تفسير الطبري تفسير الصفحة 397 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 397
398
396
 الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَحْسَنَ الّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: والذين آمنوا بـالله ورسوله, فصحّ إيـمانهم عند ابتلاء الله إياهم وفتنته لهم, ولـم يرتدّوا عن أديانهم بأذى الـمشركين إياهم وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ التـي سلفت منهم فـي شركهم وَلَنَـجْزِيَنّهُمْ أحْسَنَ الّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ يقول: ولنثـيبنهم علـى صالـحات أعمالهم فـي إسلامهم, أحسن ما كانوا يعملون فـي حال شركهم مع تكفـيرنا سيئات أعمالهم.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَوَصّيْنا الإنْسانَ فـيـما أنزلنا إلـى رسولنا بِوَالِدَيْهِ أن يفعل بهما حُسْنا.
واختلف أهل العربـية فـي وجه نصب الـحسن, فقال بعض نـحويّـي البصرة: نُصب ذلك علـى نـية تكرير وصّينا. وكأن معنى الكلام عنده: ووصينا الإنسان بوالديه, ووصيناه حسنا. وقال: قد يقول الرجل وصيته خيرا: أي بخير.
وقال بعض نـحويـي الكوفة: معنى ذلك: ووصينا الإنسان أن يفعل حُسنا, ولكن العرب تسقط من الكلام بعضه إذا كان فـيـما بقـي الدلالة علـى ما سقط, وتعمل ما بقـي فـيـما كان يعمل فـيه الـمـحذوف, فنصب قوله حُسْنا وإن كان الـمعنى ما وصفت وصينا, لأنه قد ناب عن الساقط, وأنشد فـي ذلك:
عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذْ تَشْكُوناوَمِنْ أبـي دَهْماءَ إذْ يُوصِيناخَيْرا بها كأنّنا جافُونا
وقال: معنى قوله: يوصينا خيرا: أن نفعل بها خيرا, فـاكتفـى بـيوصينا منه, وقال: ذلك نـحو قوله فَطَفِقَ مَسْحا أي يـمسح مسحا.
وقوله: وَإنْ جاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِـي ما لَـيْسَ لَكَ بِهِ عِلْـمٌ فَلا تُطِعْهُما يقول: ووصينا الإنسان, فقلنا له: إن جاهداك والداك لتشرك بـي ما لـيس لك به علـم أنه لـيس لـي شريك, فلا تطعهما فتشرك بـي ما لـيس لك به علـم ابتغاء مرضاتهما, ولكن خالفهما فـي ذلك إلـيّ مرجعكم يقول تعالـى ذكره: إلـيّ معادكم ومصيركم يوم القـيامة فَأُنَبّئكُمْ بِـما كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ يقول: فأخبركم بـما كنتـم تعملون فـي الدنـيا من صالـح الأعمال وسيئاتها, ثم أجازيكم علـيها الـمـحسن بـالإحسان, والـمسيء بـما هو أهله.
وذُكر أن هذه الاَية نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب سعد بن أبـي وقاص. ذكر من قال ذلك:
21083ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة وَوَصّيْنا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنا... إلـى قوله فَأُنَبّئُكُمْ بِـمَا كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ قال: نزلت فـي سعد بن أبـي وَقّاص لـما هاجر, قالت أمه: والله لا يُظِلّنـي بـيت حتـى يرجع, فأنزل الله فـي ذلك أن يُحْسِن إلـيهما, ولا يطيعَهما فـي الشرك.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنّهُمْ فِي الصّالِحِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: والّذِينَ آمَنُوا بـالله ورسوله وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ من الأعمال, وذلك أن يُؤَدّوا فرائض الله, ويجتنبوا مَـحارمه لَندْخِـلَنّهمْ فـي الصّالِـحِينَ فـي مَدْخـل الصالـحين, وذلك الـجنة.
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمِنَ النّاسِ مَن يِقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مّن رّبّكَ لَيَقُولُنّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ومن الناس من يقول: أقررنا بـالله فوحّدناه, فإذا آذاه الـمشركون فـي إقراره بـالله, جعل فتنة الناس إياه فـي الدنـيا, كعذاب الله فـي الاَخرة, فـارتدّ عن إيـمانه بـالله, راجعا علـى الكفر به وَلَئِنْ جاءَ نَصْر مِنْ رَبّكَ يا مـحمد أهل الإيـمان به لَـيَقُولُنّ هؤلاء الـمرتدّون عن إيـمانهم, الـجاعلون فتنة الناس كعذاب الله: إنّا كُنّا أيها الـمؤمنون مَعَكُمْ ننصركم علـى أعدائكم, كذبـا وإفكا. يقول الله: أوَ لَـيْسَ اللّهُ بأعْلَـمَ أيها القوم من كلّ أحد بـمَا فـي صُدُور العَالـمينَ جميع خـلقه, القائلـين آمنا بـالله وغَيرِهم, فإذا أُوذِي فـي الله ارتد عن دين الله فكيف يخادع من كان لا يخفـى علـيه خافـية, ولا يستتر عنه سرا ولا علانـية. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21084ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثن عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ, فإذَا أُوذِيَ فِـي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ قال: فتنته أن يرتدّ عن دين الله إذا أوذي فـي الله.
