء غيرهلنقض من هذا السرير جوانبه) ولكنني أخشى رقيباً موكلابأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه) مخافة ربي والحياء يصدنيوإكرام بعلي أن تنال مراكبه) ثم ذكر بقية ذلك, كما تقدم أو نحوه, وقد روي هذا من طرق وهو من المشهورات.

** وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلّ لَهُنّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِيَ أَرْحَامِهِنّ إِن كُنّ يُؤْمِنّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ
هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء, بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء, أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء, ثم تتزوج إن شاءت, وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت, فإنها تعتد عندهم بقرأين لأنها على نصف من الحرة, والقرء لا يتبعض فكمل لها قرآن, ولما رواه ابن جرير عن مظاهر بن أسلم المخزومي المدني, عن القاسم, عن عائشة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «طلاق الأمة تطليقتان, وعدتها حيضتان» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه, ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية, وقال الحافظ الدارقطني وغيره: الصحيح أنه من قول القاسم بن محمد نفسه, ورواه ابن ماجه من طريق عطية العوفي عن ابن عمر مرفوعاً, قال الدارقطني: والصحيح ما رواه سالم ونافع عن ابن عمر قوله, وهكذا روي عن عمر بن الخطاب. قالوا: ولم يعرف بين الصحابة خلاف, وقال بعض السلف: بل عدتها كعدة الحرة لعموم الاَية, ولأن هذا أمر جبلي, فكان الحرائر والإماء في هذا سواء, حكى هذا القول الشيخ أبو عمر بن عبد البر, عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر وضعفه. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان, حدثنا إسماعيل, يعني ابن عياش, عن عمرو بن مهاجر, عن أبيه, أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية, قالت: طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يكن للمطلقة عدة, فأنزل الله عز وجل حين طلقت أسماء العدة للطلاق, فكانت من هذا الوجه فيها العدة للطلاق يعني {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}, وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو على قولين: حدهما) أن المراد بها الأطهار, وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب, عن عروة, عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة, فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن, فقالت: صدق عروة, وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا: إن الله تعالى يقول في كتابه {ثلاثة قروء}. فقالت عائشة: صدقتم, وتدرون ما الأقراء ؟ إنما الأقراء الأطهار, وقال مالك, عن ابن شهاب: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحداً من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك, يريد قول عائشة, وقال مالك عن نافع, عن عبد الله بن عمر, أنه كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته, فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرىء منها, وقال مالك: وهو الأمر عندنا وروى مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسالم والقاسم وعروة وسليمان بن يسار, وأبي بكر بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري وبقية الفقهاء السبعة وهو مذهب مالك والشافعي وغير واحد وداود وأبي ثور, وهو رواية عن أحمد واستدلوا عليه بقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} أي في الأطهار ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسباً , دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ولهذا قال هؤلاء: إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة, وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان, واستشهد أبو عبيد وغيره على ذلك بقول الشاعر وهو الأعشى:
ففي كل عام أنت جاشم غزوةتشد لأقصاها عزيم عزائكا) مورثة مالاً وفي الأصل رفعةلما ضاع فيها من قروء نسائكا) يمدح أميراً من أمراء العرب آثر الغزو على المقام, حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيه. القول الثاني) ـ أن المراد بالأقراء, الحيض, فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة, زاد آخرون: وتغتسل منها, وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يوماً ولحظة, قال الثوري: عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي, فقال عمر لعبد الله بن مسعود: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة قال: وأنا أرى ذلك, وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود ومعاذ, وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وابن عباس وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وإبراهيم ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشعبي والربيع ومقاتل بن حيان والسدي ومكحول والضحاك وعطاء الخراساني أنهم قالوا: الأقراء الحيض وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام. أحمد بن حنبل, وحكى عنه الأثرم أنه قال: الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: الأقراء الحيض, وهو مذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح ابن حي وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه, ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من طريق المنذر بن المغيرة عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها «دعي الصلاة أيام أقرائك» فهذا لو صح لكان صريحاً في أن القرء هو الحيض, ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات, وقال ابن جرير: أصل القرء في كلام العرب الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركاً بين هذا وهذا, وقد ذهب إليه بعض الأصوليين, والله أعلم. وهذا قول الأصمعي أن القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمي الحيض قرءاً, وتسمي الطهر قرءاً وتسمي الطهر والحيض جميعاً قرءاً. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض, ويراد به الطهر, وإنما اختلفوا في المراد من الاَية ما هو على قولين. ـ وقوله: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} أي من حبل أو حيض, قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي والحكم بن عيينة والربيع بن أنس والضحاك وغير واحد, وقوله: {إن كن يؤمن بالله واليوم الاَخر} تهديد لهن على خلاف الحق, دل هذا على أن المرجع في هذا إليهن لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ويتعذر إقامة البينة غالباً على ذلك, فرد الأمر إليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق, إما استعجالاً منها لانقضاء العدة أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد, فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان. ـ وقوله: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاح} أي وزوجها الذي طلقها أحق بردها, ما دامت في عدتها, إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير, وهذا في الرجعيات, فأما المطلقات البوائن, فلم