تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 377 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 377

376

هي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون قال القرطبي: وهي مكية كلها في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة النمل بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. قوله: 1- "طس" قد مر الكلام مفصلاً في فواتح السور، وهذه الحروف إن كانت اسماً للسورة فمحلها الرفع على الابتداء وما بعده خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف: أي هذا اسم هذه السورة وإن لم تكن هذه الحروف اسماً للسورة، بل مسرودة على نمط التعديد فلا محل لها، والإشارة بقوله: "تلك" إلى نفس السورة، لأنها قد ذكرت إجمالاً بذكر اسمها، واسم الإشارة مبتدأ وخبره "آيات القرآن" والجملة خبر المبتدأ الأول على تقدير أنه مرتفع بالابتداء "وكتاب مبين" قرأ الجمهور بجر كتاب عطفاً على القرآن: أي تلك آيات القرآن وآيات كتاب مبين، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "وكتاب" القرآن نفسه، فيكون من عطف بعض الصفات على بعض مع اتحاد المدلول، وأن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، أو نفس السورة، وقرأ ابن أبي عبلة وكتاب مبين برفعهما عطفاً على آيات. وقيل هو على هذه القراءة على تقدير مضاف محذوف وإقامة المضاف إليه مقامه: أي وآيات كتبا مبين، فقد وصف الآيات بالوصفين: القرآنية الدالة على كونه مقروءاً مع الإشارة إلى كونه قرآناً عربياً معجزاً، والكتابية الدالة على كونه مكتوباً مع الإشارة إلى كونه متصفاً بصفة الكتب المنزلة، فلا يكون على هذا من باب عطف صفة على صفة مع اتحاد المدلول، ثم ضم إلى الوصفين وصفاً ثالثاً، وهي الإبانة لمعانيه لمن يقرأه، أو هو من أبان بمعنى: بان معناه واتضح إعجازه بما اشتمل عليه من البلاغة. وقدم وصف القرآنية هنا نظراً إلى تقدم حال القرآنية على حال الكتابة وأخره في سورة الحجر فقال: " الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " نظراً إلى حالته التي قد صار عليها، فإنه مكتوب، والكتابة سبب القراءة والله أعلم. وأما تعريف القرآن هنا وتنكير الكتاب، وتعريف الكتاب في سورة الحجر، وتنكير القرآن فلصلاحية كل واحد منهما للتعريف والتنكير.
2- "هدىً وبشرى للمؤمنين" في موضع نصب على الحال من الآيات أو من الكتاب: أي تلك آيات هادية ومبشرة، ويجوز أن يكون في محل رفع على الابتداء: أي هو هدىً: أو هما خبران آخران لتلك، أو هما مصدران منصوبان بفعل مقدر: أي يهدي هدىً ويبشر بشرى. ثم وصف المؤمنين الذين لهم الهدى والبشرى.
فقال: 3- "الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة" والموصول في محل جر، أو يكون بدلاً أو بياناً، أو منصوباً على المدح، أو مرفوعاً على تقدير مبتدأ. والمراد بالصلاة الصلوات الخمس، والمراد بالزكاة الزكاة المفروضة، وجملة "وهم بالآخرة هم يوقنون" في محل نصب على الحال، وكرر الضمير للدلالة على الحصر: أي لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، وجعل الخبر مرفوعاً للدلالة على التجدد في كل وقت وعدم الانقطاع. ثم لما ذكر سبحانه أهل السعادة ذكر بعدهم أهل الشقاوة.
فقال: 4- "إن الذين لا يؤمنون بالآخرة" وهم الكفار: أي لا يصدقون بالبعث "زينا لهم أعمالهم" قيل المراد زين الله لهم أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة. وقيل المراد أن الله زين لهم الأعمال الحسنة وذكر لهم ما فيها من خيري الدنيا والآخرة فلم يقبلوا ذلك. قال الزجاج: معنى الآية أنا جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه "فهم يعمهون" أي يترددون فيها متحيرين على الاستمرار لا يهتدون إلى طريقة ولا يقفون على حقيقة. وقيل معنى يعمهون يتمادون. وقال قتادة: يلعبون، وفي معنى التحير. قال الشاعر: ومهمه أطرافه في مهمه أعمى الهدى الحائرين العمه
والإشارة بقوله: 5- "أولئك" إلى المذكورين قبله، وهو مبتدأ خبره "لهم سوء العذاب" قيل في الدنيا كالقتل والأسر، ووجه تخصيصه بعذاب الدنيا قوله بعده "وهم في الآخرة هم الأخسرون" أي هم أشد الناس خسراناً وأعظمهم خيبة، ثم مهد سبحانه مقدمة نافعة لما سيذكره بعد ذلك من الأخبار العجيبة.
