تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 378 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 378

377

14- "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم" أي كذبوا بها حال كون أنفسهم مستيقنة لها فالواو للحال، وانتصاب "ظلماً وعلواً" على الحال: أي ظالمين عالين، ويجوز أن ينتصبا على العلة: أي الحامل لهم على ذلك الظلم والعلو، ويجوز أن يكونا نعت مصدر محذوف: أي جحدوا بها جحوداً ظلماً وعلواً. قال أبو عبيدة: والباء في وجحدوا بها زائدة: أي وجحدوها. قال الزجاج: التقدير: وجحدوا بها ظلماً وعلواً: أي شركاً وتكبراً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله "فانظر" يا محمد "كيف كان عاقبة المفسدين" أي تفكر في ذلك فإن فيه معتبراً للمعتبرين، وقد كان عاقبة أمرهم الإغراق لهم في البحر على تلك الصفة الهائلة. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "فلما جاءها نودي أن بورك من في النار" يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة "ومن حولها" يعني الملائكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: كان الله في النور نودي من النور "ومن حولها" قال: الملائكة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً قال: ناداه الله وهو في النور. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً "أن بورك من في النار" قال: بوركت النار. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً "أن بورك من في النار" قال: بوركت النار. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: في مصحف أبي بن كعب: بوركت النار ومن حولها، أما النار فيزعمون أنها نور رب العالمين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "أن بورك" قال: قدس. وأخرج عبد بن حميد وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو رفع لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره". ثم قرأ أبو عبيدة "أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين". والحديث أصله مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت على موسى جبة من صوف لا تبلغ مرفقيه، فقال له: أدخل يدك في جيبك فأدخلها. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً" قال: تكبراً وقد استيقنتها أنفسهم، وهذا من التقديم والتأخير.
لما فرغ سبحانه من قصة موسى في قصة داود وابنه سليمان، وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي كالبيان والتقرير لقوله: "وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم"، والتنوين في 15- "علماً" إما للنوع: أي طائفة من العلم، أو للتعظيم: أي علماً كثيراً، فالواو في قوله: "وقالا الحمد لله" للعطف على محذوف، لأن هذا المقام مقام الفاء، فالتقدير: ولقد آتيناهما علماً فعملا به وقالا الحمد لله، ويؤيده أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقاً بعمل القلب، وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية "الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" أي فضلنا بالعلم والنبوة وتسخير الطير والجن والإنس ولم يفضلوا أنفسهم على الكل تواضعاً منهم. وفي الآية دليل على شرف العلم وارتفاع محله، وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من العباد، ومنح شرفاً جليلاً.
16- "وورث سليمان داود" أي ورثه العلم والنبوة. قال قتادة والكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً فورث سليمان من بينهم نبوته، ولو كان المراد وارثة المال لم يخص سليمان بالذكر لأن جميع أولاده في ذلك سواء، وكذا قال جمهور المفسرين، فهذه الوارثة هي وارثة مجازية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء" "وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير" قال سليمان هذه المقالة مخاطباً للناس تحدثاً بما أنعم الله به عليه وشكر النعمة التي خصه بها، وقدم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره. قال الفراء: منطق الطير كلام الطير فجعل كمنطق الرجل، وأنشد قول حميد بن ثور: عجيب لها أن يكون غناؤها فصيحاً ولم يغفر بمنطقها فما ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير. قال جماعة من المفسرين: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير لأنه كان جنداً من جنده يسير معه لتظليله من الشمس. وقال قتادة والشعبي: إنما علم منطق الطير خاصة ولا يعترض ذلك بالنملة فإنها من جملة الطير، وكثيراً ما تخرج لها أجنحة فتطير، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه، ومعنى "وأوتينا من كل شيء" كل شيء تدعو إليه الحاجة: كالعلم والنبوة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وحكل ما بين السماء والأرض. وجاء سليمان بنون العظمة، والمراد نفسه بياناً لحاله من كونه مطاعاً لا يخالف، لا تكبراً وتعظيماً لنفسه، والإشارة بقوله: "إن هذا" إلى ما تقدم ذكره من التعليم والإيتاء "لهو الفضل المبين" أي الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد، أو المظهر لفضيلتنا.
17- "وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير" الحشر الجمع: أي جمع له جنوده من هذه الأجناس. وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول ولا تصح من جهة النقل، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر "فهم يوزعون" أي لكل طائفة منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم فيقفون على مراتبهم، يقال وزعه يزعه وزعاً: كفه، والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم: أي يرده، ومنه قول النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع وقول الآخر: ومن لم يزعه لبه وحياؤه فليس له من شيب فوديه وازع وقول الآخر: ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله وقيل من التوزيع بمعنى التفريق، يقال: القوم أوزاع: أي طوائف.
