تفسير الطبري تفسير الصفحة 361 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 361
362
360
 الآية : 13 - 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مّقَرّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً * لاّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: وإذا أُلقـي هؤلاء الـمكذّبون بـالساعة من النار مكانا ضيقا, قد قرنت أيديهم إلـى أعناقهم فـي الأغلال دَعَوْا هُنالكَ ثُبُورا.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الثّبور, فقال بعضهم: هو الوَيْـل. ذكر من قال ذلك:
19939ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَادْعُوا ثُبُورا كَثِـيرا يقول: وَيْلاً.
19940ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: لا تَدْعُوا الـيَوْمَ ثُبُورا وَاحِدَا يقول: لا تدعوا الـيوم ويلاً واحدا, وادعوا ويلاً كثـيرا.
وقال آخرون: الثبور الهلاك. ذكر من قال ذلك:
19941ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: لا تَدْعُوا الـيَوْمَ ثُبُورا واحِدا الثبور: الهلاك.
قال أبو جعفر: والثبور فـي كلام العرب أصله انصراف الرجل عن الشيء, يقال منه: ما ثَبَرك عن هذا الأمر؟ أي ما صرفك عنه. وهو فـي هذا الـموضع دعاء هؤلاء القوم بـالندم علـى انصرافهم عن طاعة الله فـي الدنـيا والإيـمان بـما جاءهم به نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم حتـى استوجبوا العقوبة منه, كما يقول القائل: واندامتاه, واحسرتاه علـى ما فرّطت فـي جنب الله. وكان بعض أهل الـمعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول فـي قوله: دَعَوْا هُنالكَ ثُبُورا أي هَلَكة, ويقول: هو مصدر من ثُبِرَ الرجل: أي أهلك, ويستشهد لقـيـله فـي ذلك ببـيت ابن الزّبَعْرَي:
إذْ أُجارِي الشّيْطانَ فِـي سَنَنِ الْغَيّ وَمَنْ مالَ مَيْـلَهُ مَثْبُورُ
وقوله: لا تَدْعُوا الـيَوْمَ أيها الـمشركون ندما واحدا: أي مرّة واحدة, ولكن ادعوا ذلك كثـيرا. وإنـما قـيـل: لا تَدْعُوا الـيَوْمَ ثُبُورا وَاحِدا لأن الثبور مصدر, والـمصادر لا تـجمع, وإنـما توصف بـامتداد وقتها وكثرتها, كما يقال: قعد قعودا طويلاً, وأكل أكلاً كثـيرا.
19942ـ حدثنا مـحمد بن مرزوق, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, قال: حدثنا علـيّ بن زيد, عن أنس بن مالك, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أوّلُ مَنْ يُكْسَى حُلّةً مِنَ النّارِ إبْلِـيسُ, فَـيَضَعُها عَلـى حاجِبَـيْهِ, وَيَسْحَبُها مِنْ خَـلْفِهِ, وَذُرّيّتُهُ مِنْ خَـلْفِهِ, وَهُوَ يَقُولُ: يا ثُبُورَاه وَهُمْ يُنادُونَ: يا ثُبُورَهُمْ حتـى يَقِـفُوا عَلـى النّارِ, وَهُوَ يَقُولُ: يا ثُبُورَاهُ وَهُمْ يُنادُونَ: يا ثُبُورَهُمْ فَـيُقالُ: لا تَدْعُوا الـيَوْمَ ثُبُورا وَاحدا وَادْعُوا ثُبُورا كَثِـيرا».

الآية : 15 - 16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنّةُ الْخُلْدِ الّتِي وَعِدَ الْمُتّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً * لّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىَ رَبّكَ وَعْداً مّسْئُولاً }.
يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمكذّبـين بـالساعة: أهذه النار التـي وصف لكم ربّكم صفتها وصفة أهلها خير, أم بستان الـخـلد الذي يدوم نعيـمه ولا يبـيد, الذي وَعَد من اتقاه فـي الدنـيا بطاعته فـيـما أمره ونهاه؟ وقوله: كانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرا يقول: كانت جنة الـخـلد للـمتقـين جزاء أعمالهم لله فـي الدنـيا بطاعته وثواب تقواهم إياه ومصيرا لهم, يقول: ومصيرا للـمتقـين يصيرون إلـيها فـي الاَخرة. وقوله: لَهُمْ فِـيها ما يَشاءُونَ يقول: لهؤلاء الـمتقـين فـي جنة الـخـلد التـي وَعَدَهموها الله, ما يشاءون مـما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين. خالدِينَ فـيها, يقول: لابثـين فـيها ماكثـين أبدا, لا يزولون عنها ولا يزول عنهم نعيـمها. وقوله: كانَ عَلـى رَبّكَ وَعْدا مَسْئُولاً وذلك أن الـمؤمنـين سألوا ربهم ذلك فـي الدنـيا حين قالوا: آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلـى رُسُلِكَ يقول الله تبـارك وتعالـى: كان إعطاء الله الـمؤمنـين جنة الـخـلد التـي وصف صفتها فـي الاَخرة, وعْدا وعدهُمُ الله علـى طاعتهم إياه فـي الدنـيا ومسئلتهم إياه ذلك.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19943ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء الـخراسانـيّ, عن ابن عبـاس: كانَ عَلـى رَبّكَ وَعْدا مَسْئُولاً قال: فسألوا الذي وعدَهُم وتنـجزوه.
19944ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: كانَ عَلـى رَبّكَ وَعْدا مَسْئُولاً قال: سألوه إياه فـي الدنـيا, طلبوا ذلك فأعطاهم وعدهم, إذ سألوه أن يعطيهم فأعطاهم, فكان ذلك وعدا مسئولاً, كما وقّت أرزاق العبـاد فـي الأرض قبل أن يخـلقهم فجعلها أقواتا للسائلـين, وقّت ذلك علـى مسئلتهم. وقرأ: وَقَدّرَ فِـيها أقْوَاتَها فِـي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَوَاءً للسّائِلِـينَ.
وقد كان بعض أهل العربـية يوجه معنى قوله: وَعْدا مَسْئُولاً إلـى أنه معنـيّ به وعدا واجبـا, وذلك أن الـمسئول واجب, وإن لـم يُسْأل كالدين, ويقول: ذلك نظير قول العرب: لأعطينك ألفـا وعدا مسئولاً, بـمعنى واجب لك فتسأله.

الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلّوا السّبِيلَ }.
يقول تعالـى ذكره: ويوم نـحشر هؤلاء الـمكذّبـين بـالساعة العابدين الأوثان وما يعبدون من دون الله من الـملائكة والإنس والـجنّ. كما:
19945ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فـيقول: أأنْتُـمْ أضْلَلْتُـمْ عِبـادي هَؤُلاءِ قال: عيسى وعُزيرٌ والـملائكة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, نـحوه.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأه أبو جعفر القارىء وعبد الله بن كثـير: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَـيَقُولُ بـالـياء جميعا, بـمعنى: ويوم يحشرهم ربك, ويحشر ما يعبدون من دون فـيقول. وقرأته عامة قرّاء الكوفـيـين: «نَـحْشُرُهُمْ» بـالنون, «فنقول». وكذلك قرأه نافع.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا الـمعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: فَـيَقُولُ أأنْتُـمْ أضْلَلْتُـمْ عبـادِي هَؤُلاءِ يقول: فـيقول الله للذين كان هؤلاء الـمشركون يعبدونهم من دون الله: أأنتـم أضللتـم عبـادي هؤلاء؟ يقول: أنتـم أَزَلتْـموهم عن طريق الهدى ودعوتـموهم إلـى الغيّ والضلالة حتـى تاهوا وهلكوا, أم هم ضلوا السبـيـل؟ يقول: أم عبـادي هم الذين ضلوا سبـيـل الرشد والـحقّ وسلكوا العَطَب.

الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نّتّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـَكِن مّتّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: قالت الـملائكة الذين كان هؤلاء الـمشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى: تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مـما أضاف إلـيك هؤلاء الـمشركون, ما كان ينبغي لنا أن نتـخذ من دونك من أولـياء نوالـيهم, أنت ولـينا من دونهم, ولكن متعتهم بـالـمال يا ربنا فـي الدنـيا والصحة حتـى نَسُوا الذكر وكانوا قوما هَلْكي قد غلب علـيهم الشقاء والـخِذْلان.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19946ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَلَكِنّ مَتّعْتَهُمْ وآبـاءَهُمْ حتـى نَسُوا الذّكْرَ وكانُوا قَوْما بُورا يقول: قوم قد ذهبت أعمالهم وهم فـي الدنـيا, ولـم تكن لهم أعمال صالـحة.