يكن حال نزول هذه الاَية مطلقة بائن, وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث, فأما حال نزول هذه الاَية, فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة, فلما قصروا في الاَية التي بعدها على ثلاث تطليقات, صار للناس مطلقة بائن, وغير بائن وإذا تأملت هذا, تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين من استشهادهم على مسألة عود الضمير, هل يكون مخصصاً لما تقدمه من لفظ العموم أم لا بهذه الاَية الكريمة, فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه, الله أعلم. ـ وقوله {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن, فليؤد كل واحد منهما إلى الاَخر, ما يجب عليه بالمعروف, كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال في خطبته في حجة الوداع «فاتقوا الله في النساء, فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله, ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه, فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح, ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف» وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا ؟ قال «أن تطعمها إذا طعمت, وتكسوها إذا اكتسيت, ولا تضرب الوجه, ولا تقبح, ولا تهجر إلا في البيت» وقال وكيع, عن بشير بن سليمان, عن عكرمة عن ابن عباس, قال: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة, لأن الله يقول {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وقوله {وللرجال عليهن درجة} أي في الفضيلة في الخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والاَخرة, كما قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}. وقوله {والله عزيز حكيم} أي عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره, حكيم في أمره وشرعه وقدره.

** الطّلاَقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمّآ آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلاّ أَن يَخَافَآ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ * فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

هذه الاَية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة, فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاث طلقات, وأباح الرجعة في المرة والثنتين, وأبانها بالكلية في الثالثة, فقال {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} قال أبو داود رحمه الله في سننه (باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث). حدثنا أحمد بن محمد المروزي, حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه, عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} الاَية, ودل أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً, فنسخ ذلك فقال {الطلاق مرتان} الاَية, ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحاق بن إبراهيم عن علي بن الحسين به, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق, حدثنا عبدة يعني ابن سليمان, عن هشام بن عروة, عن أبيه, أن رجلاً قال لامرأته: لا أطلقك أبداً ولا آويك أبداً, قالت: كيف ذلك ؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك, فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكرت ذلك له, فأنزل الله عز وجل {الطلاق مرتان}, وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جرير بن عبد الحميد وابن إدريس, ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون, كلهم عن هشام عن أبيه, قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ما دامت في العدة, وإن رجلاً من الأنصار غضب على امرأته, فقال: والله لا آويك ولا أفارقك, قالت: وكيف ذلك ؟ قال: أطلقك, فإذا دنا أجلك راجعتك, ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله عز وجل {الطلاق مرتان} قال: فاستقبل الناس الطلاق من كان طلق ومن لم يكن طلق. وقد رواه أبو بكر بن مردويه من طريق محمد بن سليمان عن يعلىَ بن شبيب مولى الزبير, عن هشام, عن أبيه, عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم. ورواه الترمذي عن قتيبة, عن يعلى بن شبيب به, ثم رواه عن أبي كريب, عن ابن إدريس, عن هشام. عن أبيه مرسلاً, وقال: هذا أصح. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن يعلى بن شبيب به, وقال: صحيح الإسناد. ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا إسماعيل بن عبد الله, حدثنا محمد بن حميد, حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق, عن هشام بن عروة, عن عائشة, قالت: لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة, وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس, فقال: والله لأتركنك لا أيماً ولا ذات زوج, فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها, ففعل ذلك مراراً, فأنزل الله عز وجل فيه {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فوقت الطلاق ثلاثاً لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره. وهكذا روي عن قتادة مرسلاً, ذكره السدي وابن زيد وابن جرير كذلك, واختار أن هذا تفسير هذه الاَية. وقوله {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين, فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها, وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسناً إليها, لا تظلمها من حقها شيئاً ولا تضار بها. وقال علي بن أبي طلحة. عن ابن عباس, قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين, فليتق الله في ذلك, أي في الثالثة, فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها, أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, أخبرنا ابن وهب, أخبرني سفيان الثوري, حدثني إسماعيل بن سميع, قال: سمعت أبا رزين يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, أرأيت قول الله عز وجل {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} أين الثالثة ؟ قال: «التسريح بإحسان» ورواه عبد بن حميد في تفسيره ولفظه: أخبرنا يزيد بن أبي حكيم عن سفيان عن إسماعيل بن سميع, أن أبا رزين الأسدي يقول: قال رجل: يا رسول الله, أرأيت قوله الله {الطلاق مرتان} فأين الثالثة ؟ قال «التسريح بإحسان الثالثة» ورواه الإمام أحمد أيضاً. وهكذا رواه سعيد بن منصور عن خالد بن عبد الله, عن إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية, عن إسماعيل بن سميع, عن أبي رزين به وكذا رواه ابن مردويه أيضاً من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسلاً ورواه ابن مردويه أيضاً من طريق عبد الواحد بن زياد, عن إسماعيل بن سميع, عن أنس بن مالك, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكره, ثم قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم, حدثنا أحمد بن يحيى, حدثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة, حدثنا ابن عائشة, حدثنا حماد بن سلمة بن قتادة, عن أنس بن مالك, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, ذكر الله الطلاق مرتين, فأين الثالثة ؟ قال: {إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}.
وقوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئ} أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن, ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه, كما قال تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} فأما إن وهبته المرأة شيئاً عن طيب نفس منها, فقد قال تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئ} وأما إذا تشاقق الزوجان, ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته, فلها أن تفتدي منه بما أعطاها, ولا حرج عليها في بذلها له, ولا حرج عليه في قبول ذلك منها, ولهذا قال تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} الاَية, فأما إذا لم يكن لها عذر, وسألت الافتداء منه, فقد قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الوهاب ح وحدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, قالا جميعاً: حدثنا أيوب عن أبي قلابة, عمن حدثه عن ثوبان, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس, فحرام عليها رائحة الجنة». وهكذا رواه الترمذي عن بندار, عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي به, وقال حسن: قال ويروى عن أيوب, عن أبي قلابة, عن أبي أسماء, عن ثوبان, ورواه بعضهم عن أيوب بهذا الإسناد ولم يرفعه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة, قال: وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة». وهكذا رواه أبو داود وابن ماجه وابن جرير من حديث حماد بن زيد به.
(طريق أخرى) ـ قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا المعتمر بن سليمان, عن ليث بن أبي إدريس, عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس حرم الله عليها رائحة الجنة» وقال: «المختلعات هن المنافقات». ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعاً, عن أبي كريب, عن مزاحم بن داود بن علية, عن أبيه, عن ليث هو ابن أبي سليم, عن أبي الخطاب, عن أبي زرعة, عن أبي إدريس, عن ثوبان, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المختلعات هن المنافقات». ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي.
(حديث آخر) ـ قال ابن جرير: حدثنا أيوب, حدثنا حفص بن بشر, حدثنا قيس بن الربيع, عن أشعث بن سوار, عن الحسن, عن ثابت بن يزيد, عن عقبة بن عامر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات» غريب من هذا الوجه ضعيف.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا أيوب عن الحسن, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «المختلعات والمنتزعات هن المنافقات».
(حديث آخر) ـ قال ابن ماجه: حدثنا بكر بن خلف أبو بشر, حدثنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان, عن عمه عمارة بن ثوبان, عن عطاء عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه, فتجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً». ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف: إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية, واحتجوا بقوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} قالوا: فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة, فلا يجوز في غيرها إلا بدليل, والأصل عدمه, ممن ذهب إلى هذا ابن عباس وطاوس وإبراهيم وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئاً وهو مضار لها, وجب رده إليها, وكان الطلاق رجعياً قال مالك: وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه, وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى, وهذا قول جميع أصحابه قاطبة, وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستذكار له عن بكر بن عبد الله المزني, أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله: {وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئ} ورواه ابن جرير عنه, وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله, وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أن هذه الاَية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي بن سلول, ولنذكر طرق حديثها واختلاف ألفاظه, قال الإمام مالك في موطئه, عن يحيى بن سعيد, عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعيد بن زرارة: أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية, أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم, خرج إلى الصبح, فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من هذه ؟» قالت: أنا حبيبة بنت سهل. «فقال ما شأنك» ؟ فقال: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها, فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر» فقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذ منها» فأخذ منها وجلست في أهلها. وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بإسناده مثله, ورواه أبو داود عن القعنبي عن مالك والنسائي عن محمد بن مسلمة عن ابن القاسم عن مالك.
