تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 377 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 377

377 : تفسير الصفحة رقم 377 من القرآن الكريم

سورة النمل
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** طسَ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُم بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ زَيّنّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ لَهُمْ سُوَءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ * وَإِنّكَ لَتُلَقّى الْقُرْآنَ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ
قد تقدم الكلام في سورة البقرة على الحروف المقطعة في أوائل السور. وقوله تعالى: {تلك آيات} أي هذه آيات {القرآن وكتاب مبين} أي بين واضح {هدى وبشرى للمؤمنين} أي إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدقه, وعمل بما فيه, وأقام الصلاة المكتوبة, وآتى الزكاة المفروضة, وأيقن بالدار الاَخرة, والبعث بعد الموت, والجزاء على الأعمال: خيرها وشرها, والجنة والنار, كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر} الاَية. وقال تعالى: {لتبشربه المتقين وتنذر به قوماً لد}. ولهذا قال تعالى ههنا: {إن الذين لا يؤمنون بالاَخرة} أي يكذبون بها ويستبعدون وقوعها {زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون} أي حسنا لهم ما هم فيه, ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم, وكان هذا جزاء على ما كذبوا من الدار الاَخرة, كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} الاَية. {أولئك الذين لهم سوء العذاب} أي في الدنيا والاَخرة {وهم في الاَخرة هم الأخسرون} أي ليس يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر. وقوله تعالى: {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم} أي {وإنك} يا محمد قال قتادة: {لتلقى} أي لتأخذ {القرآن من لدن حكيم عليم} أي من عند حكيم عليم, أي حكيم في أمره ونهيه, عليم بالأمور: جليلها وحقيرها, فخبره هو الصدق المحض, وحكمه هو العدل التام, كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدل}.

** إِذْ قَالَ مُوسَىَ لأهْلِهِ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لّعَلّكُمْ تَصْطَلِونَ * فَلَمّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * يَمُوسَىَ إِنّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رَآهَا تَهْتَزّ كَأَنّهَا جَآنّ وَلّىَ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يَمُوسَىَ لاَ تَخَفْ إِنّي لاَ يَخَافُ لَدَيّ الْمُرْسَلُونَ * إَلاّ مَن ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوَءٍ فَإِنّي غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ * وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مذكراً له ما كان من أمر موسى عليه السلام, كيف اصطفاه الله وكلمه وناجاه أعطاه من الاَيات العظيمة الباهرة والأدلة القاهرة, وابتعثه إلى فرعون وملئه, فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له, فقال تعالى: {إذ قال موسى لأهله} أي اذكر حين سار موسى بأهله فأضل الطريق, وذلك في ليل وظلام, فآنس من جانب الطور ناراً, أي رأى ناراً تتأجج وتضطرم, فقال {لأهله إني آنست ناراً سآتيكم منها بخبر} أي عن الطريق {أو آتيكم منها بشهاب قبس لعلكم تصطلون} أي تستدفئون به وكان كما قال. فإنه رجع منها بخبر عظيم, واقتبس منها نوراً عظيماً, ولهذا قال تعالى: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حوله} أي فلما أتاها ورأى منظراً هائلاً عظيماً حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقداً, ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة, ثم رفع رأسه, فإذا نورها متصل بعنان السماء. قال ابن عباس وغيره: لم تكن ناراً, وإنما كانت نوراً يتوهج, وفي رواية عن ابن عباس: نور رب العالمين, فوقف موسى متعجباً مما رأى {فنودي أن بورك من في النار}. قال ابن عباس: تقدس {ومن حوله} أي من الملائكة, قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود هو الطيالسي, حدثنا شعبة والمسعودي عن عمرو بن مرة, سمع أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل الليل قبل النهار, وعمل النهار قبل الليل», زاد المسعودي «وحجابه النور أو النار, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره». ثم قرأ أبو عبيدة {أن بورك من في النار ومن حوله} وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة به. وقوله تعالى: {وسبحان الله رب العالمين} الذي يفعل ما يشاء, ولا يشبهه شيء من مخلوقاته, ولا يحيط به شيء من مصنوعاته, وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات, ولا تكتنفه الأرض والسموات, بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات.
وقوله تعالى: {يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم} أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز الذي عز كل شيء وقهره وغلبه, الحكيم في أقواله وأفعاله, ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلاً واضحاً على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء, فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة في غاية الكبر وسرعة الحركة مع ذلك, ولهذا قال تعالى: {فلما رآها تهتز كأنها جان} والجان ضرب من الحيات أسرعه حركة وأكثره اضطراباً. وفي الحديث نهي عن قتل جنان البيوت, فلما عاين موسى ذلك {ولى مدبراً ولم يعقب} أي لم يلتفت من شدة فرقه {يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون} أي لا تخف مما ترى, فإني أريد أن أصطفيك رسولاً وأجعلك نبياً وجيهاً.
وقوله تعالى: {إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم} هذا استنثاء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر, وذلك أن من كان على عمل سيء ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب, فإن الله يتوب عليه, كما قال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} وقال تعالى: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الاَية, والاَيات في هذا كثيرة جداً. وقوله تعالى: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار, وصدق من جعل له معجزة, وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه, فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف.
وقوله تعالى: {في تسع آيات} أي هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن وأجعلهن برهاناً لك إلى فرعون وقومه {إنهم كانوا قوماً فاسقين} وهذه هي الاَيات التسع التي قال الله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} كما تقدم تقرير ذلك هنالك. وقوله تعالى: {فلماجاءتهم آياتنا مبصرة} أي بينة واضحة ظاهرة {قالوا هذا سحر مبين} وأرادوا معارضته بسحرهم, فغلبوا وانقلبوا صاغرين {وجحدوا به} في ظاهر أمرهم {واستيقنتها أنفسهم} أي علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله, ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها {ظلماً وعلو} أي ظلماً من أنفسهم سجية ملعونة, وعلواً أي استكباراً من اتباع الحق, ولهذا قال تعالى: {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله إياهم, وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة, وفحوى الخطاب يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد, الجاحدون لما جاء به من ربه, أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى, فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أشرف وأعظم من موسى, وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله, وما سبقه من البشارات من الأنبياء به, وأخذ المواثيق له, عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.