تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 37 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 37

036

الخطاب في هذه الآية بقوله: 232- "وإذا طلقتم" وبقوله: "فلا تعضلوهن" إما أن يكون للأزواج، ويكون معنى العضل منهم أن يمنعوهن من أن يتزوجن من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن لحمية الجاهلية، كما يقع كثيراً من الخلفاء والسلاطين غيرة على من كن تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم، لأنهم لما نالوه من رياسة الدنيا وما صاروا فيه من النخوة والكبرياء يتخيلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم إلا من عصمه الله منهم بالورع والتواضع، وإما أن يكون الخطاب للأولياء، ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم أنهم سبب له لكونهم المزوجين للنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهن. وبلوغ الأجل المذكور هنا المراد به المعنى الحقيقي: أي نهايته لا كما سبق في الآية الأولى. والعضل: الحبس. وحكى الخليل دجاجة معضلة قد احتبس بيضها، وقيل العضل: التضييق والمنع، وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال: أردت أمراً فعضلتني عنه: أي منعتني وضيقت علي، وأعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل. وقال الأزهري: أصل العضل من قولهم عضلت الناقة: إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة: نشب بيضها، وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي رحمه الله: ‌إذا المعضلات تصدين لي كشفت خفاء لها بالنظر ويقال أعضل الأمر: إذا اشتد، وداء عضال: أي شديد عسير البرء أعيا الأطباء، وعضل فلان آيمه: أي منعها. يعضلها بالضم والكسر لغتان. وقوله: "أن ينكحن" أي من أن ينكحن فمحله الجر عند الخليل، والنصب عند سيبويه والفراء، وقيل: هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب في قوله: "فلا تعضلوهن". وقوله: "أزواجهن" إن أريد به المطلقون لهن فهو مجاز باعتبار ما كان، وإن أريد به من يردن أن يتزوجنه فهو مجاز باعتبار ما سيكون. وقوله: "ذلك" إشارة إلى ما فصل من الأحكام، وإنما أفرد مع كون المذكور قبله جمعاً حملاً على معنى الجمع بتأويله بالفريق ونحوه. وقوله: "ذلكم" محمول على لفظ الجمع، خالف سبحانه ما بين الإشارتين افتناناً. وقوله: "أزكى" أي أنمى وأنفع "وأطهر" من الأدناس "والله يعلم" ما لكم فيه الصلاح "وأنتم لا تعلمون" ذلك. وقد أخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها وحاجته إلى بعلها فأنزل الله "وإذا طلقتم النساء" الآية. قال: ففي نزلت هي الآية، فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدو له تزويجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك، فمنعها وليها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال: نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري، كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة وانقضت عدتها، فأراد مراجعتها فأبى جابر، فقال: طلقت بنت عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية، وكانت المرأة تريد زوجها، فأنزل الله "وإذا طلقتم النساء". وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل "إذا تراضوا بينهم بالمعروف" يعني بمهر وبينة ونكاح مؤتنف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنكحوا الأيامى، فقال رجل: يا رسول الله ما العلائق بينهم؟ قال: ما تراضى عليهن أهلهن". وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: "والله يعلم وأنتم لا تعلمون" قال: الله يعلم من حب كل واحد منهما لصاحبه ما لا تعلم أنت أيها الولي.
لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق، ذكر الرضاع، لأن الزوجين قد يفترقان وبينهما ولد، ولهذا قيل: إن هذا خاص بالمطلقات، وقيل: هو عام. وقوله: 233- "يرضعن" قيل: هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه، وقيل: هو خبر على بابه ليس هو في معنى الأمر على حسب ما سلف في قوله: "يتربصن" وقوله: "كاملين" تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي. وقوله: "لمن أراد أن يتم الرضاعة" أي ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة، وفيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتماً، بل هو التمام، ويجوز الاقتصار على ما دونه. وقرأ مجاهد وابن محيصن لمن أراد أن تنم بفتح التاء ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة بكسر الراء من الرضاعة وهي لغة. وروي عن مجاهد أنه قرأ الرضعة، وقرأ ابن عباس لمن أراد أن يكمل الرضاعة . قال النحاس: لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بفتح الراء. وحكى الكوفيون جواز الكسر. والآية تدل على وجوب الرضاع على الأم لولدها، وقد حمل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها. قوله: "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن" أي على الأب الذي يولد له، وآثر هذا اللفظ دون قوله: وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات، ولهذا ينسبون إليهم دونهن كأنهن إنما ولدن لهم فقط، ذكر معناه في الكشاف، والمراد بالرزق هنا: الطعام الكافي المتعارف به بين الناس، والمراد بالكسوة: ما يتعارفون به أيضاً، وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات. وهذا في المطلقات، وأما غير المطلقات فنفقتهن وكسوتهن واجبة على الأزواج من غير إرضاعهن لأولادهن. وقوله: "لا تكلف نفس إلا وسعها" هو تقييد لقوله: "بالمعروف" أي هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ويعجز عنه، وقيل: المراد لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف، بل يراعى القصد. قوله: "لا تضار" قرأ أبو عمرو وابن كثير وجماعة ورواه أبان عن عاصم بالرفع على الخبر، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في المشهور عنه تضار بفتح الراء المشددة على النهي، وأصله لا تضارر أو لا تضارر على البناء للفاعل أو للمفعول: أي لا تضارر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق والكسوة، أو بأن تمرط في حفظ الولد والقيام بما يحتاج إليه، أو لا تضارر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه أو ينتزع ولدها منها بلا سبب، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين، وقرأ عمر بن الخطاب لا تضارر على الأصل بفتح الراء الأولى، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع لا تضار بإسكان الراء وتخفيفها، وروي عن الإسكان والتشديد، وقرأ الحسن وابن عباس لا تضارر بكسر الراء الأولى، ويجوز أن تكون الباء في قوله: بولده صلة لقوله: تضار على أنه بمعنى تضر: أي لا تضر والدة بولدها فتسيء تربيته أو تقصر في غذائه، وأضيف الولد تارة إلى الأب وتارة إلى الأم، لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقرير لها: أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه فلا تضاره بسبب ولده. قوله: "وعلى الوارث" هو معطوف على قوله: "وعلى المولود له" وما بينهما تفسير للمعروف، أو تعليل له معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. واختلف أهل العلم في معنى قوله: "وعلى الوارث مثل ذلك" فقيل: هو وارث الصبي: أي إذا مات المولود له على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه كما كان يلزم أباه ذلك، قاله عمر بن الخطاب وقتادة والسدي والحسن ومجاهد وعطاء وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وابن أبي ليلى على خلاف بينهم، هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيباً من الميراث، أو على الذكور فقط، أو على كل ذي رحم له وإن لم يكن وارثاً منه، وقيل: المراد بالوارث وارث الأب تجب عليه نفقة المرضعة وكسوتها بالمعروف، قاله الضحاك. وقال مالك في تفسير هذه الآية بمثل ما قاله الضحاك، ولكنه قال: إنها منسوخة، وإنما لا تلزم الرحل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه، وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبي مال، فإن كان له مال أخذت أجرة رضاعة من ماله. وقيل: المراد بالوارث المذكور في الآية هو الصبي نفسه: أي عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه وورث من ماله، قاله قبيصة بن ذؤيب وبشير بن ناصر قاضي عمر بن عبد العزيز. وروي عن الشافعي، وقيل: هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال، قاله سفيان الثوري، وقيل: إن معنى قوله تعالى: "وعلى الوارث مثل ذلك" أي: وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع والخدمة والتربية. وقيل: إن معنى قوله تعالى: "وعلى الوارث مثل ذلك" أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب، وبه قالت طائفة من أهل العلم، قالوا: وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل. قال القرطبي: وهو الصحيح، إذ لو أراد الجميع الذي هو الرضاع والإنفاق وعدم الضرر يقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارة، وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب. قال ابن عطية: وقال مالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك وجماعة من العلماء: المراد بقوله مثل ذلك أن لا تضار. وأما الرزق والكسوة فلا يجب شيء منه. وحكى ابن القاسم عن مالك مثل ما قدمنا عنه في تفسير هذه الآية ودعوى النسخ. ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة، فإن ما خصصوا به معنى قوله: "وعلى الوارث مثل ذلك" من ذلك المعنى: أي عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده قوله: "لا تضار والدة بولدها" لصدق ذلك على كل مضارة ترد عليها من المولود له أو غيره. وأما قول القرطبي: لو أراد الجميع لقال مثل هؤلاء، فلا يخفى ما فيه من الضعف البين، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور أو نحوه. وأما ما ذهب إليه أهل القول الأول من أن المراد بالوارث وارث الصبي، فيقال عليه إن لم يكن وارثاً حقيقة مع وجود الصبي حياً، بل هو وارث مجازاً باعتبار ما يؤول إليه. وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي، لكن في إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبي ما فيه، ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيراً، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدم من ذكر الوالدات والمولود له والوالد، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم. قوله: " فإن أرادا فصالا " الضمير للوالدين. والفصال: الفطام عن الرضاع: أي التفريق بين الصبي والثدي، ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه. وقوله: "عن تراض منهما" أي صادراً عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل الحولين "فلا جناح عليهما" في ذلك الفصال. سبحانه لما بين أن مدة الرضاع حولين كاملين قيد ذلك بقوله: "لمن أراد أن يتم الرضاعة" وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبي قبل الحولينر كان ذلك جائزاً له، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين ونشاورهما فلا بد من الجمع بين الأمرين بأن يقال: إن الإرادة المذكورة في قوله: "لمن أراد أن يتم الرضاعة" لا بد أن تكون منهما، أو يقال: إن تلك الإرادة إذا لم يكن الأبوان للصبي حيين بأن كان الموجود أحدهما، أو كانت المرضعة للصبي ظئراً غير أمه. والتشاور: استخراج الرأي يقال: شرت العسل: استخرجته، وشرت الدابة: أجريتها لاستخراج جريها، فلا بد لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي الآخر ويشاوره حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك. قوله: "وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم" قال الزجاج: التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة. وعن سيبويه أنه حذف اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول محذوف، والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم "إذا سلمتم ما آتيتم" بالمد أي أعطيتم، وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير، فإنه قرأ بالقصر: أي فعلتم، ومنه قول زهير: وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل والمعنى أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتكم إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما قد أرضعن لكم إلى وقت إرادة الاسترضاع، قاله سفيان الثوري ومجاهد. وقال قتادة والزهري: إن معنى الآية: إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي وكان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر، وعلى هذا فيكون قوله: "سلمتم" عاماً للرجال والنساء تغليباً وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط، وقيل المعنى: إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها، فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه: أي إعطاءه إلى المرضعات بالمعروف: أي بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهن أو حط بعض ما هو لهن من ذلك، فإن عدم توفير أجرهن يبعثهن على التساهل بأمر الصبي والتفريط في شأنه. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: "والوالدات يرضعن أولادهن" قال: المطلقات "حولين" قال: سنتين "لا تضار والدة بولدها" يقول: لا تأبى أن ترضعه ضراراً لتشق على أبيه "ولا مولود له بولده" يقول: ولا يضار الوالد بولده فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك "وعلى الوارث" قال: يعني الولي من كان "مثل ذلك" قال: النفقة بالمعروف وكفالته ورضاعه إن لم يكن للمولود مال، وأن لا تضار أمه " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " قال: غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما فلا جناح عليهما " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم " قال : خيفة الضيعة على الصبي " فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف" قال: حساب ما أرضع به الصبي. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية أنه قال: المراد بقوله: "والوالدات يرضعن أولادهن" هي في الرجل يطلق امرأته وله منها ولد. وقال في قوله: "إذا سلمتم ما آتيتم" قال: ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها. وأخرج أبو داود في ناسخه عن زيد بن أسلم في قوله: "والوالدات يرضعن أولادهن" قال: إنها المرأة تطلق أو يموت عنها زوجها. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في التي تضع لستة أشهر أنها ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً، ثم تلا "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً". وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف" قال: على قدر الميسرة. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: "لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده" ليس لها أن تلقي ولدها عليه ولا يجد من يرضعه، وليس له أن يضارها فينتزع منها ولدها وهي تحب أن ترضعه "وعلى الوارث" قال: هو ولي الميت. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء وإبراهيم والشعبي في قوله: "وعلى الوارث" قال: هو وارث الصبي ينفق عليه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة نحوه، وزاد: إذا كان المولود لا مال له مثل الذي على والده من أجر الرضاع. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن ابن سيرين نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن قبيصة بن ذؤيب في قوله: "وعلى الوارث مثل ذلك" قال: هو الصبي. وأخرج وكيع عن عبد الله بن مغفل نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "وعلى الوارث مثل ذلك" قال: لا يضار. وأخرج ابن جرير عن مجاهد. قال: التشاور فيما دون الحولين ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى. وأخرجوا عن عطاء في قوله تعالى: "وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم" قال: أمه أو غيرها "فلا جناح عليكم إذا سلمتم" قال: إذا سلمت لها أجرها "ما آتيتم" ما أعطيتم.