(حديث آخر) ـ عن عائشة, قال أبو داود وابن جرير: حدثنا محمد بن معمر, حدثنا أبو عامر, حدثنا عمرو السدوسي عن عبد الله بن أبي بكر, عن عمرة, عن عائشة, أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فضربها فانكسر بعضها, فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكته إليه, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتاً, فقال «خذ بعض مالها وفارقها» قال: ويصلح ذلك يا رسول الله ؟ قال «نعم» قال إني أصدقتها حديقتين فهما بيدها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «خذهما وفارقها» ففعل, وهذا لفظ ابن جرير وأبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام.
(حديث آخر) فيه, عن ابن عباس رضي الله عنه, قال البخاري: حدثنا أزهر بن جميل, أخبرنا عبد الوهاب الثقفي, حدثنا خالد عن عكرمة, عن ابن عباس, أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس, أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما أعيب عليه في خلق ولا دين, ولكن أكره الكفر في الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتردين إليه حديقته» ؟ قالت: نعم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة». وكذا رواه النسائي عن أزهر بن جميل بإسناده مثله, ورواه البخاري أيضاً به, عن إسحاق الواسطي, عن خالد هو ابن عبد الله الطحان, عن خالد هو ابن مهران الحذاء, عن عكرمة, به نحوه, وهكذا رواه البخاري أيضاً من طرق عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس وفي بعضها أنها قالت: لا أطيقه يعني بغضاً. وهذا الحديث من إفراد البخاري من هذا الوجه, ثم قال: حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا حماد بن زيد عن أيوب, عن عكرمة أن جميلة رضي الله عنها ـ كذا قال ـ والمشهور أن اسمها حبيبة كما تقدم, لكن قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثني أبو يوسف يعقوب بن يوسف الطباخ, حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي, حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري, حدثني عبد الأعلى, حدثنا سعيد عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت: والله ما أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق, ولكنني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضاً, فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم «تردين عليه حديقته ؟». قالت: نعم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما ساق ولا يزداد, وقد رواه ابن مردويه في تفسيره عن موسى بن هارون, حدثنا أزهر بن مروان, حدثنا عبد الأعلى مثله, وهكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان بإسناد مثله سواء, وهو إسناد جيد مستقيم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا يحيى بن واضح, حدثنا الحسين بن واقد عن ثابت, عن عبد الله بن رباح, عن جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول, أنها كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه, فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال «يا جميلة ما كرهت من ثابت ؟». قالت: والله ما كرهت منه ديناً ولا خلقاً, إلا أني كرهت دمامته, فقال لها, «أتردين عليه الحديقة ؟». قالت: نعم, فردت الحديقة, وفرق بينهما. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنامحمد بن عبد الأعلى, حدثنا المعتمر بن سليمان, قال: قرأت على فضيل عن أبي جرير, أنه سأل عكرمة هل كان للخلع أصل ؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي, أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يارسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداً, إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة, فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة, وأقبحهم وجهاً, فقال زوجها: يارسول الله, إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي, فإن ردت علي حديقتي, قال «ما تقولين» ؟ قالت: نعم وإن شاء زدته, قال: ففرق بينهما.
(حديث آخر) ـ قال ابن ماجه: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده, قال: كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس, وكان رجلاً دميماً, فقالت يارسول الله, والله لولا مخافة الله إذا دخل عليّ بصقت في وجهه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتردين إليه حديقته» ؟ قالت: نعم, فردت عليه حديقته, قال: ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها, فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, أخبرنا أيوب عن كثير مولى ابن سمرة أن عمر أتى بامرأة ناشز, فأمر بها إلى بيت كثير الزبل, ثم دعا بها فقال: كيف وجدت ؟ فقالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني, فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها, ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن كثير مولى ابن سمرة فذكر مثله, وزاد فحبسها فيه ثلاثة أيام, قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة, عن حميد بن عبد الرحمن: أن امرأة أتت عمر بن الخطاب, فشكت زوجها, فأباتها في بيت الزبل, فلما أصبحت قال لها: كيف وجدت مكانك ؟ قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة. فقال: خذ ولو عقاصها, وقال البخاري: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, عن عبد الله بن عقيل, أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته, قالت: كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني, ويحرمني إذا غاب عني, قالت: فكانت مني زلة يوماً فقلت له: أختلع منك بكل شيء أملكه, قال: نعم, قالت: ففعلت, قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان, فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه, أو قالت: ما دون عقاص الرأس, ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ولا يترك لها سوى عقاص شعرها, وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وقبيصة بن ذؤيب والحسن بن صالح وعثمان البتي, وهذا مذهب مالك والليث والشافعي وأبي ثور, واختاره ابن جرير, وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان الإضرار من قبلها, جاز أن يأخذ منها ما أعطاها, ولا يجوز الزيادة عليه, فإن ازداد جاز في القضاء, وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئاً, فإن أخذ, جاز في القضاء. وقال الإمام أحمد وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه: لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها, وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وطاوس والحسن والشعبي وحماد بن أبي سليمان والربيع بن أنس, وقال معمر والحكم: كان علي يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها, وقال الأوزاعي: القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها. (قلت): ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة عن عكرمة, عن ابن عباس في قصة ثابت بن قيس, فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد, وبما روى عبد بن حميد حيث قال: أخبرنا قبيصة عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء, أن النبي صلى الله عليه وسلم, كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها, يعني المختلعة, وحملوا معنى الاَية على معنى {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} أي من الذي أعطاها لتقدم قوله: {ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} أي من ذلك, وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس {فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه} رواه ابن جرير, لهذا قال بعده {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون}.
