تفسير الطبري تفسير الصفحة 377 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 377
378
376
 سورة النـمل مكية
وآياتها ثلاث وتسعون
بسم الله الرحمَن الرحيـم
الآية : 1 - 3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{طسَ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُم بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }.
قال أبو جعفر: وقد بـيّنا القول فـيـما مضى من كتابنا هذا فـيـما كان من حروف الـمعجم فـي فواتـح السور, فقوله: طس من ذلك. وقد رُوي عن ابن عبـاس أن قوله: طس: قسم أقسمه الله هو من أسماء الله.
20423ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس. فـالواجب علـى هذا القول أن يكون معناه: والسميع اللطيف, إن هذه الاَيات التـي أنزلتها إلـيك يا مـحمد لاَيات القرآن, وآيات كتاب مبـين: يقول: يبـين لـمن تدبّره, وفكّر فـيه بفهم أنه من عند الله, أنزله إلـيك, لـم تتـخرّصه أنت ولـم تتقوّله, ولا أحد سواك من خـلق الله, لأنه لا يقدر أحد من الـخـلق أن يأتـي بـمثله, ولو تظاهر علـيه الـجنّ والإنس. وخفض قوله: وكِتابٍ مُبِـينٍ عطفـا به علـى القرآن. وقوله: هُدًى من صفة القرآن. يقول: هذه آيات القرآن بـيان من الله بـين به طريق الـحقّ وسبـيـل السلام وَبُشْرَى للْـمُؤْمِنـينَ يقول: وبشارة لـمن آمن به, وصدّق بـما أنزل فـيه بـالفوز العظيـم فـي الـمعاد.
وفـي قوله: هُدًى وَبُشْرَى وجهان من العربـية: الرفع علـى الابتداء بـمعنى: هو هدى وبُشرى. والنصب علـى القطع من آيات القرآن, فـيكون معناه: تلك آيات القرآن الهدى والبشرى للـمؤمنـين, ثم أسقطت الألف واللام من الهدى والبشرى, فصارا نكرة, وهما صفة للـمعرفة فنصبـا.
وقوله: الّذِينَ يُقِـيـمُونَ الصّلاةَ يقول: هو هدى وبشرى لـمن آمن بها, وأقام الصلاة الـمفروضة بحدودها. وقوله: وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ يقول: ويؤدّون الزكاة الـمفروضة. وقـيـل: معناه: ويطهرون أجسادهم من دنس الـمعاصي. وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع وَهُمْ بـالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ يقول: وهم مع إقامتهم الصلاة, وإيتائهم الزكاة الواجبة, بـالـمعاد إلـى الله بعد الـمـمات يوقنون, فـيذلون فـي طاعة الله, رجاء جزيـل ثوابه, وخوف عظيـم عقابه, ولـيسوا كالذين يكذّبون بـالبعث, ولا يبـالون, أحسنوا أم أساءوا, وأطاعوا أم عصوا, لأنهم إن أحسنوا لـم يرجوا ثوابـا, وإن أساءوا لـم يخافوا عقابـا.

الآية : 4 و 5
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ زَيّنّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ لَهُمْ سُوَءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: إن الذين لا يصدّقون بـالدار الاَخرة, وقـيام الساعة, وبـالـمعاد إلـى الله بعد الـمـمات والثواب والعقاب زَيّنا لَهُمْ أعمالَهُمْ يقول: حببنا إلـيهم قبـيح أعمالهم, وسهّلنا ذلك علـيهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ يقول: فهم فـي ضلال أعمالهم القبـيحة التـي زيّناها لهم يتردّدون حيارى, يحسبون أنهم يحسنون. وقوله: أُولَئِكَ الّذِينَ لَهُمْ سُوءُ العَذَابِ يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين لا يؤمنون بـالاَخرة لهم سوء العذاب فـي الدنـيا, وهم الذين قتلوا ببدر من مشركي قريش وَهُمْ فِـي الاَخِرَةِ هُمُ الأَخَسرُونَ يقول: وهم يوم القـيامة هم الأوضعون تـجارة والأَوكسوها بـاشترائهم الضلالة بـالهدى فَمَا رَبحَتْ تِـجَارَتهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.