21085ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فإذَا أُوذِيَ فِـي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ... إلـى قوله وَلَـيَعْلَـمَنّ الـمُنافِقِـينَ قال: أناس يؤمنون بألسنتهم, فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة فـي أنفسهم افتتنوا, فجعلوا ذلك فـي الدنـيا كعذاب الله فـي الاَخرة.
21086ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول: قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ... الاَية, نزلت فـي ناس من الـمنافقـين بـمكة كانوا يؤمنون, فإذا أوذوا وأصابهم بلاء من الـمشركين, رجعوا إلـى الكفر مخافة من يؤذيهم, وجعلوا أذى الناس فـي الدنـيا كعذاب الله.
21087ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, فـي قول الله فإذَا أُوذِيَ فِـي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ قال: هو الـمنافق إذا أوذي فـي الله رجع عن الدين وكفر, وجعل فتنة الناس كعذاب الله.
وذُكر أن هذه الاَية نزلت فـي قوم من أهل الإيـمان كانوا بـمكة, فخرجوا مهاجرين, فأدركوا وأُخذوا فأعطوا الـمشركين لـما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم. ذكر الـخبر بذلك:
21088ـ حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا مـحمد بن شريك, عن عمرو بن دينار, عن عكرِمة, عن ابن عبـاس, قال: كان قوم من أهل مكة أسلـموا, وكانوا يستـخفون بإسلامهم, فأخرجهم الـمشركون, يوم بدر معهم, فأصيب بعضهم وقتل بعض, فقال الـمسلـمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلـمين, وأكرهوا, فـاستغفروا لهم, فنزلت: إنّ الّذِينَ تَوَفّـاهُمُ الـمَلائِكَةُ ظالِـمِي أنْفُسِهِمْ قالُوا فِـيـمَ كُنْتُـمْ... إلـى آخر الاَية, قال: فكتب إلـى من بقـي بـمكة من الـمسلـمين بهذه الاَية أن لا عذر لهم, فخرجوا, فلـحقهم الـمشركون, فأعطوهم الفتنة, فنزلت فـيهم هذه الاَية: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ, فإذَا أُوذِيَ فِـي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ... إلـى آخر الاَية, فكتب الـمسلـمون إلـيهم بذلك, فخرجوا وأيسوا من كلّ خير, ثم نزلت فـيهم: ثُمّ إنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا, ثُمّ جاهَدُوا وَصَبرُوا, إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيـمٌ فكتبوا إلـيهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا, فخرجوا, فأدركهم الـمشركون, فقاتلوهم, حتـى نـجا من نـجا, وقُتل من قُتل.
21089ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ, فإذَا أُوذِيَ فِـي اللّهِ... إلـى قوله وَلَـيَعْلَـمَنّ الـمُنافِقِـينَ قال: هذه الاَيات أنزلت فِـي القوم الذين ردّهم الـمشركون إلـى مكة, وهذه الاَيات العشر مدنـية إلـى ههنا وسائرها مكيّ.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْمُنَافِقِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولـيعلـمنّ الله أولـياء الله, وحزبه أهل الإيـمان بـالله منكم أيها القوم, ولـيعلـمنّ الـمنافقـين منكم حتـى يـميزوا كلّ فريق منكم من الفريق الاَخر, بإظهار الله ذلك منكم بـالـمـحن والابتلاء والاختبـار وبـمسارعة الـمسارع منكم إلـى الهجرة من دار الشرك إلـى دار الإسلام, وتثاقل الـمتثاقل منكم عنها.
الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ اتّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مّن شَيْءٍ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وقال الذين كفروا بـالله من قريش للذين آمنوا بـالله منهم: اتّبِعُوا سَبِـيـلَنا يقول: قالوا: كونوا علـى مثل ما نـحن علـيه من التكذيب بـالبعث بعد الـمـمات وجحود الثواب والعقاب علـى الأعمال وَلْنَـحْمِلْ خَطاياكُمْ يقول: قالوا فإنكم إن اتبعتـم سبـيـلنا فـي ذلك, فبعثتـم من بعد الـمـمات, وجوزيتـم علـى الأعمال, فإنا نتـحمل آثام خطاياكم حينئذٍ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21090ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: اتّبِعُوا سَبِـيـلَنا وَلْنَـحْمِلْ خَطاياكُمْ قال: قول كفـار قريش بـمكة لـمن آمن منهم, يقول: قالوا: لا نبعث نـحن ولا أنتـم, فـاتبعونا إن كان علـيكم شيء فهو علـينا.