19947ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وكانُوا قَوْما بُورا يقول: هلكى.
19948ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وكانُوا قَوْما بُورا يقول: هَلْكَى.
19949ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن الـحسن: وكانُوا قَوْما بُورا قال: هم الذين لا خير فـيهم.
19950ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وكانُوا قَوْما بُورا قال: يقول: لـيس من الـخير فـي شيء. البور: الذي لـيس فـيه من الـخير شيء.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتّـخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِـياءٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: نَتّـخِذَ بفتـح النون سوى الـحسن ويزيد بن القَعقاع, فإنهما قرآه: «أنْ نُتّـخَذَ» بضمّ النون. فذهب الذين فتـحوها إلـى الـمعنى الذي بـيّنّاه فـي تأويـله, من أن الـملائكة وعيسى ومن عُبد من دون الله من الـمؤمنـين هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم ولـيّ غير الله تعالـى ذكره. وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون, فإنهم وجهوا معنى الكلام إلـى أن الـمعبودين فـي الدنـيا إنـما تبرّءوا إلـى الله أن يكون كان لهم أن يُعْبدوا من دون الله جلّ ثناؤه, كما أخبر الله عن عيسى أنه قال إذا قـيـل أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّـخِذُونِـي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لـي أنْ أقُولَ ما لَـيْسَ لـي بِحَقَ ما قُلْتُ لَهُمْ إلاّ ما أمَرْتَنِـي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّـي وَرَبّكُمْ.
قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه بفتـح النون, لعلل ثلاث: إحداهنّ إجماع من القرّاء علـيها. والثانـية: أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة فـي سورة سَبَأ, فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا ثم يقولُ للـملائكة أهؤلاءِ إياكُم كانُوا يَعْبُدون قالوا سُبْحَانك أنتَ وَلِـيّنا من دُونِهِمْ, فأخبر عن الـملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبـادة من عبدهم تبرّءُوا إلـى الله من ولايتهم, فقالوا لربهم: أنت ولـيّنا من دونهم, فذلك يوضّح عن صحة قراءة من قرأ ذلك: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتّـخِذ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِـياء بـمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نتـخذهم من دونك أولـياء. والثالثة: أن العرب لا تدخـل «مِنْ» هذه التـي تدخـل فـي الـجحد إلاّ فـي الأسماء, ولا تدخـلها فـي الأخبـار, لا يقولون: ما رأيت أخاك من رجل, وإنـما يقولون: ما رأيت من أحد, وما عندي من رجل وقد دخـلت هاهنا فـي الأولـياء وهي فـي موضع الـخبر, ولو لـم تكن فـيها «مِنْ», كان وجها حسنا. وأما البُور: فمصدر واحد, وجمع للبـائر, يقال: أصبحت منازلهم بُورا: أي خالـية لا شيء فـيها, ومنه قولهم: بـارت السّوق وبـار الطعام: إذا خلا من الطّلاب والـمشتري فلـم يكن له طالب, فصار كالشيء الهالك ومنه قول ابن الزّبَعْرَى:
يا رَسُولَ الـمَلِـيك إنّ لسانِـيرَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
وقد قـيـل: إن بور: مصدر, كالعدل والزور والقطع, لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. وإنـما أريد بـالبور فـي هذا الـموضع أن أعمال هؤلاء الكفـار كانت بـاطلة لأنها لـم تكن لله, كما ذكرنا عن ابن عبـاس.
الآية : 19
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عما هو قائل للـمشركين عند تبرّي من كانوا يعبدونه فـي الدنـيا من دون الله منهم: قد كذّبوكم أيها الكافرون من زعمتـم أنهم أضلوكم ودعوكم إلـى عبـادتهم بـما تَقُولُونَ يعنـي بقولكم, يقول: كذّبوكم بكذبكم.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: 19951ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ يقول الله للذين كانوا يعبدون عيسى وعُزيزا والـملائكة, يكذّبون الـمشركين.
19952ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فَقَدْ كَذّبوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ قال: عيسى وعُزير والـملائكة, يكذّبون الـمشركين بقولهم.
وكان ابن زيد يقول فـي تأويـل ذلك, ما:
19953ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعونَ صَرْفـا وَلا نَصْرا قال: كذّبوكم بـما تقولون بـما جاء من عند الله جاءت به الأنبـياء والـمؤمنون آمنوا به وكذب هؤلاء.
