تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 361 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 361

361 : تفسير الصفحة رقم 361 من القرآن الكريم

** قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنّةُ الْخُلْدِ الّتِي وَعِدَ الْمُتّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً * لّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىَ رَبّكَ وَعْداً مّسْئُولاً
يقول تعالى: يا محمد هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم, فتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ وزفير, ويلقون في أماكنها الضيق مقرنين لا يستطيعون حراكاً ولا استنصاراً ولا فكاكاً مما هم فيه, أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده, التي أعدها لهم وجعلها لهم جزاء ومصيراً على ماأطاعوه في الدنيا, وجعل مآلهم إليها {لهم فيها ما يشاءون} من الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ومناظر, وغير ذلك مما لاعين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب أحد, وهم في ذلك خالدون أبداً دائماً سرمداً بلاانقطاع ولا زوال ولا انقضاء ولا يبغون عنها حولاً, وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم, ولهذا قال {كان على ربك وعداً مسؤول} أي لابد أن يقع وأن يكون كما حكاه أبو جعفر بن جرير عن بعض علماء العربية أن معنى قوله {وعداً مسئول} أي وعداً واجباً.
وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس {كان على ربك وعداً مسئول} يقول: سلوا الذي وعدتكم ـ أو قال وعدناكم ـ ننجز وعدهم وتنجزوه, وقال محمد بن كعب القرظي في قوله {كان على ربك وعداً مسئول} إن الملائكة تسأل لهم ذلك {ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم} وقال أبو حازم: إذا كان يوم القيامة, قال المؤمنون: ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا, فذلك قوله {وعداً مسئول} وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار, ثم التنبيه على حال أهل الجنة, كما ذكر تعالى في سورة الصافات حال أهل الجنة وما فيها من النضرة والحبور, ثم قال {أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم لاَكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم * إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون}.

** وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلّوا السّبِيلَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نّتّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـَكِن مّتّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً * فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً
يقول تعالى مخبراً عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله من الملائكة وغيرهم, فقال {ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله} قال مجاهد: هوعيسى والعزير والملائكة {فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} الاَية, أي فيقول تبارك وتعالى للمعبودين: أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني, أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم ؟ كما قال الله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للنا اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس. لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا علم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} الاَية, ولهذا قال تعالى مخبراً عما يجيب به المعبودون يوم القيامة {قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} قرأ الأكثرون بفتح النون من قوله {نتخذ من دونك من أولياء} أي ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحداً سواك لا نحن ولا هم, فنحن ما دعوناهم إلى ذلك, بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا, , ونحن برآء منهم ومن عبادتهم, كما قال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك} الاَية, وقرأ آخرون {ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} أي ما ينبغي لأحد أن يعبدنا فإنا عبيد لك فقراء إليك, وهي قريبة المعنى من الأولى {ولكن متعتهم وآباءهم} أي طال عليهم العمر حتى نسوا الذكر, أي نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك {وكانوا قوماً بور} قال ابن عباس: أي هلكى, وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري: أي لا خير فيهم. وقال ابن الزبعري حين أسلم:
يا رسول المليك إن لسانيراتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغــي ومن مال ميله مثبور
وقال الله تعالى: {فقد كذبوكم بما تقولون} أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى, كقوله تعالى {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} وقوله {فما تستطيعون صرفاً ولا نصر} أي لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم {ومن يظلم منكم} أي يشرك بالله {نذقه عذاباً كبير}.

** وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيراً
يقول تعالى مخبراً عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين: أنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به, ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة, وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم, فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة الظاهرة, ما يستدل به كل ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاؤوا به من الله, ونظير هذه الاَية الكريمة قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} وقوله {وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام} الاَية. وقوله تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} أي اختبرنا بعضكم ببعض, وبلونا بعضكم ببعض, لنعلم من يطيع ممن يعصي, ولهذا قال {أتصبرون وكان ربك بصير} أي بمن يستحق أن يوحي إليه, كما قال تعالى: {والله أعلم حيث يجعل رسالته} ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} قال: يقول الله: لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت, ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم. وفي صحيح مسلم عن عياض بن عماد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتلٍ بك» وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خير بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً, فاختار أن يكون عبداً رسولاً.