تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 378 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 378

378 : تفسير الصفحة رقم 378 من القرآن الكريم

** وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي فَضّلَنَا عَلَىَ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَأَيّهَا النّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْءٍ إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالإِنْس وَالطّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتّىَ إِذَآ أَتَوْا عَلَىَ وَادِي النّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيّهَا النّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصّالِحِينَ
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه: داود وابنه سليمان عليهما السلام, من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة, والصفات الجميلة, وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والاَخرة, والملك والتمكين التام في الدنيا, والنبوة والرسالة في الدين, ولهذا قال تعالى: {ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} قال ابن أبي حاتم: ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام, أخبرني أبي عن جدي قال: كتب عمر بن عبد العزيز: إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته, لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله تعالى: {ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام.
وقوله تعالى: {وورث سليمان داود} أي في الملك والنبوة, وليس المراد وراثة المال, إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود, فإنه قد كان لدواد مائة امرأة, ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة, فإن الأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركناه فهو صدقة» وقال: {يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء} أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم, حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير, وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضاً, وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله, ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود, كما قد يتفوه به كثير من الناس, فهو قول بلا علم, ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة, إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم, ويعرف ما تقول, وليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا, بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال. ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء, وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها, ولهذا قال تعالى: {علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء} أي مما يحتاج إليه الملك {إن هذا لهو الفضل المبين} أي الظاهر البين لله علينا.
قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو, عن المطلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة, فكان إذا خرج أغلقت الأبواب, فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع ـ قال ـ فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب, فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار, فإذا رجل قائم وسط الدار, فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود, فجاء داود عليه السلام فإذا الرجل قائم وسط الدار, فقال له داود: من أنت ؟ فقال: الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع من الحجاب, فقال داود: أنت إذاً والله ملك الموت مرحباً بأمر الله, فتزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس, فقال سليمان عليه السلام للطير: أظلي داود, فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه الأرض, فقال لها سليمان: اقبضي جناحاً جناحاً» قال أبو هريرة: يا رسول الله كيف فعلت الطير ؟ فقبض رسول الله يده وغلبت عليه يومئذ المضرحية. قال أبو الفرج بن الجوزي: المضرحية هن النسور الحمراء.
وقوله تعالى: {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون} أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير, يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس وكانوا هم الذين يلونه, والجن وهم بعدهم في المنزلة, والطير ومنزلتها فوق رأسه, فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها. وقوله: {فهم يوزعون} أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له. قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة يردون أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يفعل الملوك اليوم.
وقوله: {حتى إذا أتوا على وادي النمل} أي حتى إذا مر سليمان عليه السلام بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} أورد ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن سعيد عن قتادة عن الحسن أن اسم هذه النملة حرس, وأنها من قبيلة يقال لهم بنو الشيصان, وأنها كانت عرجاء, وكانت بقدر الذئب, أي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها, فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم, ففهم ذلك سليمان عليه السلام منها {فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلي والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه} أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها عليّ من تعليمي منطق الطير والحيوان. وعلى والدي بالإسلام لك, والإيمان بك {وأن أعمل صالحاً ترضاه} أي عملاً تحبه وترضاه {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك, والرفيق الأعلى من أوليائك, ومن قال من المفسرين أن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره, وأن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل, فلا حاصل لها.
وعن نوف البكالي أنه قال: كان نمل سليمان أمثال الذئاب, هكذا رأيته مضبوطاً بالياء المثناة من تحت, وإنما هو بالباء الموحدة وذلك تصحيف, والله أعلم. والغرض أن سليمان عليه السلام فهم قولها وتبسم ضاحكاً من ذلك, وهذا أمرعظيم جداً. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال:خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي, فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك, ولا غنى بنا عن سقياك وإلا تسقنا تهلكنا. فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وقد ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الرزاق, عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قرصت نبياً من الأنبياء نملة, فأمر بقرية النمل فأحرقت, فأوحى الله إليه, أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟ فهلا نملة واحدة ؟».