فوجه ابن زيد تأويـل قوله: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ إلـى: فقد كذّبوكم أيها الـمؤمنون الـمكذّبون بـما جاءهم به مـحمد من عند الله بـما تقولون من الـحقّ, وهو أن يكون خبرا عن الذين كذّبوا الكافرين فـي زعمهم أنهم دعَوْهم إلـى الضلالة وأمروهم بها, علـى ما قاله مـجاهد من القول الذي ذكرنا عنه, أشبه وأولـى لأنه فـي سياق الـخبر عنهم. والقراءة فـي ذلك عندنا: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ بـالتّاء, علـى التأويـل الذي ذكرناه, لإجماع الـحجة من قرّاء الأمصار علـيه. وقد حُكي عن بعضهم أنه قرأه: «فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِـمَا يَقُولُونَ» بـالـياء, بـمعنى: فقد كذّبوكم بقولهم.
وقوله جلّ ثناؤه: فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفـا وَلا نَصْرا يقول: فما يستطيع هؤلاء الكفـار صرف عذاب الله حين نزل بهم عن أنفسهم, ولا نَصْرَها من الله حين عذّبها وعاقبها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19954ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفـا وَلا نَصْرا قال: الـمشركون لا يستطيعونه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فَمَا تَسْتَطيعُونَ صَرفـا وَلا نَصْرا قال: الـمشركون.
قال ابن جُرَيج: لا يستطيعون صرف العذاب عنهم, ولا نصر أنفسهم.
19955ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفـا وَلا نَصْرا قال: لا يستطيعون يصرفون عنهم العذاب الذي نزل بهم حين كُذّبوا, ولا أن ينتصروا. قال: وينادي منادٍ يوم القـيامة حين يجتـمع الـخلائق: ما لكم لا تناصرون؟ قال: من عبد من دون الله لا ينصر الـيوم من عبده, وقال العابدون من دون الله لا ينصره الـيوم إلهه الذي يعبد من دون الله, فقال الله تبـارك وتعالـى: بَلْ هُمُ الـيَوْمَ مُسْتَسْلِـمُونَ. وقرأ قول الله جلّ ثناؤه: فإنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ.
ورُوي عن ابن مسعود فـي ذلك ما:
19956ـ حدثنا به أحمد بن يونس, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا حجاج, عن هارون, قال: هي فـي حرف عبد الله بن مسعود: «فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَكَ صَرْفـا».
فإن تكن هذه الرواية عنه صحيحة, صحّ التأويـل الذي تأوّله ابن زيد فـي قوله: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ, ويصير قوله: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ خبرا عن الـمشركين أنهم كذّبوا الـمؤمنـين, ويكون تأويـل قوله حينئذٍ: فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفـا وَلا نَصْرا فما يستطيع يا مـحمد هؤلاء الكفـار لك صرفـا عن الـحقّ الذي هداك الله له, ولا نصر أنفسهم, مـما بهم من البلاء الذي همّ فـيه, بتكذيبهم إياك.
يقول تعالـى ذكره للـمؤمنـين به: وَمَنْ يَظْلِـمْ منْكُمْ أيها الـمؤمنون يعنـي بقوله: وَمَنْ يَظْلِـمْ ومن يشرك بـالله فـيظلـم نفسه فذلك نذقه عذابـا كبـيرا, كالذي ذكرنا أن نذيقه الذين كذّبوا بـالساعة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19957ـ حدثنا القاسم, قال: ثنـي الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, فـي قوله: وَمَنْ يَظْلِـمْ مِنْكُمْ قال: يُشْرك نُذِقْهُ عَذَابـا كَبِـيرا.
19958ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن, فـي قوله: وَمَنْ يَظْلِـمْ مِنْكُمْ قال: هو الشرك.
الآية : 20
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيراً }.
وهذا احتـجاج من الله تعالـى ذكره لنبـيه علـى مشركي قومه الذين قالوا: ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَـمْشِي فِـي الأسْوَاقِ وجواب لهم عنه, يقول لهم جلّ ثناؤه: وما أنكر يا مـحمد هؤلاء القائلون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويـمشي فـي الأسواق, من أكلك الطعام ومشيك فـي الأسواق, وأنت لله رسول فقد علـموا أنا ما أرسلنا قبلك من الـمرسلـين إلاّ إنهم لـيأكلون الطعام ويـمشون فـي الأسواق كالذي تأكل أنت وتـمشي, فلـيس لهم علـيك بـما قالوا من ذلك حجة.