الآية : 6 - 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّكَ لَتُلَقّى الْقُرْآنَ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ * إِذْ قَالَ مُوسَىَ لأهْلِهِ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لّعَلّكُمْ تَصْطَلِونَ * فَلَمّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وإنك يا مـحمد لتـحفظ القرآن وتعلـمه مِنْ لَدُنْ حَكِيـمٍ عَلِـيـمٍ يقول: من عند حكيـم بتدبـير خـلقه, علـيـم بأنبـاء خـلقه ومصالـحهم, والكائن من أمورهم, والـماضي من أخبـارهم, والـحادث منها. إذْ قال مُوسى وإذ من صلة علـيـم. ومعنى الكلام: علـيـم حين قال موسى لأَهْلِهِ وهو فـي مسيره من مدين إلـى مصر, وقد آذاهم بردُ لـيـلهم لـما أصلد زَنْدُه: إنّـي آنَسْتُ نارا: أي أبصرت نارا أو أحسستها, فـامكثوا مكانكم سآتِـيكُمْ مِنْها بِخَبرٍ يعنـي من النار, والهاء والألف من ذكر النار أوْ آتِـيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: «بِشِهابِ قَبَسٍ» بإضافة الشهاب إلـى القبس, وترك التنوين, بـمعنى: أو آتـيكم بشعلةِ نارٍ أقتبسها منها. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: بشِهابٍ قَبَسٍ بتنوين الشهاب وترك إضافته إلـى القبس, يعنـي: أو آتـيكم بشهاب مقتبس.
والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان معروفتان فـي قَرَأة الأمصار, متقاربتا الـمعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وكان بعض نـحويـيّ البصرة يقول: إذا جُعل القبس بدلاً من الشهاب, فـالتنوين فـي الشهاب, وإن أضاف الشهاب إلـى القبس, لـم ينوّن الشهاب. وقال بعض نـحويـيّ الكوفة: إذا أضيف الشهاب إلـى القبس فهو بـمنزلة قوله وَلَدَارُ الاَخِرَةِ مـما يضاف إلـى نفسه إذا اختلف اسماه ولفظاه توهما بـالثانـي أنه غير الأوّل. قال: ومثله حبة الـخضراء, ولـيـلة القمراء, ويوم الـخميس وما أشبهه. وقال آخر منهم: إن كان الشهاب هو القبس لـم تـجز الإضافة, لأن القبس نعت, ولا يُضاف الاسم إلـى نعته إلا فـي قلـيـل من الكلام, وقد جاء: وَلَدَارُ الاَخِرَةِ ووَللَدّارُ الاَخِرَةُ.
والصواب من القول فـي ذلك أن الشهاب إذا أريد به أنه غير القبس, فـالقراءة فـيه بـالإضافة, لأن معنى الكلام حينئذ, ما بـينا من أنه شعلة قبس, كما قال الشاعر:
فـي كَفّه صَعْدَةٌ مُشَقّـفَةٌفِـيها سِنانٌ كشُعْلَةِ القَبَسِ
وإذا أريد بـالشهاب أنه هو القبس, أو أنه نعت له, فـالصواب فـي الشهاب التنوين, لأن الصحيح فـي كلام العرب ترك إضافة الاسم إلـى نعته, وإلـى نفسه, بل الإضافـات فـي كلامها الـمعروف إضافة الشيء إلـى غير نفسه وغير نعته.
وقوله: لَعَلّكُمْ تَصْطَلُونَ يقول: كي تصطلوا بها من البرد. وقوله: فَلَـمّا جاءَها يقول: فلـما جاء موسى النار التـي آنسها نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَنْ فِـي النّارِ ومَنْ حَوْلَهَا. كما:
20424ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَنْ فِـي النّارِ يقول: قُدّس.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بقوله مَنْ فِـي النّارِ فقال بعضهم: عنـي جلّ جلاله بذلك نفسه, وهو الذي كان فـي النار, وكانت النار نوره تعالـى ذكره فـي قول جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20425ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: فَلَـمّا جاءَها نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَنْ فـي النّارِ يعنـي نفسه قال: كان نور ربّ العالـمين فـي الشجرة.