(فصل) قال الشافعي: اختلف أصحابنا في الخلع, فأخبرنا سفيان عن عمر بن دينار, عن طاوس, عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد, يتزوجها إن شاء, لأن الله تعالى يقول: {الطلاق مرتان ـ قرأ إلى ـ أن يتراجع} قال الشافعي: وأخبرنا سفيان عن عمرو, عن عكرمة, قال: كل شيء أجازه المال فليس بطلاق, وروى غير الشافعي عن سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن طاوس, عن ابن عباس: أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله قال: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه, أيتزوجها ؟ قال: نعم, ليس الخلع بطلاق, ذكر الله الطلاق في أول الاَية وآخرها, والخلع فيما بين ذلك, فليس الخلع بشيء, ثم قرأ {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وقرأ: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد, حتى تنكح زوجاً غيره} وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما من أن الخلع ليس بطلاق وإنما هو فسخ, هو روايه عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وابن عمر, وهو قول طاوس وعكرمة, وبه يقول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبو ثور وداود بن علي الظاهري, وهو مذهب الشافعي في القديم, وهو ظاهر الاَية الكريمة, والقول الثاني في الخلع: أنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك, قال مالك, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن جهمان مولى الأسلميين, عن أم بكر الأسلمية: أنها اختلعت من زوجها عبد الله خالد بن أسيد فأتيا عثمان بن عفان في ذلك, فقال: تطليقة إلا أن تكون سميت شيئاً فهو ما سميت, قال الشافعي: ولا أعرف جهمان, وكذا ضعف أحمد بن جنبل هذا الأثر, والله أعلم. وقد روي نحوه عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر, وبه يقول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وشريح والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد, وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبو عثمان البتي والشافعي في الجديد, غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع تطليقة أو اثنتين أو أطلق, فهو واحدة بائنة, وإن نوى ثلاثا فثلاث, وللشافعي قول آخر في الخلع, وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق, وعري عن البينة, فليس هو بشيء بالكلية.
(مسألة) وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه في رواية عنهما, وهي المشهورة, إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء, إن كانت ممن تحيض, وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر, وبه يقول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة وسالم وأبو سلمة وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب والحسن والشعبي وإبراهيم النخعي وأبو عياض وخلاس بن عمر وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبو العبيد. قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم, ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق, فتعتد كسائر الملطقات, والقول الثاني أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرى بها رحمها. قال ابن أبي شيبة. حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع, عن ابن عمر: أن الربيع اختلعت من زوجها, فأتى عمها عثمان رضي الله عنه, فقال: تعتد بحيضة. قال: وكان ابن عمر يقول: تعتد ثلاث حيض, حتى قال هذا عثمان, فكان ابن عمر يفتي به, ويقول: عثمان خيرنا وأعلمنا. وحدثنا عبدة عن عبيد الله, عن نافع , عن ابن عمر, قال: عدة المختلعة حيضة. وحدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن ليث, عن طاوس, عن ابن عباس, قال: عدتها حيضة, وبه يقول عكرمة وأبان بن عثمان وكل من تقدم ذكره ممن يقول أن الخلع فسخ يلزمه القول بهذا واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود والترمذي حيث قال: كل منهما: حدثنا محمد بن عبد الرحيم البغدادي, حدثنا علي بن بحر, أخبرنا هشام بن يوسف عن معمر, عن عمرو بن مسلم, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم, فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة, ثم قال الترمذي: حسن غريب, وقد رواه عبد الرزاق عن معمر, عن عمرو بن مسلم عن عكرمة مرسلاً.
