تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 361 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 361

360

12- "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً" هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة لسعيراً لأنه مؤنث بمعنى النار، قيل معنى إذا رأتهم: إذا ظهرت لهم فكانت بمرأى الناظر في البعد، وقيل المعنى: إذا رأتهم خزنتها، وقيل إن الرؤية منها حقيقية وكذلك التغيظ والزفير، ولا مانع من أن يجعلها الله سبحانه مدركة هذا الإدراك. ومعنى "من مكان بعيد" أنها رأتهم وهي بعيدة عنهم، قيل بينها وبينهم مسيرة خمسمائة عام. ومعنى التغيظ: أن الصوت الذي يسمع من الجوف. قال الزجاج: المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت: أي سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ. وقال قطرب: أراد عملوا لها تغيظاً وسمعوا لها زفيراً كما قال الشاعر: متقلداً سيفاً ورمحاً أي وحاملاً رمحاً، وقيل المعنى: سمعوا فيها تغيظاً وزفيراً للمعذبين كما قال: "لهم فيها زفير وشهيق" وفي اللام متقاربان، تقول: افعل هذا في الله ولله.
13- "وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً" وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدة وتناهي البلاء عليهم، وانتصاب "مقرنين" على الحال: أي إذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع مصفدين بالحديد، وقيل مكتفين، وقيل قرنوا مع الشياطين: أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم "دعوا هنالك" أي في ذلك المكان الضيق "ثبوراً" أي هلاكاً. قال الزجاج: وانتصابه على المصدرية: أي ثبرنا ثبورا، وقيل منتصب على أنه مفعول له، والمعنى: أنهم يتمنون هنالك الهلاك وينادونه لما حل بهم من البلاء.
فأجيب عليهم بقوله: 14- "لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً" أي فيقال لهم هذه المقالة، والقائل لهم هم الملائكة: أي اتركوا دعاء ثبور واحد، فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك وأعظم، كذا قال الزجاج "وادعوا ثبوراً كثيراً" والثبور مصدر يقع على القليل والكثير فلهذا لم يجمع، ومثله ضربته ضرباً كثيراً، وقعد قعوداً طويلاً، فالكثرة هاهنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نسبه، فإنه شيء واحد. والمعنى: لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاءً واحداً وادعوه أدعية كثيرة، فإن ما أنتم فيه من العذاب أشد من ذلك لطول مدته وعدم تناهيه، وقيل هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول، وقيل إن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً بل هو ثبور كثير لأن العذاب أنواع، والأولى أن المراد بهذا الجواب عليهم الدلالة على خلود عذابهم وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه، ثم وبخهم الله سبحانه توبيخاً بالغاً على لسان رسوله.
فقال: 15- "قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون" والإشارة بقوله ذلك إلى السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة: أي أتلك السعير خير أم جنة الخلد، وفي إضافة الجنة إلى الخلد إشعار بدوام نعيمها وعدم انقطاعه، ومعنى "التي وعد المتقون" التي وعدها المتقون، والمجيء بلفظ خير هنا مع أنه لا خير في النار أصلاص، لأن العرب قد تقول ذلك، ومنه ما حكاه سيبويه عنهم أنهم يقولون: السعادة أحب إليك أم الشقاوة؟ وقيل: ليس هذا من باب التفضيل، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن كما قال: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء ثم قال سبحانه: "كانت لهم جزاءً ومصيراً" أي كانت تلك الجنة للمتقين جزاءً على أعمالهم ومصيراً يصيرون إليه.
16- " لهم فيها ما يشاؤون " أي ما يشاءونه من النعيم وضروب الملاذ كما في قوله: "ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم" وانتصاب خالدين على الحال، وقد تقدم تحقيق معنى الخلود "كان على ربك وعداً مسؤولاً" أي كان ما يشاءونه، وقيل كان الخلود، وقيل كان الوعد المدلول عليه بقوله: وعد المتقون، ومعنى الوعد المسؤول: الوعد المحقق بأن يسأل ويطلب كما في قوله: " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " وقيل إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله: "وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم" وقيل المراد به الوعد الواجب وإن لم يسأل. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس "أن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن نسودك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي مما تقولون، ما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضنا عليك، أو قالوا: فإذا لم تفعل هذا فسل لنفسك وسل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ،حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بغثني بشيراً ونذيراً، فأنزل الله في ذلك " وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام " "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً""أي جعلت بعضكم لبعض بلاءً لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك ولا نعطها أحداً بعدك ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئاً وإن شئت جمعتها لك في الآخرة، فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله سبحانه: "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً". وأخرج نحوه عنه ابن مردويه من طريق أخرى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يقل علي ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً، قيل يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: نعم، أما سمعتم الله يقول: "إذا رأتهم من مكان بعيد"". وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس في قوله: "إذا رأتهم من مكان بعيد" قال: من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتي بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشد بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل بر وفاجر "سمعوا لها تغيظاً وزفيراً" تزفر زفرة لا تبقي قطرة من دمع إلا بدت، ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها وتبلغ القلوب الحناجر. وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله: "وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين" قال: والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "دعوا هنالك ثبوراً" قال: ويلاً "لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً" يقول: لا تدعوا اليوم ويلاً واحداً. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث. قال السيوطي بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من يكسى حلته من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه، ويقولون يا ثبورهم حتى يقف على الناس فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم، فيقال لهم: لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً". وإسناد أحمد فذكره. وفي علي بن زيد بن جدعان مقال معروف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "كان على ربك وعداً مسؤولاً" يقول: سلموا الذي وعدكم تنجزوه.