18- "حتى إذا أتوا على واد النمل" حتى هي التي يبدأ بعدها الكلام، ويكون غاية لما قبلها، والمعنى فهم يوزعون إلى حصول هذه الغاية وهو إتيانهم على واد النمل: أي فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا إلخ، وعلى واد النمل متعلق بأتوا، وعدي بعلى لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون. والمعنى: أنهم قطعوا الوادي وبلغوا آخره، ووقف القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعاً للرسم حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله: "الذين جابوا الصخر بالواد" إلا الكسائي فإنه وقف بالياء، قال: لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل. قال كعب: واد النمل بالطائف. وقال قتادة ومقاتل: هو بالشام "قالت نملة" هذا جواب إذا، كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم" جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء لفهمها لذلك الخطاب، والمساكن هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها. قيل وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها. ورد هذا أبو حيان فقال: لحاق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنثة، بل يصح أن يقال في المذكر قالت، لأن نملة وإن كانت بالتاء فهي مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ولا بتأنيثه، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر أو أنثى ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة ولا بالتعرض لاسم النملة ولما ذكر من القصص الموضوعة والأحاديث المكذوبة. وقرأ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان نملة والنمل بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة. وقرأ سليمان التيمي بضمتين فيهما "لا يحطمنكم سليمان وجنوده" الحكم الكسر، يقال حطمته حطماً: أي كسرته كسراً وتحطم تكسر، وهذا النهي هو في الظاهر للنمل، وفي الحقيقة لسليمان، فهو من باب: لا أرينك ها هنا، ويجوز أن يكون بدلاً من الأمر، ويحتمل أن يكون جواباً للأمر. قال أبو حيان: أما تخريجه على جواب الأمر فلا يكون إلا على قراءة الأعمش، فإنه قرأ لا يحطمكم بالجزم بدون نون التوكيد، وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا في الشعر. قال سيبويه: وهو قليل في الشعر، شبهوه بالنهي حيث كان مجزوماً. وقرأ أبي ادخلوا مساكنكن وقرأ شهر بن حوشب مسكنكم وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني لا يحطمنكم بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء، وقرأ ابن إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد، وجملة "وهم لا يشعرون" في محل نصب على الحال من فاعل يحطمنكم: أي لا يشعرون بحطمكم ولا يعلمون بمكانكم، وقيل إن المعنى: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها، وهو بعيد.
19- "فتبسم ضاحكاً من قولها" قرأ ابن السميفع ضحكاً وعلى قراءة الجمهور يكون ضاحكاً حالاً مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم، وقيل هي حال مقدرة لأن التبسم أول الضحك، وقيل لما كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبيناً له، وقيل إن ضحك الأنبياء هو التبسم لا غير، وعلى قراءة ابن السميفع يكون ضحكاً مصدراً منصوباً بفعل محذوف أو في موضع الحال، وكان ضحك سليمان تعجباً من قولها وفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل " وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي " قد تقدم بيان معنى أوزعني قريباً في قوله "فهم يوزعون" قال في الكشاف: وحقيقة أوزعني: اجعلني أزع شكر نعمك عندي وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكراً لك انتهى. قال الواحدي: أوزعني أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، يقال فلان موزع بكذا: أي مولع به انتهى. قال القرطبي: وأصله من وزع، فكأنه قال: كفني عما يسخطك انتهى. والمفعول الثاني لأوزعني هو: أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي. وقال الزجاج: إن معنى أوزعني: امنعني أن أكفر نعمتك، وهو تفسير باللازم، ومعنى وعلى والدي: الدعاء منه بأن يوزعه الله شكر نعمته على والديه كما أوزعه شكر نعمته عليه، فإن الإنعام عليهما إنعام عليه، وذلك يستوجب الشكر منه لله سبحانه، ثم طلب أن يضيف الله له لواحق نعمه إلى سوابقها، ولا سيما النعم الدينية، فقال: "وأن أعمل صالحاً ترضاه" أي عملاً صالحاً ترضاه مني، ثم دعا أن يجعله الله سبحانه في الآخرة داخلاً في زمرة الصالحين فإن ذلك هو الغاية التي يتعلق الطلب بها، فقال: " وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " والمعنى: أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي في أسمائهم، واحشرني في زمرتهم إلى دار الصالحين وهي الجنة، اللهم وإني أدعوك بما دعاك به هذا النبي الكريم فتقبل ذلك مني وتفضل علي به، فإني وإن كنت مقصراً في العمل ففضلك هو سبب الفوز بالخير، فهذه الآية منادية بأعلى صوت وأوضح بيان بأن دخول الجنة التي هي دار المؤمنين بالتفضل منك لا بالعمل منهم كما قال رسولك الصادق فيما ثبت عنه في الصحيح "سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" فإذا لم يكن إلا تفضلك الواسع فترك طلبه منك عجز، والتفريط في التوسل إليك بالإيصال إليه تضييع. ثم شرع سبحانه في ذكر قصة بلقيس وما جرى بينهما وبين سليمان، وذلك بدلالة الهدهد.
