تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 37 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 37

37 : تفسير الصفحة رقم 37 من القرآن الكريم

** وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنّ ضِرَاراً لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
هذا أمر من الله, عز وجل للرجال, إذا طلق أحدهم المرأة طلاقاً له عليها فيه رجعة, أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها, ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها, فإما أن يمسكها, أي يرتجعها, إلى عصمة نكاحه, بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها, وينوي عشرتها بالمعروف, أو يسرحها, أي يتركها حتى تنقضي عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن, من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح, قال الله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدو}, قال ابن عباس, ومجاهد ومسروق والحسن وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان وغير واحد: كان الرجل يطلق المرأة, فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها, ضراراً لئلا تذهب إلى غيره, ثم يطلقها فتعتد, فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة, فنهاهم الله عن ذلك, وتوعدهم عليه, فقال: {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} أي بمخالفته أمر الله تعالى.
وقوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزو} قال ابن جرير عند هذه الاَية: أخبرنا أبو كريب, أخبرنا إسحاق بن منصور عن عبد السلام بن حرب, عن يزيد بن عبد الرحمن, عن أبي العلاء الأودي, عن حميد بن الرحمن, عن أبي موسى, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعريين, فأتاه أبو موسى قال: يا رسول الله, أغضبت على الأشعريين ؟ فقال: «يقول أحدكم قد طلقت, قد راجعت, ليس هذا طلاق المسلمين, طلقوا المرأة في قبل عدتها» ثم رواه من وجه آخر عن أبي خالد الدلال وهو يزيد بن عبد الرحمن, وفيه كلام. وقال مسروق: هو الذي يطلق في غير كنهه, ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليها العدة, وقال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع ومقاتل بن حيان: هو الرجل يطلق ويقول: كنت لاعباً, أو يعتق أو ينكح ويقول: كنت لاعباً, فأنزل الله {ولا تتخذوا آيات الله هزو} فألزم الله بذلك, وقال ابن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد, حدثنا أبو أحمد الصيرفي, حدثني جعفر بن محمد السمسار, عن إسماعيل بن يحيى عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب لا يريد الطلاق, فأنزل الله {ولا تتخذوا آيات الله هزو} فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد, حدثنا آدم, حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن هو البصري, قال: كان الرجل يطلق ويقول: كنت لاعباً ويعتق ويقول: كنت لاعباً, وينكح ويقول: كنت لاعباً, فأنزل الله {ولا تتخذوا آيات الله هزو}, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طلق أو أعتق أو نكح أو أنكح, جاداً أو لاعباً, فقد جاز عليه» وكذا رواه ابن جرير, من طريق الزهري, عن سليمان بن أرقم, عن الحسن مثله, وهذا مرسل, وقد رواه ابن مردويه, عن طريق عمرو ابن عبيد, عن الحسن, عن أبي الدرداء موقوفاً عليه. وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن الحسن بن أيوب, حدثنا يعقوب بن أبي يعقوب, حدثنا يحيى بن عبد الحميد, حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سلمة عن الحسن عن عبادة بن الصامت في قول الله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزو}. قال: كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل: زوجتك ابنتي ثم يقول: كنت لاعباً, ويقول: قد أعتقت, ويقول: كنت لاعباً, فأنزل الله {ولا تتخذوا آيات الله هزو}, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من قالهن لاعباً أو غير لاعب, فهن جائزات عليه: الطلاق والعتاق والنكاح» والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء عن ابن ماهك عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث جدهن جد, وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» وقال الترمذي: حسن غريب.
وقوله {واذكروا نعمة الله عليكم}, أي في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة}, أي السنة {يعظكم به} أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم, {واتقوا الله}, أي فيما تأتون وفيما تذرون, {واعلموا أن الله بكل شيء عليم} أي فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم على ذلك.

** وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَىَ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: نزلت هذه الاَية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين, فتنقضي عدتها, ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها, وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك, فنهى الله أن يمنعوها. وكذا روى العوفي عنه عن ابن عباس أيضاً, وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعي والزهري والضحاك: إنها أنزلت في ذلك, وهذا الذي قالوه ظاهر من الاَية, وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها, وأنه لابد في النكاح من ولي, كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الاَية, كما جاء في الحديث «لا تزوج المرأة المرأة, ولا تزوج المرأة نفسها, فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» وفي الأثر الاَخر «لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل» وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء, محرر في موضعه من كتب الفروع, وقد قررنا ذلك في كتاب الأحكام, ولله الحمد والمنة.
وقد روي أن هذه الاَية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته, فقال البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الاَية: حدثنا عبيد الله بن سعيد, حدثنا أبو عامر العقدي, حدثنا عباد بن راشد, حدثنا الحسن, قال: حدثني معقل بن يسار, قال: كانت لي أخت تخطب إلي, قال البخاري: وقال إبراهيم عن يونس, عن الحسن, حدثني معقل بن يسار, وحدثنا أبو معمر, وحدثنا عبد الوارث, حدثنا يونس عن الحسن, أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها, فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها, فأبى معقل, فنزلت {ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن, عن معقل بن يسار به, وصححه الترمذي أيضاً, ولفظه عن معقل بن يسار, أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين, على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت, ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها, فهويها وهويته, ثم خطبها مع الخطاب, فقال له: يا لكع بن لكع! أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها, والله لا ترجع إليك إبداً آخر ما عليك, قال: فعلم الله حاجته إليها, وحاجتها إلى بعلها, فأنزل الله {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} إلى قوله {وأنتم لا تعلمون} فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة ثم دعاه, فقال: أزوجك وأكرمك, زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني. وروى ابن جرير, عن ابن جريج, قال: هي جُمْل بنت يسار, كانت تحت أبي البداح. وقال سفيان الثوري, عن أبي إسحاق السبيعي, قال: هي فاطمة بنت يسار. وهكذا ذكر غير واحد من السلف, أن هذه الاَية نزلت في معقل بن يسار وأخته. وقال السدي: نزلت في جابر بن عبد الله وابنة عم له والصحيح الأول والله أعلم.
وقوله {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الاَخر} أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به, ويتعظ به, وينفعل له {من كان منكم} أيها الناس {يؤمن بالله واليوم الاَخر} أي يؤمن بشرع الله, ويخاف وعيد الله وعذابه, في الدار الاَخرة, وما فيها من الجزاء {ذلكم أزكى لكم وأطهر} أي اتباعكم شرع الله, في رد الموليات إلى أزواجهن, وترك الحمية في ذلك أزكى لكم وأطهر لقلوبكم {والله يعلم} أي من المصالح, فيما يأمر به وينهى عنه {وأنتم لا تعلمون} أي الخيرة فيما تأتون, ولا فيما تذرون.

** وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمّ الرّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوَاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلّمْتُم مّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة, وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك, ولهذا قال {لمن أراد أن يتم الرضاعة} وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين, فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم. قال الترمذي: (باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين) حدثنا قتيبة, حدثنا أبو عوانة عن هشام بن عروة, عن فاطمة بنت المنذر, عن أم سلمة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» هذا حديث حسن صحيح, والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم, أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين, وما كان بعد الحولين الكاملين, فإنه لا يحرم شيئاً, وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام, وهي امرأة هشام بن عروة. (قلت) تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ورجاله على شرط الصحيحين, ومعنى قوله «إلا ما كان في الثدي» أي في محال الرضاعة قبل الحولين, كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن وكيع, وغندر عن شعبة, عن عدي بن ثابت, عن البراء بن عازب, قال: لما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «إن ابني مات في الثدي, إن له مرضعاً في الجنة», وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة وإنما قال عليه السلام ذلك, لأن ابنه إبراهيم عليه السلام, مات وله سنة وعشرة أشهر, فقال: إن له مرضعاً, يعني تكمل رضاعه, ويؤيده ما رواه الدارقطني من طريق الهيثم بن جميل عن سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين» ثم قال: ولم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل, وهو ثقة حافظ. (قلت) وقد رواه الإمام مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد, عن ابن عباس مرفوعاً, ورواه الدراوردي عن ثور, عن عكرمة, عن ابن عباس, وزاد «وما كان بعد الحولين فليس بشيء» وهذا أصح.
وقال أبو داود الطيالسي, عن جابر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا رضاع بعد فصال, ولا يتم بعد احتلام» وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله تعالى: {وفصاله في عامين أن اشكر لي}, وقال {وحمله وفصاله ثلاثون شهر} والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين, يروى عن علي وابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي هريرة وابن عمر وأم سلمة وسعيد بن المسيب وعطاء والجمهور, وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبي يوسف ومحمد ومالك في رواية, وعنه أن مدته سنتان وشهران, وفي رواية: وثلاثة أشهر. وقال أبو حنيفة: سنتان وستة أشهر. وقال زفر بن الهذيل: ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين, وهذا رواية عن الأوزاعي, قال مالك: ولو فطم الصبي دون الحولين, فأرضعته امرأة بعد فصاله, لم يحرم لأنه قد صار بمنزلة الطعام, وهو رواية عن الأوزاعي, وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا: لا رضاع بعد فصال, فيحتمل أنهما أرادا الحولين, كقول الجمهور: سواء فطم أو لم يفطم ويحتمل أنهما أرادا الفعل كقول مالك, والله أعلم, وقد روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها, أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم, وهو قول عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد, وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها, فترضعه, وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً, فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة, وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, ورأين ذلك من الخصائص, وهو قول الجمهور, وحجة الجمهور وهم الأئمة الأربعة, والفقهاء السبعة, والأكابر من الصحابة, وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم, سوى عائشة ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انظرن من إخوانكم فإنما الرضاعة من المجاعة» وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع وفيما يتعلق برضاع الكبير, عن قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}.
وقوله: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} أي وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف, أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار, بحسب قدرته في يساره, وتوسطه وإقتاره, كما قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسر} قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد, فأرضعت له ولده, وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.
وقوله: {لا تضار والدة بولده} أي بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته, ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالباً, ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت, ولكن إن كانت مضارة لأبيه, فلا يحل لها ذلك, كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها, ولهذا قال: {ولا مولود له بولده} أي بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضراراً بها, قاله مجاهد وقتادة والضحاك والزهري والسدي والثوري وابن زيد وغيرهم.
وقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} قيل: في عدم الضرار لقريبه, قاله مجاهد والشعبي والضحاك, وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها, وهو قول الجمهور, وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره, وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض, وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف, ويرجح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعاً «من ملك ذا رحم محرم, عتق عليه» وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو في عقله. وقال سفيان الثوري, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة: أنه رأى امرأة ترضع بعد الحولين, فقال: لا ترضعيه.
وقوله: {فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهم} أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين, ورأيا في ذلك مصلحة له, وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه, فلا جناح عليهما في ذلك, فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الاَخر لا يكفي, ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الاَخر, قاله الثوري وغيره, وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره, وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما, وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه, كما قال في سورة الطلاق {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهنّ وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى}.
وقوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} أي إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها أو العذر له, فلا جناح عليهما في بذله, ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن, واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف, قاله غير واحد. وقوله: {واتقوا الله} أي في جميع أحوالكم {واعلموا أن الله بما تعملون بصير} أي فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.