لما ذكر سبحانه عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع عقب ذلك بذكر عدة الوفاة، لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق. قاله الزجاج: ومعنى الآية والرجال الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً: أي ولهم زوجات فالزوجات يتربصن. وقال أبو علي الفارسي: تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم، وهو كقولك السمن منوان بدرهم: أي منه. وحكي المهدوي عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون، وقيل التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، ذكره صاحب الكشاف، وفيه أن قوله: 234- "ويذرون أزواجاً" لا يلائم ذلك التقدير، لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة. وقال بعض النحاة من الكوفيين: إن الخبر عن الذين متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن. ووجه الحكمة في جعل العدة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر، والأنثى لأربعة، فزاد الله سبحانه على ذلك عشراً، لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة فتتأخر حركته قليلاً ولا تتأخر عن هذا الأجل. وظاهر هذه الآية العموم، وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدتها هذه العدة، ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" وإلى هذا ذهب الجمهور. وروي عن بعض الصحابة وجماعة من أهل العلم أن الحامل تعتد بآخر الأجلين جمعاً بين العام والخاص وإعمالاً لهما، والحق ما قاله الجمهور. والجمع بين العام والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة ولا قواعد الشرع، ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بيان أن حكمه مغاير لحكم العام ومخالف له. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوج بعد الوضع والتربص الثاني والتصبر عن النكاح. وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض والآيسة، وأن عدتهن جميعاً للوفاة أربعة أشهر وعشر، وقيل: إن عدة الأمة نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام. قال ابن العربي: إجماعاً إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى بين الحرة والأمة، وقال الباجي: ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن ابن سيرين أنه قال عدتها عدة الحرة، وليس بالثابت عنه، ووجه ما ذهب إليه الأصم وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم، ووجه ما ذهب إلأيه من عداهما قياس عدة الوفاة على الحد فإنه ينصف للأمة بقوله سبحانه: "فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب". وقد تقدم حديث "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" وهو صالح للاحتجاج به، وليس المراد منه. إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة، وعدتها على النصف من عدتها، ولكنه لما لم يكن أن يقال: طلاقها تطليقة ونصف وعدتها حيضة ونصف لكون ذلك لا يعقل كانت عدتها وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبراً للكسر، ولكن ها هنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور، وهو أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً هو ما قدمنا من معرفة خلوها من الحمل، ولا يعرف إلا بتلك المدة، ولا فرق بين الحرة والأمة في مثل ذلك، بخلاف كون عدتها في غير الوفاة حيضتين، فإن ذلك يعرف به خلو الرحم، ويؤيد عدم الفرق ما سيأتي في عدة أم الولد. واختلف أهل العلم في عدة أم الولد لموت سيدها. فقال سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وإسحاق وابن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه: أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر لحديث عمرو بن العاص: قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم "عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر". وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه، وضعفه أحمد وأبو عبيد. وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوف. وقال طاوس وقتادة: عدتها شهران وخمس ليال. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح: تعتد بثلاث حيض، وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي. وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه: عدتها حيضة وغير الحائض شهر، وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور. قوله: "فإذا بلغن أجلهن" المراد بالبلوغ هنا: انقضاء العدة "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن" من التزين والتعرض للخطاب "بالمعروف" الذي لا يخالف شرعاً ولا عادةً مستحسنة. وقد استدل بذلك على وجوب الإحداد على المعتدة عدم الوفاة. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدة الوفاة، والإحداد: ترك الزينة من الطيب، وليس الثياب الجيدة والحلي وغير ذلك، ولا خلاف في وجوب ذلك في عدة الوفاة، ولا خلاف في عدم وجوبه في عدة الرجعية، واختلفوا في عدة البائنة على قولين، ومحل ذلك كتب الفروع. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "والذين يتوفون منكم" قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله. ثم أنزل الله "والذين يتوفون منكم" الآية فهذه عدة المتوفى عنها إلا أن تكون حاملاً، فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها: "ولهن الربع مما تركتم" فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة "فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم" يقول: إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي العالية قال: ضمت هذه الأيام العشر إلى الأربعة أشهر، لأن في العشر ينفخ فيه الروح. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "فإذا بلغن أجلهن" يقول: إذا انقضت عدتها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب في قوله: "فلا جناح عليكم" يعني أولياءها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس أنه كره للمتوفى عنها زوجها الطيب والزينة. وأخرج مالك وعبد الرزاق وأهل السنن وصححه الترمذي والحاكم عن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، وأن زوجها خرج في طلب أعبد لها أبقوا حتى إذا تطرف القدوم لحقهم فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فانصرفت حتى إذا كانت في الحجرة أو في المسجد فدعاني أو أمر بي فدعيت، فقال: كيف قلت؟ قالت: فرددت إليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه وقضى به.
الجناح: الإثم، أي لا إثم عليكم، والتعريض ضد التصريح، وهو من عرض الشيء: أي جانبه كأنه يحوم به حول الشيء ولا يظهره، وقيل هو من قولك: عرضت الرجل: أي أهديت له. ومنه أن ركباً من المسلمين عرضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاً: أي أهدوا لهما، فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاماً يفهم معناه. وقال في الكشاف: الفرق بين الكناية والتعريض، أن الكناية أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له. والتعريض أن يذكر شيئاً يدل به على شيء لم يذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا: وحسبك بالتسليم مني تقاضيا وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض، ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده انتهى. والخطبة بالكسر: ما يفعله الطالب من الطلب، والاستلطاف بالقول والفعل، يقال: خطبها يخطبها خطبة وخطباً. وأما الخطبة بضم الخاء فهي الكلام الذي يقوم به الرجل خاطباً. وقوله: 235- "أكننتم" معناه سترتم وأضمرتم من التزويج بعد انقضاء العدة. والإكنان: التستر والإخفاء: يقال: أكننته وكننته بمعنى واحد. ومنه بيض مكنون، ودر مكنون. ومنه أيضاً أكن البيت صاحبه: أي ستره. وقوله: "علم الله أنكم ستذكرونهن" أي علم الله أنكم لا تصبرون عن النطق لهن برغبتكم فيهن، فرخص لكم في التعريض دون التصريح. وقال في الكشاف: إن فيه طرفاً من التوبيخ كقوله: "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم". وقوله: "ولكن لا تواعدوهن سراً" معناه: على