21091ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا هم القادة من الكفـار, قالوا لـمن آمن من الأتبـاع: اتركوا دين مـحمد واتبعوا ديننا, وهذا أعنـي قوله اتّبِعُوا سَبِـيـلَنا وَلْنَـحْمِلْ خَطاياكُمْ وإن كان خرج مخرج الأمر, فإن فـيه تأويـل الـجزاء, ومعناه ما قلت: إن اتبعتـم سبـيـلنا حملنا خطاياكم, كما قال الشاعر:
فَقُلْت ادْعِي وأَدْع فإنّ أنْدَىلِصَوْتٍ أنْ يُنادِيَ دَاعيانِ
يريد: ادعي ولأدع, ومعناه: إن دعوت دعوت.
وقوله: وَما هُمْ بِحامِلِـينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إنّهُمْ لَكاذِبُونَ وهذا تكذيب من الله للـمشركين القائلـين للذين آمنوا اتّبِعُوا سَبِـيـلَنا وَلْنَـحْمِلْ خَطاياكُمْ يقول جلّ ثناؤه: وكذبوا فـي قـيـلهم ذلك لهم, ما هم بحاملـين من آثام خطاياهم من شيء, إنهم لكاذبون فـيـما قالوا لهم ووعدوهم, من حمل خطاياهم إن هم اتبعوهم.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَيَحْمِلُنّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولـيحملنّ هؤلاء الـمشركون بـالله القائلون للذين آمنوا به اتبعوا سبـيـلنا ولنـحمل خطاياكم أوزار أنفسهم وآثامها, وأوزار من أضلوا وصدّوا عن سبـيـل الله مع أوزارهم, ولـيسئلنّ يوم القـيامة عما كانوا يكذّبونهم فـي الدنـيا بوعدهم إياهم الأبـاطيـل, وقـيـلهم لهم: اتبعوا سبـيـلنا ولنـحمل خطاياكم فـيفترون الكذب بذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21092ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة وَلَـيَحْمِلُنّ أثْقالَهُمْ أي أوزارهم وأثْقالاً مَعَ أثْقالِهِمْ يقول: أوزار من أضلوا.
21093ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَلَـيَحْمِلُنّ أثْقالَهُمْ, وأثْقالاً مَعَ أثْقالِهِمْ. وقرأ قوله: لِـيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِـيامَةِ, وَمِنْ أوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بغَيْرِ عِلْـمٍ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ قال: فهذا قوله وأثْقالاً مَعَ أثْقالِهِمْ.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ }.
وهذا وعيد من الله تعالـى ذكره هؤلاء الـمشركين من قريش, القائلـين للذين آمنوا: اتبعوا سبـيـلنا, ولنـحمل خطاياكم, يقول لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزننك يا مـحمد ما تلقـى من هؤلاء الـمشركين أنت وأصحابك من الأذى, فإنـي وإن أملـيت لهم فأطلت إملاءهم, فإن مصير أمرهم إلـى البوار, ومصير أمرك وأمر أصحابك إلـى العلوّ والظفر بهم, والنـجاة مـما يحلّ بهم من العقاب, كفعلنا ذلك بنوح, إذ أرسلناه إلـى قومه, فلبث فـيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما يدعوهم إلـى التوحيد, وفراق الاَلهة والأوثان, فلـم يزدهم ذلك من دعائه إياهم إلـى الله من الإقبـال إلـيه, وقبول ما أتاهم به من النصيحة من عند الله إلاّ فرارا.
وذُكر أنه أُرسل إلـى قومه وهو ابن ثلاث مئة وخمسين سنة, كما:
21094ـ حدثنا نصر بن علـيّ الـجهضمي, قال: حدثنا نوح بن قـيس, قال: حدثنا عون بن أبـي شداد, قال: إن الله أرسل نوحا إلـى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مئة سنة فلبث فـيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما, ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مئة سنة فأخذهم الطوفـان, يقول تعالـى ذكره: فأهلكهم الـماء الكثـير, وكلّ ماء كثـير فـاش طامّ, فهو عند العرب طوفـان, سيلاً كان أو غيره, وكذلك الـموت إذا كان فـاشيا كثـيرا, فهو أيضا عندهم طوفـان ومنه قول الراجز:
(أفْناهُمُ طُوفـان مَوْتٍ جارِفِ )
وبنـحو قولنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21095ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: فأخَذَهُمُ الطّوفـانُ قال: هو الـماء الذي أرسل علـيهم.
21096ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول: الطوفـان: الغرق.
وقوله: وَهُمْ ظالِـمُونَ يقول: وهم ظالـمون أنفسهم بكفرهم