20426ـ حدثنـي إسماعيـل بن الهيثم أبو العالـية العبدي, قال: حدثنا أبو قُتَـيبة, عن ورقاء, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبـير, فـي قول الله: بُورِكَ مَنْ فـي النّارِ قال: ناداه وهو فـي النار.
20427ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن الـحسن, فـي قوله: نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَنْ فِـي النّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا قال هو النور.
20428ـ قال: قال قَتادة: بُورِكَ مَنْ فِـي النّارِ قال: نور الله بورك.
قال: ثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال الـحسن البصري بُورِكَ مَنْ فِـي النّارِ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بوركت النار. ذكر من قال ذلك:
20429ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الأشيب, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَنْ فِـي النّارِ بوركت النار. كذلك قاله ابن عبـاس.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله أنْ بُورِكَ مَنْ فِـي النّارِ قال: بوركت النار.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال مـجاهد بُورِكَ مَنْ فِـي النّارِ قال: بوركت النار.
20430ـ حدثنا مـحمد بن سنان القزاز, قال: حدثنا مكي بن إبراهيـم, قال: حدثنا موسى, عن مـحمد بن كعب, فـي قوله: أنْ بورِكَ مَنْ فِـي النّارِ نور الرحمن, والنور هو الله وَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَالَـمِينَ.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى النار فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: معناه: النور كما ذكرت عمن ذكرت ذلك عنه.
وقال آخرون: معناه النار لا النور. ذكر من قال ذلك:
20431ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن سعيد بن جُبَـير, أنه قال: حجاب العزّة, وحجاب الـمَلِك, وحجاب السلطان, وحجاب النار, وهي تلك النار التـي نودي منها. قال: وحجاب النور, وحجاب الغمام, وحجاب الـماء, وإنـما قـيـل: بورك من فـي النار, ولـم يقل: بورك فـيـمن فـي النار علـى لغة الذين يقولون: بـاركك الله. والعرب تقول: بـاركك الله, وبـارك فـيك.
وقوله: وَمَنْ حَوْلَهَا يقول: ومن حول النار. وقـيـل: عَنـي بـمن حولها: الـملائكة. ذكر من قال ذلك:
20432ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس وَمَنْ حَوْلَهَا قال: يعنـي الـملائكة.
20433ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن الـحسن, مثله.
وقال آخرون: هو موسى والـملائكة.
20434ـ حدثنا مـحمد بن سنان القزّاز, قال: حدثنا مكي بن إبراهيـم, قال: حدثنا موسى, عن مـحمد بن كعب وَمَنْ حَوْلَهَا قال موسى النبـيّ والـملائكة, ثم قال: يا مُوسَى إنّهُ أنا اللّهُ العَزِيزُ الـحَكيـمُ.
وقوله: وَسُبْحانَ الله رَبّ العالَـمِينَ يقول: وتنزيها لله ربّ العالـمين, مـما يصفه به الظالـمون.
الآية : 9 - 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَمُوسَىَ إِنّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رَآهَا تَهْتَزّ كَأَنّهَا جَآنّ وَلّىَ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يَمُوسَىَ لاَ تَخَفْ إِنّي لاَ يَخَافُ لَدَيّ الْمُرْسَلُونَ * إَلاّ مَن ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوَءٍ فَإِنّي غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـله لـموسى: إنّهُ أنا اللّهُ العَزِيزُ فـي نقمته من أعدائه الـحَكِيـمُ فـي تدبـيره فـي خـلقه. والهاء التـي فـي قوله: إنّهُ هاء عماد, وهو اسم لا يظهر فـي قول بعض أهل العربـية. وقال بعض نـحويـي الكوفة: يقول هي الهاء الـمـجهولة, ومعناها: أن الأمر والشأن: أنا الله, وقوله: وألْقِ عَصَاكَ فَلَـمّا رآهَا تَهْتَزّ فـي الكلام مـحذوف تُرك ذكره, استغناء بـما ذُكِر عما حُذف, وهو: فألقاها فصارت حية تهتز فَلَـمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ يقول: كأنها حية عظيـمة, والـجانّ: جنس من الـحيات معروف.