فقال: 20- "وتفقد الطير" التفقد تطلب ما غاب عنك وتعرف أحواله، والطير اسم جنس لكل ما يطير، والمعنى: أنه تطلب ما فقد من الطير وتعرف حال ما غاب منها، وكانت الطير تصحبه في سفره، وتظله بأجنحتها " فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " أي ما للهدهد لا أراه؟ فهذا الكلام من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيراً، وقيل لا حاجة إلى ادعاء القلب، بل هو استفهام عن المانع له من رؤية الهدهد، كأنه قال. مالي لا أراه هل ذلك لساتر يستره عني، أو لشيء آخر؟ ثم ظهر له أنه غائب فقال: أم كان من الغائبين، وأم هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام وأيوب مالي بفتح الياء، وكذلك قرأوا في يس "وما لي لا أعبد الذي فطرني" بفتح الياء، وقرأ بإسكانها في الموضعين حمزة والكسائي ويعقوب، وقرأ الباقون بفتح التي في يس وإسكان التي هنا. قال أبو عمرو: لأن هذه التي هنا استفهام، والتي في يس نفي، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان.
21- "لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه". اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو؟ فقال مجاهد وابن جريج: هو أن ينتف ريشه جميعاً. وقال يزيد بن رومان: هو أن ينتف ريش جناحيه، وقيل هو أن يحبسه مع أضداده، وقيل أن يمنعه من خدمته، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب لا على قدر الجسد. وقوله عذاباً اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد كقوله: "أنبتكم من الأرض نباتاً"، "أو ليأتيني بسلطان مبين" قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشددة بعدها نون الوقاية، وقرأ الباقون بنون مشددة فقط، وهي نون التوكيد، وقرأ عيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة غير موصلة بالياء، والسلطان المبين هو الحجة البينة في غيبته.
22- "فمكث غير بعيد" أي الهدهد مكث زماناً غير بعيد. قرأ الجمهور "مكث" بضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها، ومعناه في القراءتين: أقم زماناً غير بعيد. قال سيبويه: مكث يمكث مكوثاً كقعد يقعد قعوداً. وقيل إن الضمير في مكث لسليمان. والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زماناً غير طويل، والأول أولى "فقال أحطت بما لم تحط به" أي علمت ما لم تعلمه من الأمر، والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته، ولعل في الكلام حذفاً، والتقدير: فمكث الهدهد غير بعدي فجاء فعوتب على مغيبه، فقال معتذراً عن ذلك "أحطت بما لم تحط به". قال الفراء: ويجوز إدغام التاء في الطاء، فيقال أحط، وإدغام الطاء في التاء فيقال أحت "وجئتك من سبإ بنبإ يقين" قرأ الجمهور "من سبإ" بالصرف على أنه اسم رجل، نسب إليه قوم، ومنه قول الشاعر: الواردون وتيم في ذرى سبأ قد غض أعناقهم جلد الجواميس وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة وترك الصرف على أنه اسم مدينة، وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل وقال: سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن بينهما وبين صنعاء ثلاثة أيام. وقيل هو اسم امرأة سميت بها المدينة. قال القرطبي: والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي من حديث عروة بن مسيك المرادي. قال ابن عطية: وخفي هذا على الزجاج فخبط خبط عشواء. وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال: ما أدري ما هو؟ قال النحاس: وأبو عمرو أجل من أن يقول هذا، قال: والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسماً للحي، وإن لم تصرفه جعلته اسماً للقبيلة مثل ثمود، إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف انتهى. وأقول: لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن كانت فيها بلقيس، وهو أيضاً اسم رجل من قحطان، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود، ولكن المراد هنا أن الهدهد جاء سليمان من هذه المدينة بخبر يقين، والنبأ هو الخبر الخطير الشأن، فلما قال الهدهد لسليمان ما قال، قال له سليمان: وما ذاك؟.
فقال: "إني وجدت امرأة تملكهم" وهي بلقيس بنت شرحبيل، وجدها الهدهد تملك أهل سبأ، والجملة هذه كالبيان، والتفسير للجملة التي قبلها: أي ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء "وأوتيت من كل شيء" فيه مبالغة، والمراد أنها أوتيت من كل شيء من الأشياء التي تحتاجها، وقيل المعنى: أوتيت من كل شيء في زمانها شيئاً، فحذف شيئاً لأن الكلام قد دل عليه "ولها عرش عظيم" أي سرير عظيم، ووصفه بالعظم لأنه كما قيل كان من ذهب طوله ثمانون ذراعاً وعرضه أربعون ذراعاً وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعاً ذراعاً مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر. وقيل المراد بالعرش هنا الملك، والأول أولى لقوله: "أيكم يأتيني بعرشها" قال ابن عطية: واللازم من الآية أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وسرير عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.