(حديث آخر) ـ قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان, حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان, حدثنا محمد بن عبد الرحمن, وهو مولى آل طلحة, عن سليمان بن يسار, عن الربيع بنت معوذ بن عفراء, أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم, أو أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة.
(طريق أخرى) ـ قال ابن ماجه: حدثنا علي بن سلمة النيسابوري, حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن الرّبَيّع بنت معوذ بن عفراء, قال: قلت لها: حدثيني حديثك, قالت: اختلعت من زوجي, ثم جئت عثمان فسألت عثمان: ماذا علي من العدة ؟ قال: لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك, فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة, قالت: وإنما اتبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية, وكانت تحت ثابت بن قيس, فاختلعت منه¹ وقد روى ابن لهيعة عن ابن الأسود, عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن الربيع بنت معوذ, قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر امرأة ثابت بن قيس حين اختلعت منه أن تعتد بحيضة. (مسألة) وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عن الأئمة الأربعة وجمهور العلماء, لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء. وروي عن عبد الله بن أبي أوفى وماهان الحنفي وسعيد بن المسيب والزهري أنهم قالوا: إن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها, وهو اختيار أبي ثور رحمه الله. وقال سفيان الثوري: إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها, وإن كان يسمى طلاقاً فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة, وبه يقول داود بن علي الظاهري, واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة, وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن فرقة: أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره, وهو قول شاذ مردود.
(مسألة) وهل له أن يوقع عليها طلاقاً آخر في العدة ؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء: (أحدها) ليس له ذلك, لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه, وبه يقول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور. (والثاني) قال مالك: إن أتبع الخلع طلاقاً من غير سكوت بينهما, وقع, وإن سكت بينهما, لم يقع, قال ابن عبد البر: وهذا يشبه ما وري عن عثمان رضي الله عنه. (والثالث) أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة, وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي, وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وإبراهيم والزهري والحاكم والحكم وحماد بن أبي سليمان, وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء, وقال ابن عبد البر: وليس ذلك بثابت عنهما.
وقوله {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون} أي هذه الشرائع التي شرعها لكم. هي حدوده فلا تتجاوزوها, كما ثبت في الحديث الصحيح «إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها, وفرض فرائض فلا تضيعوها, وحرم محارم فلا تنتهكوها, وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها». وقد يستدل بهذه الاَية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام, كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم, وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة لقوله {الطلاق مرتان} ثم قال {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون} ويقوون ذلك بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال: حدثنا سليمان بن داود, أخبرنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير, عن أبيه, عن محمود بن لبيد, قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً, فقام غضبان ثم قال «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم» ؟ حتى قام رجل فقال: يارسول الله, ألا أقتله ـ فيه انقطاع ـ.
وقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين, فإنها تحرم عليه {حتى تنكح زوجاً غيره}, أي حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح, فلو وطئها واطىء في غير نكاح ولو في ملك اليمين, لم تحل للأول, لأنه ليس بزوج, وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول, واشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه يقول: يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني, وفي صحته عنه نظر, على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البرقد حكاه عنه في الاستذكار, والله أعلم. وقد قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة, عن علقمة بن مرثد, عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله, عن سعيد بن المسيب, عن ابن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم, في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة, فيتزوجها زوج آخر, فيطلقها قبل أن يدخل بها, أترجع إلى الأول ؟ قال «لا, حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها» هكذا وقع في رواية ابن جرير, وقد رواه الإمام أحمد فقال: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد, قال: سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله يعني ابن عمر, عن سعيد بن المسيب, عن ابن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم, في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها, فترجع إلى زوجها الأول, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حتى تذوق العسيلة» وهكذا رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس وابن ماجه, عن محمد بن بشار بندار, كلاهما عن محمد بن جعفر غندر, عن شعبة به, كذلك فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمرو مرفوعاً على خلاف ما يحكى عنه, فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند, والله أعلم. وقد روى أحمد أيضاً والنسائي وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد, عن رزين بن سليمان الأحمدي, عن ابن عمر, قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثاً, فيتزوجها آخر, فيغلق الباب, ويرخي الستر, ثم يطلقها قبل أن يدخل بها, هل تحل للأول ؟ قال «لا, حتى تذوق العسيلة», وهذا لفظ أحمد, وفي رواية لأحمد سليمان بن رزين.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا محمد بن دينار, حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس بن مالك, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثاً, فتزوجت بعده رجلاً فطلقها قبل أن يدخل بها, أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا, حتى يكون الاَخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته». وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن إبراهيم الأنماطي عن هشام بن عبد الملك, حدثنا محمد بن دينار, فذكره (قلت) ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الأزدي ثم الطاحي البصري ويقال له ابن أبي الفرات, اختلفوا فيه, فمنهم من ضعفه, ومنهم من قواه وقبله وحسن له, وذكر أبو داود أنه قبل موته, فالله أعلم,
(حديث آخر) ـ قال ابن جرير: حدثنا عبيد بن آدم بن أبي أياس العسقلاني, حدثنا أبي, حدثنا شيبان, حدثنا يحيى بن أبي كثير, عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, في المرأة يطلقها زوجها ثلاثاً, فتتزوج غيره فيطلقها قبل أن يدخل بها, فيريد الأول أن يراجعها. قال «لا, حتى يذوق الاَخر عسيلتها» ثم رواه من وجه آخر عن شيبان وهو ابن عبد الرحمن به ـ وأبو الحارث غير معروف ـ.