فقال: 6- "وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم" أي يلقى عليك فتلقاه وتأخذه من لدن كثير الحكمة والعلم، قيل إن لدن ها هنا بمعنى عند. وفيها لغات كما تقدم في سورة الكهف.
7- "إذ قال موسى لأهله" الظف منصوب بمضمر وهو اذكر. قال الزجاج: موضع إذ نصب، المعنى: اذكر إذ قال موسى: أي اذكر قصته إذ قال لأهله، والمراد بأهله امرأته في مسيره من مدين إلى مصر، ولم يكن معه إذ ذاك إلا زوجته بنت شعيب، فكنى عنها بلفظ الأهل الدال على الكثرة، ومثله قوله: "امكثوا" ومعنى "إني آنست ناراً" أبصرتها "سآتيكم منها بخبر" السين تدل على بعد مسافة النار "أو آتيكم بشهاب قبس" قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين شهاب، وقرأ الباقون بإضافته إلى قبس، فعلى القراءة الأولى يكون قبس بدلاً من شهاب أو صفة له لأنه بمعنى مقبوس، على القراءة الثانية الإضافة للبيان، والمعنى على القراءتين: آتيكم بشعلة نار مقبوسة: أي مأخوذة من أصلها. قال الزجاج: من نون جعل قبس من صفة شهاب، وقال الفراء: هذه الإضافة كالإضافة في قولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، أضاف الشيء إلى نفسه لاختلاف أسمائه. وقال النحاس: هي إضافة النوع إلى الجنس كما تقول: ثوب خز، وخاتم حديد. قال: ويجوز في غير القرآن بشهاب قبساً على أنه مصدر أو بيان أو حال "لعلكم تصطلون" أي رجاء أن تستدفئوا بها، أو لكي تستدفئوا بها من البرد، يقال صلى بالنار واصطلى بها إذا استدفأ بها. قال الزجاج: كل أبيض ذي نور فهو شهاب. وقال أبو عبيدة: الشهاب النار، ومنه قول أبي النجم: كأنما كان شهاباً واقداً أضاء ضوءاً ثم صار خامداً وقال ثعلب: أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة، والآخر لا نار فيه، والشهاب الشعاع المضيء، وقيل للكواكب شهاب، ومنه قول الشاعر: في كفه صعدة مثقفة فيها سنان كشعلة القبس
8- "فلما جاءها" أي جاء النار موسى "نودي أن بورك من في النار ومن حولها" أن هي المفسرة لما في النداء من معنى القول، أو هي المصدرية: أي بأن بورك، وقيل هي المخففة من الثقيلة. قال الزجاج: أن في موضع نصب أي بأن قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع اسم ما لم يسم فاعله. والأولى أن النائب ضمير يعود إلى موسى. وقرأ أبي وابن عباس ومجاهد أن بوركت النار ومن حولها حكى ذلك أبو حاتم. وحكى الكسائي عن العرب: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، وكذلك حكى هذا الفراء. قال ابن جرير: قال بورك من في النار، ولم يقل بورك على النار على لغة من يقول باركك الله: أي بورك على من في النار، وهو موسى، أو على من في قرب النار لا أنه كان في وسطها. وقال السدي: كان في النار ملائكة، والنار هنا هي مجرد نور، ولكنه ظن موسى أنها نار، فلما وصل إليها وجدها نوراً. وحكي عن الحسن وسعيد بن جبير أن المراد بمن في النار هو الله سبحانه: أي نوره. وقيل بورك ما في النار من أمر الله سبحانه الذي جعلها على تلك الصفة. قال الواحدي: ومذهب المفسرين أن المراد بالنار النور، ثم نزه سبحانه نفسه فقال: "وسبحان الله رب العالمين" وفيه تعجب لموسى من ذلك.
9- "يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم" الضمير للشأن، أنا الله العزيز الغالب القاهر الحكيم في أمره وفعله. وقيل إن موسى قال: يا رب من الذي ناداني؟ فأجابه الله سبحانه بقوله: إنه أنا الله، ثم أمره سبحانه بأن يلقي عصاه ليعرف ما أجراه الله سبحانه على يده من المعجزة الخارقة.