** وَتَفَقّدَ الطّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ * لاُعَذّبَنّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأذْبَحَنّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ
قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره: كان الهدهد مهندساً يدل سليمان عليه السلام على الماء إذا كان بأرض فلاة طلبه, فنظر له الماء في تخوم الأرض, كما يرى الإنسان الشىء الظاهر على وجه الأرض, ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض, فإذا دلهم عليه, أمر سليمان عليه السلام الجان فحفروا له ذلك المكان حتى يستنبط الماء من قراره, فنزل سليمان عليه السلام يوماً بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره {فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} حدث يوماً عبد الله بن عباس بنحو هذا, وفي القوم رجل من الخوارج يقال له نافع بن الأزرق وكان كثير الاعتراض على ابن عباس, فقال له: قف يا ابن عباس غلبت اليوم, قال: ولم ؟ قال: إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض, وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ويحثو على الفخ تراباً, فيجىء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ فيصيده الصبي, فقال ابن عباس, لولا أن يذهب هذا فيقول رددت على ابن عباس لما أجبته, ثم قال له: ويحك إنه إذا نزل القدر عمي البصر وذهب الحذر, فقال له نافع: والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبداً.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البرزي من أهل برزة في غوطة دمشق, وكان من الصالحين يصوم الاثنين والخميس, وكان أعور قد بلغ الثمانين فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي سليمان بن زيد أنه سأله عن سبب عوره, فامتنع عليه, فألح عليه شهوراً, فأخبره أن رجلين من أهل خراسان نزلا عنده جمعة في قرية برزة, وسألاه عن واد بها فأريتهما إياه, فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخوراً كثيراً حتى عجعج الوادي بالدخان, فأخذا يعزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما, فلا يلتفتان إلى شيء منها, حتى أقبلت حية نحو الذراع وعيناها تتوقدان مثل الدينار, فاستبشرا بها عظيماً, وقالا الحمد لله الذي لم يخيب سفرنا من سنة, وكسرا المجامر, وأخذا الحية, فأدخلا في عينها ميلا فاكتحلا به, فسألتهما أن يكحلاني فأبيا, فألححت عليهما وقلت: لا بد من ذلك وتوعدتهما بالدولة, فكحلا عيني الواحدة اليمنى, فحين وقع في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة أنظر ما تحتها كما ترى المرآة, ثم قالا لي: سر معنا قليلاً, فسرت معهما وهما يحدثاني حتى إذا بعدت عن القرية أخذاني فكتفاني, وأدخل أحدهما يده في عيني ففقأها ورمى بها ومضيا, فلم أزل كذلك ملقى مكتوفاً حتى مر بي نفر ففك وثاقي, فهذا ما كان من خبر عيني.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة بن عمرو الغساني, حدثنا عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن قال: اسم هدهد سليمان عليه السلام عنبر, وقال محمد بن إسحاق: كان سليمان عليه السلام إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير, وكان فيما يزعمون يأتيه نوب من كل صنف من الطير كل يوم طائر, فنظر فرأى من أصناف الطير كلها من حضره إلا الهدهد {فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} أخطأه بصري من الطير, أم غاب فلم يحضر.
وقوله: {لأعذبنه عذاباً شديد} قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد عن ابن عباس: يعني نتف ريشه, وقال عبد الله بن شداد: نتف ريشه وتشميسه, وكذا قال غير واحد من السلف أنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر والنمل. وقوله: {أو لأذبحنه} يعني قتله {أو ليأتيني بسلطان مبين} بعذر بيّن واضح, وقال سفيان بن عيينة وعبد الله بن شداد: لما قدم الهدهد قالت له الطير: ما خلفك ؟ فقد نذر سليمان دمك, فقال: هل استثنى ؟ قالوا: نعم. قال: {لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} قال: نجوت إذاً, قال مجاهد: إنما دفع الله عنه ببره بأمه.