قوله: 17- "يوم نحشرهم" الظرف منصوب بفعل مضمر: أي واذكر، وتعليق التذكير باليوم مع أن المقصود ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد كما مر مراراً. قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في الآية الدوري "يحشرهم" بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لقوله في أول الكلام "كان على ربك" والباقون بالنون على التعظيم ما عدا الأعرج فإنه قرأ نحشرهم بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضمها، ورده أبو حبان باستواء المضموم والمكسور إلا أن يشتهر أحدهما اتبع "وما يعبدون من دون الله" معطوف على مفعول نحشر، وغلب غير العقلاء من الأصنام والأوثان ونحوها على العقلاء من الملائكة والجن والمسيح تنبيهاً على أنها جميعاً مشتركة في كونها غير صالحة لكونها آلهة، أو لأن من يعبد من لا يعقل أكثر ممن يعبد من يعقل منها، فغلبت اعتباراً بكثرة من يعبدها وقال مجاهد وابن جريج: المراد الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير بدليل خطابهم وجوابهم فيما بعد. وقال الضحاك وعكرمة والكلبي: المراد الأصنام خاصة، وإنها وإن كانت لا تسمع ولا تتكلم فإن الله سبحانه يجعلها يوم القيامة سامعة ناطقة، " فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل " قرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن كثير وحفص فنقول بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد كما اختار القراءة بها في نحشرهم، وكذا أبو حاتم. والاستفهام في قوله: ءأنتم أضللتم للتوبيخ والتقريع. والمعنى: أكان ضلالهم بسببكم وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم، أم هم ضلوا عن سبيل الحق بأنفسهم لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق والتدبر فيما يتوصل به إلى الصواب.
وجملة 18- "قالوا سبحانك" مستأنفة جواب سؤال مقدر، ومعنى سبحانك: التعجب مما قيل لهم لكونهم ملائكة أو أنبياء معصومين، أو جمادات لا تعقل: أي تنزيهاً لك "ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء" أي ما صح ولا استقام لنا أن نتخذ من دونك أولياء فنعبدهم، فكيف ندعو عبادك إلى عبادتنا نحن مع كوننا لا نعبد غيرك، والولي يطلق على التابع كما يطلق على المتبوع، هذا معنى الآية على قراءة الجمهور نتخذ مبنياً للفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر "نتخذ" مبنياً للمفعول: أي ما كان ينبغي لنا أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك. قال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا تجوز هذه القراءة ولو كانت صحيحة لحذفت من الثانية. قال أبو عبيدة: لا تجوز هذه القراءة لأن الله سبحانه ذكر من مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نتخذ من دونك أولياء. وقيل إن من الثانية زائدة. ثم حكى عنهم سبحانه بانهم بعد هذا الجواب ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان فقال: "ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر" وفي هذا ما يدل على أنهم هم الذين ضلوا السبيل، ولم يضلهم غيرهم، والمعنى: ما أضللناهم، ولكنك يا رب متعتهم ومتعت آباءهم بالنعم ووسعت عليهم الرزق وأطلت لهم العمر حتى غفلوا عن ذكرك ونسوا موعظتك والتدبر لكتابك والنظر في عجائب صنعك وغرائب مخلوقاتك. وقرأ أبو عيسى الأسود القارئ ينبغي مبنياً للمفعول. قال ابن خالويه: زعم سيبويه أنها لغة. وقيل المراد بنسيان الذكر هنا هو ترك الشكر "وكانوا قوماً بوراً" أي وكان هؤلاء الذين أشركوا بك وعبدوا غيرك في قضائك الأزلي قوماً بوراً: أي هلكى، مأخوذ من البوار وهو الهلاك: يقال: رجل بائر وقوم بور، يستوي فيه الواحد والجماعة لأنه مصدر يطلق على القليل والكثير ويجوز أن يكون جمع بائر. وقيل البوار الفساد. يقال بارت بضاعته: أي فسدت، وأمر بائر: أي فاسد وهي لغة الأزد. وقيل المعنى: لا خير فيهم، مأخوذ من بوار الأرض وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير، وقيل إن البوار الكساد، ومنه بارت السلعة إذا كسدت.