سر، فحذف الحرف لأن الفعل لا يتعدى إلى المفعولين. وقد اختلف العلماء في معنى السر فقيل: معناه نكاحاً: أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني بل يعرض تعريضاً. وقد ذهب إلى أن معنى الآية هذا جمهور العلماء، وقيل السر: الزنا، أي لا يكن منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزويج بعدها. قاله جابر بن زيد وأبو مجلز والحسن وقتادة والضحاك والنخعي واختاره ابن جرير الطبري، ومنه قول الحطيئة: ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع وقيل السر: الجماع، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيباً لهن في النكاح، وإلى هذا ذهب الشافعي في معنى الآية، ومنه قول امرئ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي ومثله قول الأعشى: فلن تطلبوا سرها للغنى ولن تسلموها لأزهادها أراد: تطلبون نكاحها لكثرة مالها، ولن تسلموها لقلة مالها، والاستدراك بقوله: "لكن" من مقدر محذوف دل عليه "ستذكرونهن" أي فاذكروهن "ولكن لا تواعدوهن سراً". قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز. وقال أيضاً: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها وللأب في ابنته البكر وللسيد في أمته. قوله: "إلا أن تقولوا قولاً معروفاً" قيل: هو استثناء منقطع بمعنى لكن، والقول المعروف: هو ما أبيح من التعريض. ومنع صاحب الكشاف أن يكون منقطعاً وقال: هو مستثنى من قوله: "لا تواعدوهن" أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة فجعله على هذا استثناءً مفرغاً، ووجه منع كونه منقطعاً أنه يؤدي إلى جعل التعريض موعوداً وليس كذلك، لأن التعريض طريق المواعدة، لا أنه الموعود في نفسه. قوله: "ولا تعزموا عقدة النكاح" قد تقدم الكلام في معنى العزم، يقال: عزم الشيء، وعزم عليه، والمعنى هنا: لا تعزموا على عقد النكاح ثم حذف على. قال سيبويه: والحذف في هذه الآية لا يقاس عليه. وقال النحاس: يجوز أن يكون المعنى ولا تعقدوا عقدة النكاح، لأن معنى تعزموا وتعقدوا واحد، وقيل: إن العزم على الفعل يتقدمه فيكون في هذا النهي مبالغة، لأنه إذا نهي عن المتقدم على الشيء، كان النهي عن ذلك الشيء بالأولى. قوله: "حتى يبلغ الكتاب أجله" يريد حتى حتى تنقضي العدة، والكتاب هنا هو الحد والقدر الذي رسم من المدة، سماه كتاباً لكونه محدوداً ومفروضاً كقوله تعالى: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" وهذا الحكم أعني تحريم عقد النكاح في العدة مجمع عليه. وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء" قال: التعريض أن تقول: إني أريد التزويج، وإني لأحب المرأة من أمرها وأمرها، وإن من شأني النساء، ولوددت أن الله يسر لي امرأة صالحة. وأخرج ابن جرير عنه أنه يقول لها: إن رأيت لا تسبقني بنفسك، ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك، ونحو هذا من الكلام. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: يقول: إني فيك لراغب، ولوددت أني تزوجتك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله: "أو أكننتم" قال: أسررتم. وأخرج عبد الرزاق عن الضحاك مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله: "علم الله أنكم ستذكرونهن" قال: بالخطيئة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد قال: ذكره إياها في نفسه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكن لا تواعدوهن سراً" قال: يقول لها: إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجني غيري ونحو هذا "إلا أن تقولوا قولاً معروفاً" وهو قوله: إن رأيت أن لا تسبقني بنفسك. وأخرج ابن جرير عنه في السر أنه الزنا، كان الرجل يدخل من أجل الزنا وهو يعرض بالنكاح. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه في قوله: "إلا أن تقولوا قولاً معروفاً" قال: يقول: إنك لجميلة، وإنك إلي خير، وإن النساء من حاجتي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ولا تعزموا عقدة النكاح" قال: لا تنكحوا "حتى يبلغ الكتاب أجله" قال: حتى تنقضي العدة.