وقال ابن جُرَيْج فـي ذلك ما.
20435ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج: وألْقِ عَصَاكَ فَلَـمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ قال: حين تـحوّلت حية تسعى, وهذا الـجنس من الـحيات عنـي الراجز بقوله:
يَرْفَعْنَ بـاللّـيْـلِ إذَا ما أسْدَفـاأعْناقَ جِنّانٍ وَهاما رُجّفَـاوَعَنَقا بَعْدَ الرّسِيـم خَيْطَفَـا
وقوله: وَلّـى مُدْبرا يقول تعالـى ذكره: ولـى موسى هاربـا خوفـا منها ولَـمْ يُعَقّبْ يقول: ولـم يرجع من قولهم: عقب فلان: إذا رجع علـى عقبه إلـى حيث بدأ. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20436ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: ولَـمْ يُعَقّبْ قال: لـم يرجع.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
20437ـ قال: ثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان عن معمر, عن قتادة, قال: لـم يـلتفت.
20438ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله ولَـمْ يُعَقّبْ قال: لـم يرجع يَا مُوسَى قال: لـما ألقـى العصا صارت حية, فرعب منها وجزع, فقال الله: إنّـي لا يَخافُ لَدَيّ الـمُرْسَلُونَ قال: فلـم يرعو لذلك, قال: فقال الله له: أقْبِلْ وَلا تَـخَفْ إنّكَ مِنَ الاَمِنِـينَ قال: فلـم يقـف أيضا علـى شيء من هذا حتـى قال: سَنُعِيدُها سِيرَتها الأُولـى قال: فـالتفت فإذا هي عصا كما كانت, فرجع فأخذها, ثم قوي بعد ذلك حتـى صار يرسلها علـى فرعون ويأخذها.
وقوله: يا موسَى لا تَـخَفْ إنّـي لا يَخافُ لَديّ الـمُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ يقول تعالـى ذكره: فناداه ربه: يا موسى لا تـخف من هذه الـحية, إنـي لا يخاف لديّ الـمرسلون: يقول: إنـي لا يخاف عندي رسلـي وأنبـيائي الذين أختصهم بـالنبوّة, إلا من ظلـم منهم, فعمل بغير الذي أُذن له فـي العمل به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20439ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قوله يا مُوسَى لا تَـخَفْ إنّـي لا يَخافُ لَدَيّ الـمُرْسَلُونَ قال: لا يخيف الله الأنبـياء إلا بذنب يصيبه أحدهم, فإن أصابه أخافه حتـى يأخذه منه.
20440ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا عبد الله الفزاري, عن عبد الله بن الـمبـارك, عن أبـي بكر, عن الـحسن, قال: قوله: يا مُوسَى لا تَـخَفْ إنّـي لا يَخافُ لَدَيّ الـمُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ قال: إنـي إنـما أخفتك لقتلك النفس, قال: وقال الـحسن: كانت الأنبـياء تذنب فتعاقب.
واختلف أهل العربـية فـي وجه دخول إلا فـي هذا الـموضع, وهو استثناء مع وعد الله الغفران الـمستثنى من قوله: إنّـي لا يَخافُ لَدَيّ الـمُرْسَلُونَ بقوله: فإنّـي غَفُورٌ رَحِيـمٌ. وحكم الاستثناء أن يكون ما بعده بخلاف معنى ما قبله, وذلك أن يكون ما بعده إن كان ما قبله منفـيا مثبتا كقوله: ما قام إلا زيد, فزيد مثبت له القـيام, لأنه مستثنى مـما قبل إلا, وما قبل إلا منفـيّ عنه القـيام, وأن يكون ما بعده إن كان ما قبله مثبتا منفـيا كقولهم: قام القوم إلا زيدا فزيد منفـي عنه القـيام ومعناه: إن زيدا لـم يقم, والقوم مثبت لهم القـيام, (إلا من ظلـم, ثم بدّل حسنا بعد سوء), فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة, وأدخـله فـي عداد من لا يخاف لديه من الـمرسلـين. فقال بعض نـحويـي البصرة: أدخـلت إلا فـي هذا الـموضع, لأن إلا تدخـل فـي مثل هذا الكلام, كمثل قول العرب: ما أشتكي إلا خيرا فلـم يجعل قوله: إلا خيرا علـى الشكوى, ولكنه علـم أنه إذا قال: ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا, كأنه قال: ما أذكر إلا خيرا.