فإن قال قائل: فإن «مَنْ» لـيست فـي التلاوة, فكيف قلت معنى الكلام: إلاّ مَنْ إِنهم لـيأكلون الطعام؟ قـيـل: قلنا فـي ذلك معناه: أن الهاء والـميـم فـي قوله: «إنهم», كناية أسماء لـم تُذكر, ولا بدّ لها من أن تعود علـى من كُنِـي عنه بها, وإنـما ترك ذكر «مَنْ» وإظهاره فـي الكلام اكتفـاء بدلالة قوله: مِنَ الـمُرْسَلِـينَ علـيه, كما اكتفـي فـي قوله: وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ من إظهار «مَنْ», ولا شكّ أن معنى ذلك: وما منا إلاّ من له مقام معلوم, كما قـيـل: وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها ومعناه: وإن منكم إلاّ من هو واردها فقوله: إنّهُمْ لَـيَأْكُلُونَ الطّعامَ صلة ل «مَنِ» الـمتروك, كما يقال فـي الكلام: ما أرسلت إلـيك من الناس إلاّ مَنْ إنه لـيبلغك الرسالة, فإنه «لـيبلغك الرسالة» صلة لـ «مَنْ».
وقوله: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً يقول تعالـى ذكره: وامتـحنا أيها الناس بعضكم ببعض, جعلنا هذا نبـيّا وخصصناه بـالرسالة, وهذا ملِكا وخصصناه بـالدنـيا, وهذا فقـيرا وحرمناه الدنـيا, لنـختبر الفقـير بصبره علـى ما حُرِم مـما أعطيه الغنـيّ, والـملك بصبره علـى ما أعطيه الرسول من الكرامة, وكيف رضي كل إنسان منهم بـما أعطى وقُسِم له, وطاعته ربه مع ما حرِم مـما أعطى غيره. يقول: فمن أجل ذلك لـم أعط مـحمدا الدنـيا, وجعلته يطلب الـمعاش فـي الأسواق, ولأبتلـيكم أيها الناس, وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلـى ما دعاكم إلـيه, بغير عَرَض من الدنـيا ترجونه من مـحمد أن يعطيكم علـى اتبـاعكم إياه لأنـي لو أعطيته الدنـيا, لسارع كثـير منكم إلـى اتبـاعه طمعا فـي دنـياه أن ينال منها.
وبنـحو الذي قلنا تأويـل فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19959ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء, قال: ثنـي عبد القدوس, عن الـحسن, فـي قوله: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً... الاَية, يقول هذا الأعمى: لو شاء الله لـجعلنـي بصيرا مثل فلان, ويقول هذا الفقـير: لو شاء الله لـجعلنـي غنـيّا مثل فلان, ويقول هذا السقـيـم: لو شاء الله لـجعلنـي صحيحا مثل فلان.
19960ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, فـي قوله: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبرُونَ قال: يُـمْسك عن هذا ويُوَسّع علـى هذا, فـيقول: لـم يعطنـي مثل ما أعطى فلانا, ويُبْتَلَـى بـالوجع كذلك, فـيقول: لـم يجعلنـي ربـي صحيحا مثل فلان فـي أشبـاه ذلك من البلاء, لـيعلـم من يصبر مـمن يجزع.
19961ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, فـيـما يروي الطبري, عن عكرِمة, أو عن سعيد, عن ابن عبـاس, قال: وأنزل علـيه فـي ذلك من قولهم: ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَـمْشِي فِـي الأسْوَاقِ... الاَية: وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الـمُرْسَلِـينَ إلاّ إِنّهُمْ لَـيَأْكُلُونَ الطّعامَ ويَـمْشُونَ فِـي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ أي جعلت بعضكم لبعض بلاء, لتصبروا علـى ما تسمعون منهم, وترون من خلافهم, وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم علـيه الدنـيا ولو شئت أن أجعل الدنـيا مع رسلـي فلا يخالفون لفعلت, ولكنـي قد أردت أن أبتلـي العبـاد بكم وأبتلـيكم بهم.
وقوله: وكانَ رَبّكَ بَصِيرا يقول: وربك يا مـحمد بصير بـمن يجزع ومن يصبر علـى ما امتُـحِن به من الـمـحن. كما:
19962ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: وكانَ رَبّكَ بَصِيرا إن ربك لبصير بـمن يجزع ومن يصبر