(حديث آخر) ـ قال ابن جرير: حدثنا يحيى عن عبيد الله, حدثنا القاسم عن عائشة: أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً, فتزوجت زوجاً, فطلقها قبل أن يمسها, فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول ؟ فقال «لا, حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول» أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبد الله بن عمر العمري عن القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن عمته عائشة به.
(طريق أخرى) ـ قال ابن جرير: حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري وسفيان بن وكيع وأبو هشام الرفاعي, قالوا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته, فتزوجت رجلاً غيره, فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها, أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الاَخر عسيلتها وتذوق عسيلته», وكذا رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب, كلاهما عن أبي معاوية وهو محمد بن حازم الضرير به.
(طريق أخرى) ـ قال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن العلاء الهمداني, حدثنا أبو أسامة عن هشام, عن أبيه, عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها, فتتزوج رجلاً فيطلقها قبل أن يدخل بها, أتحل لزوجها الأول ؟ قال «لا حتى يذوق عسيلتها», قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أبو فضيل, وحدثنا أبو كريب, حدثنا أبو معاوية جميعاً عن هشام بهذا الإسناد, وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم عن هشام به, وتفرد به مسلم من الوجهين الاَخرين, وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة مرفوعاً بنحوه أو مثله ـ وهذا إسناد جيد ـ, وكذا ورواه ابن جرير أيضاً من طريق علي بن زيد بن جدعان عن امرأة أبيه أمينة أم محمد, عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله, وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري, حدثنا عمرو بن علي, حدثنا يحيى عن هشام بن عروة, حدثني أبي عن عائشة مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم, وحدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه, عن عائشة, أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها, فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له إنه لا يأيتها وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب, فقال «لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» تفرد به من هذا الوجه.
(طريق أخرى) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الأعلى عن معمر, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة, قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت: إن رفاعة طلقني البتة, وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني, وإنما عنده مثل الهدبة, وأخذت هدبة من جلبابها, وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له, فقال: يا أبا بكر, ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبسم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة, لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك», وهكذا رواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك ومسلم من حديث عبد الرزاق والنسائي من حديث يزيد بن زريع, ثلاثتهم عن معمر به, وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم, أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات, وقد رواه الجماعة إلا أبو داود من طريق سفيان بن عيينة والبخاري من طريق عقيل ومسلم من طريق يونس بن يزيد, وعنده آخر ثلاث تطليقات, والنسائي من طريق أيوب بن موسى, ورواه صالح بن أبي الأخضر, كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وقال مالك, عن المسور بن رفاعة القرظي, عنالزبير بن عبد الرحمن بن الزبير: أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً, فنكحت عبد الرحمن بن الزبير فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها, فأراد رفاعة بن سموأل أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن تزوجها, وقال «لا تحل لك حتى تذوق العسيلة» هكذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك, وفيه انقطاع وقد رواه إبراهيم بن طهمان وعبد الله بن وهب عن مالك, عن رفاعة, عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير, عن أبيه فوصله.
(فصل) والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة, قاصداً لدوام عشرتها, كما هو المشروع من التزويج, واشترط الإمام مالك مع ذلك, أن يطأها الثاني وطأً مباحاً, فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف لم تحل للأول بهذا الوطء, وكذا لو كان الزوج الثاني ذمياً لم تحل للمسلم بنكاحه, لأن أنكحة الكفار باطلة عنده, واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه الصلاة والسلام «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضاً, وليس المراد بالعسيلة المني, لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن العسيلة الجماع» فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول, فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة.