وقال بعض نـحويـي الكوفة: يقول القائل: كيف صير خائفـا من ظلـم, ثم بدّل حسنا بعد سوء, وهو مغفور له؟ فأقول لك: فـي هذه الاَية وجهان: أحدهما أن يقول: إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القـيامة, ومن خـلط عملاً صالـحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو, فهذا وجه. والاَخر: أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا فـي الكلـمة, لأن الـمعنى: لا يخاف لديّ الـمرسلون, إنـما الـخوف علـى من سواهم, ثم استثنى فقال: إلا مَنْ ظَلَـمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْنا يقول: كان مشركا, فتاب من الشرك, وعمل حسنا, فذلك مغفور له, ولـيس يخاف. قال: وقد قال بعض النـحويـين: إن إلا فـي اللغة بـمنزلة الواو, وإنـما معنى هذه الاَية: لا يخاف لديّ الـمرسلون, ولا من ظلـم ثم بدّل حسنا, قال: وجعلوا مثله كقول الله: لِئَلاّ يكُونَ للنّاسِ عَلَـيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ قال: ولـم أجد العربـية تـحتـمل ما قالوا, لأنـي لا أجيز: قام الناس إلا عبد الله, وعبد الله قائم إنـما معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التـي قبل إلا. وقد أراه جائزا أن يقول: لـي علـيك ألف سوى ألف آخر فإن وُضِعت إلا فـي هذا الـموضع صلـحت, وكانت إلا فـي تأويـل ما قالوا, فأما مـجرّدة قد استثنى قلـيـلها من كثـيرها فلا, ولكن مثله مـما يكون معنى إلا كمعنى الواو, ولـيست بها قوله: خالِدِينَ فِـيها ما دَامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ هو فـي الـمعنى. والذي شاء ربك من الزيادة, فلا تـجعل إلا بـمنزلة الواو, ولكن بـمنزلة سوى فإذا كانت «سوى» فـي موضع «إلا» صلـحت بـمعنى الواو, لأنك تقول: عندي مال كثـير سوى هذا: أي وهذا عندي, كأنك قلت: عندي مال كثـير وهذا أيضا عندي, وهو فـي سوى أبعد منه فـي إلا, لأنك تقول: عندي سوى هذا, ولا تقول: عندي إلا هذا.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي قوله إلاّ مَنْ ظَلَـمَ ثُم بَدّلَ عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربـية, بل هو القول الذي قاله الـحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما, وهو أن قوله: إلاّ مَنْ ظَلَـمَ استثناء صحيح من قوله لا يَخافُ لَدَيّ الـمُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ منهم فأتـى ذنبـا, فإنه خائف لديه من عقوبته. وقد بـين الـحسن رحمه الله معنى قـيـل الله لـموسى ذلك, وهو قوله قال: إنـي إنـما أخفتك لقتلك النفس.
فإن قال قائل: فما وجه قـيـله إن كان قوله إلاّ مَنْ ظَلَـمَ استثناءً صحيحا, وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من الـمرسلـين, وكيف يكون خائفـا من كان قد وُعد الغفران والرحمة؟ قـيـل: إن قوله: ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءِ كلام آخر بعد الأوّل, وقد تناهى الـخبر عن الرسل من ظلـم منهم, ومن لـم يظلـم عند قوله إلاّ مَنْ ظَلَـمَ ثم ابتدأ الـخبر عمن ظلـم من الرسل, وسائر الناس غيرهم. وقـيـل: فمن ظلـم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإنـي له غفور رحيـم.