المراد بالجناح هنا التبعة من المهر ونحوه، فرفعه رفع لذلك: أي لا تبعة عليكم بالمهر ونحوه إن طلقتم النساء على الصفة المذكورة، وما في قوله: 236- " ما لم تمسوهن " هي مصدرية ظرفية بتقدير المضاف: أي مدة عدم مسيسكم. ونقل أبو البقاء أنها شرطية من باب اعتراض الشرط على الشرط ليكون الثاني قيداً للأول كما في قولك: إن تأتني إن تحسن إلي أكرمك: أي إن تأتني محسناً إلي، والمعنى: إن طلقتموهن غير ماسين لهن. وقيل إنها موصولة: أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن، وهكذا اختلفوا في قوله: " أو تفرضوا " فقيل: أو بمعنى إلا: أي إلا أن تفرضوا، وقيل بمعنى حتى: أي حتى تفرضوا، وقيل بمعنى الواو: أي وتفرضوا. ولست أرى لهذا التطويل وجهاً، ومعنى الآية أوضح من أن يلتبس، فإن الله سبحانه رفع الجناح عن المطلقين ما لم يقع أحد الأمرين: أي مدة انتفاء ذلك الأحد، ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بانتفاء الأمرين معاً، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر المثل، وإن وجد الفرض وجب نصفه مع عدم المسيس، وكل واحد منها جناح: أي المسمى أو نصفه أو مهر المثل. واعلم أن المطلقات أربع: مطلقة مدخول بها مفروض لها، وهي التي تقدم ذكرها قبل هذه الآية، وفيها نهي الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهن شيئاً، وأن عدتهن ثلاثة قروء. ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها، وهي المذكورة هنا فلا مهر لها، بل المتعة، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها. ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها، وهي المذكورة بقوله سبحانه هنا: " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة "، ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها، وهي المذكورة في قوله تعالى: "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن" والمراد بقوله: "ما لم تمسوهن" ما لم تجامعوهن، وقرأ ابن مسعود من قبل أن تجامعوهن. أخرجه عنه ابن جرير، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم ما لم تمسوهن وقرأه حمزة والكسائي تماسوهن من المفاعلة، والمراد بالفريضة هنا تسمية المهر. قوله: "ومتعوهن" أي أعطوهن شيئاً يكون متاعاً لهن، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال علي وابن عمر والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك ومن أدلة الوجوب قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً" وقال مالك وأبو عبيد والقاضي شريح وغيرهم: إن المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى: "حقاً على المحسنين" ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين، ويجاب عنه بأن ذلك لا ينافي الوجوب بل هو تأكيد له كما في قوله في الآية الأخرى: "حقاً على المتقين" أي أن الوفاء بذلك والقيام به شأن أهل التقوى، وكل مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه، وقد وقع الخلاف أيضاً هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أم ليست بمشروعة إلا لها فقط؟ فقيل: إنها مشروعة لكل مطلقة، وإليه ذهب ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وأبو العالية والحسن البصري والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق، ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء والفرض أم مندوبة فقط، واستدلوا بقوله تعالى: "وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين" وبقوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً" والآية الأولى عامة لكل مطلقة، والثانية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد كن مفروضاً لهن مدخولاً بهن. وقال سعيد بن المسيب: إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن" قال: هذه الآية التي في الأحزاب نسخت التي في البقرة. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء والتسمية، لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى أو مهر المثل، وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة: أي سمى لها مهراً وطلقها قبل الدخول تستحق نصف المسمى، ومن القائلين بهذا ابن عمر ومجاهد. وقد وقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول والفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة. وأما إذا كانت أمة فذهب الجمهور إلى أن لها المتعة، وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها، وهو لا يستحق مالاً في مقابل تأذي مملوكته، لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول والفرض، لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك. وقد اختلفوا في المتعة المشروعة هل هي مقدرة بقدر أم لا؟ فقال مالك والشافعي في الجديد: لا حد لها معروف بل ما يقع عليه اسم المتعة. وقال أبو حنيفة: إنه إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر مثلها، ولا ينقص من خمسة دراهم، لأن أقل المهر عشرة دراهم. وللسلف فيها أقوال سيأتي ذكرها إن شاء الله. وقوله: "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج، فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير. وقرأه الجمهور على الموسع بسكون الواو وكسر السين، وهو الذي اتسعت حاله. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين وفتحها. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر قدره بسكون الدال فيهما. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما. قال الأخفش: وغيره: هما لغتان فصيحتان، وهكذا يقرأ في قوله تعالى: "فسالت أودية بقدرها". وقوله: "وما قدروا الله حق قدره" والمقتر المقل، ومتاعاً مصدر مؤقتاً لقوله: "ومتعوهن" والمعروف ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له. وقوله: "حقاً" وصف لقوله: " متاعا " أي مصدر لفعل محذوف: أي حق ذلك حقاً، يقال: حققت عليه القضاء وأحققت: أي أوجبت.