وجملة 10- "وألق عصاك" معطوفة على بورك، وفي الكلام حذف، والتقدير فألقاها من يده فصارت حية "فلما رآها تهتز كأنها جان" قال الزجاج: صارت العصا تتحرك كما يتحرك الجان، وهي الحية البيضاء، وإنما شبهها بالجان في خفة حركتها، وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها، وجمع الجان جنان وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقال الكلبي: لا صغيرة ولا كبيرة "ولى مدبراً" من الخوف "ولم يعقب" أي لم يرجع: يقال عقب فلان إذا رجع، وكل راجع معقب، وقيل لم يقف ولم يلتفت. والأول أولى، لأن التعقيب هو الكر بعد الفر، فلما وقع منه ذلك قال الله سبحانه: "يا موسى لا تخف" أي من الحية وضررها "إني لا يخاف لدي المرسلون" أي لا يخاف عندي من أرسلته برسالتي فلا تخف أنت. قيل ونفي الخوف عن المرسلين ليس في جميع الأوقات، بل في وقت الخطاب لهم لأنهم إذ ذاك مستغرقون.
ثم استثنى استثناءً منقطعاً فقال:11- " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم " أي لكن من أذنب في ظلم نفسه بالمعصية ثم بدل حسناً أي توبة وندماً بعد سوء أي بعد عمل سوء فإني غفور رحيم وقيل الاستثناء من مقدر محذوف: أي لا يخاف لدي المرسلون، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم إلا من ظلم ثم بدل إلخ، كذا قال الفراء. قال النحاس: الاستثناء من محذوف محال، لأنه استثناء من شيء لم يذكر. وروي عن الفراء أنه قال: إلا بمعنى الواو. وقيل إن الاستثناء متصل من المذكور لا من المحذوف. والمعنى: إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد، واختار هذا النحاس، وقال: علم من عصى منهم فاستثناه فقال: إلا من ظلم، وإن كنت قد غفرت له كآدم وداود وإخوة يوسف وموسى بقتله القبطي. ولا مانع من الخوف بعد المغفرة، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقول: "وددت أني شجرة تعضد".
12- "وأدخل يدك في جيبك" المراد بالجيب هو المعروف، وفي القصص "اسلك يدك في جيبك" وفي أدخل من المبالغة ما لم يكن في اسلك "تخرج بيضاء من غير سوء" أي من غير برص أو نحوه من الآفات، فهو احتراس. وقوله تخرج جواب أدخل يدك. وقيل في الكلام حذف تقديره: أدخل يدك تدخل وأخرجها تخرج، ولا حاجة لهذا الحذف ولا ملجئ إليه.قال المفسرون: كانت على موسى مدرعة من صوف لا كم لها ولا إزار، فأدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تبرق كالبرق، وقوله: "في تسع آيات" قال أبو البقاء: هو في محل نصب على الحال من فاعل تخرج، وفيه بعد. وقيل متعلق بمحذوف: أي اذهب في تسع آيات. وقيل متعلق بقوله: الق عصاك وأدخل يدك في جملة تسع آيات أو مع تسع آيات. وقيل المعنى: فهما آيتان من تسع: يعني العصا واليد، فتكون الآيات إحدى عشرة: هاتان والفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم. قال النحاس: أحسن ما قيل فيه أن هذه الآية يعني اليد داخلة في تسع آيات، وكذا قال المهدوي والقشيري. قال القشيري: تقول خرجت في عشرة نفر، وأنت أحدهم: أي خرجت عاشر عشرة، فـ في بمعنى من لقربها منها كما تقول خذ لي عشراً من الإبل فيها فحلان: أي منها. قال الأصمعي في قول امرئ القيس: وهل ينعمن من كان آخر عهده ثلاثون شهراً في ثلاثة أحوال في بمعنى من، وقيل في بمعنى مع "إلى فرعون وقومه" قال الفراء: في الكلام إضمار: أي إنك مبعوث، أو مرسل إلى فرعون وقومه، وكذا قال الزجاج: " إنهم كانوا قوما فاسقين " الجملة تعليل لما قبلها.
13- "فلما جاءتهم آياتنا مبصرة" أي جاءتهم آياتنا التي على يد موسى حال كونها مبصرة: أي واضحة بينة كأنها لفرط وضوحها تبصر نفسها كقوله: "وآتينا ثمود الناقة مبصرة" قال الأخفش: ويجوز أن تكون بمعنى مبصرة على أن اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا. وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم والصاد: أي مكاناً يكثر فيه التبصر، كما يقال: الولد مجبنة ومبخلة "قالوا هذا سحر مبين" أي لما جاءتهم قالوا هذا القول: أي سحر واضح.