فإن قال قائل: فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت بثم إن لـم يكن عطفـا علـى قوله: ظَلَـمَ؟ قـيـل: علـى متروك استغنـي بدلالة قوله ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ علـيه عن إظهاره, إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره, وهو: فمن ظلـم من الـخـلق. وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربـية, فقد قالوا علـى مذهب العربـية, غير أنهم أغفلوا معنى الكلـمة وحملوها علـى غير وجهها من التأويـل. وإنـما ينبغي أن يحمل الكلام علـى وجهه من التأويـل, ويـلتـمس له علـى ذلك الوجه للإعراب فـي الصحة مخرج لا علـى إحالة الكلـمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويـل.
وقوله: ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْد سُوءٍ يقول تعالـى ذكره: فمن أتـى ظلـما من خـلق الله, وركب مأثما, ثم بدل حسنا, يقول: ثم تاب من ظلـمه ذلك وركوبه الـمأثم, فإنـي غَفُورٌ يقول: فإن ساتر علـى ذنبه وظلـمه ذلك بعفوي عنه, وترك عقوبته علـيه رَحِيـمٌ به أن أعاقبه بعد تبديـله الـحسن بضده. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20441ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله إلاّ مَنْ ظَلَـمَ, ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ ثم تاب من بعد إساءته فإنّـي غَفُورٌ رَحِيـمٌ

الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـله لنبـيه موسى: وأدْخِـلْ يَدَكَ فِـي جَيْبِكَ ذكر أنه تعالـى ذكره أمره أن يدخـل كفه فـي جيبه وإنـما أمره بإدخاله فـي جيبه, لأن الذي كان علـيه يومئذ مِدرعة من صوف. قال بعضهم: لـم يكن لها كُمّ. وقال بعضهم: كان كمها إلـى بعض يده. ذكر من قال ذلك:
20442ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد وأَدْخِـلْ يَدَكَ فِـي جَيْبِكَ قال: الكفّ فقط فـي جيبك. قال: كانت مدرعة إلـى بعض يده, ولو كان لها كُمّ أمره أن يدخـل يده فـي كمه.
20443ـ قال: ثنـي حجاج, عن يونس بن أبـي إسحاق, عن أبـيه, عن عمرو بن ميـمون, قال: قال ابن مسعود: إن موسى أتـى فرعون حين أتاه فـي ذُرْ مانقة, يعنـي جبة صوف.
وقوله: تـخْرُجْ بَـيْضَاءَ يقول: تـخرج الـيد بـيضاء بغير لون موسى من غيرِ سُوءٍ يقول: من غير برص فـي تسع آيات, يقول تعالـى ذكره: أدخـل يدك فـي جيبك تـخرج بـيضاء من غير سوء, فهي آية فـي تسع آيات مُرسل أنت بهنّ إلـى فرعون وترك ذكر مرسل لدلالة قوله إلـى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ علـى أن ذلك معناه, كما قال الشاعر:
رأتْنِـي بِحَبْلَـيْها فَصَدّتْ مَخافَةًوفِـي الـحَبْلِ رَوْعاءُ الفُؤَادِ فَرُوقُ
ومعنى الكلام: رأتنـي مقبلاً بحبلـيها, فترك ذكر «مقبل» استغناء بـمعرفة السامعين معناه فـي ذلك, إذ قال: رأتنـي بحبلـيها ونظائر ذلك فـي كلام العرب كثـيرة.
والاَيات التسع: هنّ الاَيات التـي بـيّناهنّ فـيـما مضى. وقد:
20444ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله تِسْعِ آياتٍ إلـى فِرْعَوْنَ وقَوْمهِ قال: هي التـي ذكر الله فـي القرآن: العصا, والـيد, والـجراد, والقمل, والضفـادع, والطوفـان, والدم, والـحجر, والطّمْس الذي أصاب آل فرعون فـي أموالهم.
وقوله: إنّهُمْ كانُوا قَوْما فـاسِقِـينَ يقول: إن فرعون وقومه من القبط كانوا قوما فـاسقـين, يعنـي كافرين بـالله, وقد بـيّنا معنى الفسق فـيـما مضى