19- "فقد كذبوكم بما تقولون" في الكلام حذف، والتقدير: فقال الله عند تبري المعبودين مخاطباً للمشركين العابدين لغير الله فقد كذبوكم: أي فقد كذبكم المعبودون بما تقولون: أي في قولكم إنهم آلهة " فلا يستطيعون " أي الآلهة "صرفاً" أي دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجوه، وقيل حيلة "ولا نصراً" أي ولا يستطيعون نصركم، وقيل المعنى فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون صرفاً للعذاب الذي عذبهم الله به ولا نصراً من الله، وهذا الوجه مستقيم على قراءة من قرأ "تستطيعون" بالفوقية وهي قراءة حفص، وقرأ الباقون بالتحتية. وقال ابن زيد: المعنى: فقد كذبوكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فمعنى بما تقولون: ما تقولونه من الحق. وقال أبو عبيد: المعنى فما يستطيعون لكم صرفاً عن الحق الذي هداكم الله إلأيه ولا نصراً لأنفسهم بما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقرأ الجمهور "بما تقولون" بالتاء الفوقية على الخطاب. وحكى الفراء أنه يجوز أن يقرأ فقد كذبوكم مخففاً بما يقولون: أي كذبوكم في قولهم وكذا قرأ بالياء التحتية مجاهد والبزي "ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً" هذا وعيد لكل ظالم ويدخل تحته الذين فيهم السياق دخولاً أولياً، والعذاب الكبير عذاب النار، وقرئ يذقه بالتحتية، وهذه الآية وأمثالها مقيدة بعدم التوبة. ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله موضحاً لبطلان ما تقدم من قوله: يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
فقال: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" قال الزجاج: الجملة اواقعة بعد إلا صفة لموصوف محذوف، والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا أكلين وماشين، وإنما حذ الموصوف لأن في قوله من المرسلين دليلاً عليه، نظيره "وما منا إلا له مقام معلوم" أي وما منا أحد. وقال الفراء لا محل لها من الإعراب، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول، والتقدير: إلا من أنهم فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى المقدرة، ومثله قوله تعالى: "وإن منكم إلا واردها" أي إلا من يردها، وبه قرأ االكسائي. قال الزجاج: هذا خطأ لأن من الموصولة لا يجوز حذفها. وقال ابن الأنباري: إنها في محل نصب على الحال، والتقدير: إلا وإنهم، فالمحذوف عنده الواو. قرأ الجمهور "إلا إنهم" بكسر إن لوجود اللام في خبرها كما تقرر في علم النحو، وهو مجمع عليه عندهم. قال النحاس: إلا أن علي بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: يجوز في إن هذه الفتح وإن كان بعدها اللام وأحسبه وهما. وقرأ الجمهور. "يمشون" بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين. وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهي بمعنى القراءة الأولى، قال الشاعر: أمشي بأعطان المياه وأتقي قلائص منها صعبة وركوب وقال كعب بن زهير: منه تظل سباع الحي ضامزة ولا تمشي بواديه الأراجيل "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" هذا الخطاب عام للناس، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض فالصحيح فتنة للمريض والغني فتنة للفقير، وقيل المراد بالبعض الأول كفار الأمم، وبالبعض الثاني المرسل، ومعنى الفتنة الابتلاء والمحنة. والأول لأولى، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به، فالمريض يقول لم لم أجعل كالصحيح؟ وكذا كل صاحب آفة، والصحيح مبتلى بالمريض فلا يضجر منه ولا يحقره، والغني مبتلى بالفقير يواسيه، والفقير مبتلى بالغني يحسده، ونحو هذا مثله. وقلي المراد بالآية أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف وقال لا أسلم بعده، فيكون له علي السابقة والفضل، فيقيم على كفره، فذلك افتتان بعضهم لبعض، واختار هذا الفراء والزجاج. ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة "أتصبرون" هذا الاستفهام للتقرير، وفي الكلام حذف تقديره أم لا تصبرون: أي أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة والابتلاء العظيم. قيل موقع هذه الجملة الاستفهامية ها هنا موقع قوله: "أيكم أحسن عملاً" في قوله: "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" ثم وعد الصابرين بقوله: "وكان ربك بصيرا" أي بكل من يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلاً منهما بما يستحقه. وقيل معنى أتصبرون: اصبروا مثل قوله: "فهل أنتم منتهون" أي انتهوا.