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
(الحديث الأول) عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين, حدثنا سفيان عن أبي قيس عن الهزيل عن عبد الله قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحَلّل والمحَلّل له وآكل الربا وموكله. ثم رواه أحمد والترمذي والنسائي من غير وجه عن سفيان وهو الثوري عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي عن هزيل بن شرحبيل الأودي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم به, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة منهم عمر وعثمان وابن عمر, وهو قول الفقهاء من التابعين, ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس.
(طريق أخرى) عن ابن مسعود. قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي, حدثنا عبيد الله عن عبد الكريم عن أبي الواصل عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله المحَلّل والمحَلّل له».
(طريق أخرى) ـ روى الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث الأعور عن عبد الله بن مسعود, قال: آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به, والواصلة والمستوصلة, ولاوي الصدقة والمعتدي فيها, والمرتد على عقبيه أعرابياً بعد هجرته, والمحَلِل والمحَلّل له, ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
(الحديث الثاني) عن علي رضي الله عنه, قال الإمام أحمد, حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن الحارث عن علي قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه, والواشمة والمستوشمة للحسن, ومانع الصدقة, والمحَلّل والمحلّل له, وكان ينهى عن النوح. وكذا رواه عن غندر عن شعبة عن جابر وهو ابن يزيد الجعفي عن الشعبي عن الحارث عن علي به, وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد وحصين بن عبد الرحمن ومجالد بن سعيد وابن عون, عن عامر الشعبي به, وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الشعبي به. ثم قال أحمد: أخبرنا محمد بن عبد الله, أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي, قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الربا وآكله وكاتبه وشاهده, والمحَلّل والمحَلَل له.
(الحديث الثالث) عن جابر رضي الله عنه. قال الترمذي: أخبرنا أبو سعيد الأشج, أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن يزيد الأيامي, حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله, وعن الحارث عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحَلّل والمحَلَل له, ثم قال: وليس إسناده بالقائم. ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل, قال: ورواه ابن نمير عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله عن علي, قال: وهذا وهم من ابن نمير, والحديث الأول أصح.
(الحديث الرابع) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه, حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري, أخبرنا أبي, سمعت الليث بن سعد يقول: أبو المصعب مشرح وهو ابن هاعان, قال عقبة بن عامر, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بالتيس المستعار» ؟ قالوا: بلى يا رسول صلى الله عليه وسلم, قال: «هو المحَلّل, لعن الله المحَلّل والمحَلَل له» تفرد به ابن ماجه, كذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني عن عثمان بن صالح عن الليث به, ثم قال: كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكاراً شديداً. (قلت) عثمان هذا أحد الثقات, روى عنه البخاري في صحيحه ثم قد تابعه غيره, فرواه جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق, عن أبي صالح عبد الله بن صالح, عن الليث به فبرىء من عهدته, والله أعلم.
(الحديث الخامس) عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس, قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحَلّل والمحَلَل له.
(طريق أخرى) ـ قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي: حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحَلّل, قال: «لا, إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة, ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق عسيلتها» ويتقوى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن حميد عن عبد الرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه من هذا, فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالاَخر, والله أعلم.
(الحديث السادس) عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر, حدثنا عبد الله هو ابن جعفر عن عثمان بن محمد المقبري عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحَلّل والمحَلَل له, وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني البيهقي من طريق عبد الله بن جعفر القرشي وقد وثقه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم, وأخرج له مسلم في صحيحه عن عثمان بن محمد الأخنسي وثقه ابن معين عن سعيد المقبري وهو متفق عليه.
(الحديث السابع) عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال الحاكم في مستدركه, حدثنا أبو العباس الأصم, حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني, حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو يمان محمد بن مطرف المدني عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه, هل تحل للأول ؟ فقال: لا إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقد رواه الثوري عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر به, وهذه الصيغة مشعرة بالرفع وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم من حديث الأعمش عن المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر, عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحَلّل ولا محَلَل له إلا رجمتهما, وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار, أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وكذا روي عن علي وابن عباس وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله {فإن طلقه} أي الزوج الثاني بعد الدخول بها {فلا جناح عليهما أن يتراجع} أي المرأة والزوج الأول {إن ظنا أن يقيما حدود الله} أي يتعاشرا بالمعروف. قال مجاهد إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة {وتلك حدود الله} أي شرائعه وأحكامه {يبينه} أي يوضحها {لقوم يعلمون}.
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها, ثم تزوجت بآخر, فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها, ثم تزوجها الأول, هل تعود إليه بما بقي من الثلاث, كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل, وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم, أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق, فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث, كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله, وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى, والله أعلم.