تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 413 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 413

413 : تفسير الصفحة رقم 413 من القرآن الكريم

** أَلَمْ تَرَوْاْ أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ
يقول تعالى منبهاً خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والاَخرة بأنه سخر لهم ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم, وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد, وجعله إياها لهم سقفاً محفوظاً, وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار, وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة الشبه والعلل, ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم, بل منهم من يجادل في الله, أي في توحيده وإرساله الرسل ومجادلته في ذلك بغير علم, ولا مستند من حجة صحيحة, ولا كتاب مأثور صحيح, ولهذا قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} أي مبين مضيء {وإذا قيل لهم} أي لهؤلاء المجادلين في توحيد الله {اتبعوا ما أنزل الله} أي على رسوله من الشرائع المطهرة{قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءن} أي لم يكن لهم حجة إلا اتباع الاَباء الأقدمين, قال الله تعالى: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} أي فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه, ولهذا قال تعالى: {أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير}.

** وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ وَإِلَىَ اللّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ * وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوَاْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمّ نَضْطَرّهُمْ إِلَىَ عَذَابٍ غَلِيظٍ
يقول تعالى مخبراً عمن أسلم وجههلله أي أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه, ولهذا قال {وهو محسن} أي في عمله باتباع ما به أمر, وترك ما عنه زجر {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي فقد أخذ موثقاً من الله متيناً لا يعذبه {وإلى الله عاقبة الأمور * ومن كفر فلا يحزنك كفره} أي لا تحزن عليهم يا محمد في كفرهم بالله وبما جئت به, فإن قدر الله نافذ فيهم, وإلى الله مرجعهم فينبئهم بما عملوا, أي فيجزيهم عليه {إن الله عليم بذات الصدور} فلا تخفى عليه خافية, ثم قال تعالى: {نمتعهم قليل} أي في الدنيا {ثم نضطرهم} أي نلجئهم {إلى عذاب غليظ} أي فظيع صعب مشق على النفوس, كما قال تعالى: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}.

** وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ إِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء المشركين به أنهم يعرفون أن الله خالق السموات والأرض وحده لا شريك له, ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خلق له وملك له, ولهذا قال تعالى: {ولئن سألتم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله} أي إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم {بل أكثرهم لا يعلمون}. ثم قال تعالى: {لله ما في السموات والأرض} أي هو خلقه وملكه {إن الله هوالغني الحميد} أي الغني عما سواه. وكل شيء فقير إليه, الحميد في جميع ما خلق, له الحمد في السموات والأرض على ما خلق وشرع, وهو المحمود في الأمور كلها.

** وَلَوْ أَنّمَا فِي الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
يقول تعالى مخبراً عن عظمته وكبريائه وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا, وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد, ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها, كما قال سيد البشر وخاتم الرسل «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» فقال تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله} أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً وجعل البحر مداداً وأمده سبعة أبحر معه, فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفذ ماء البحر, ولو جاء أمثالها مدداً, وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة, ولم يرد الحصر ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب, بل كما قال تعالى في الاَية الأخرى {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدد} فليس المراد بقوله {بمثله} آخر فقط بل بمثله ثم بمثله, ثم بمثله ثم هلم جرا, لأنه لا حصر لاَيات الله وكلماته.
قال الحسن البصري: لو جعل شجر الأرض أقلاماً, وجعل البحر مداداً, وقال الله إن من أمري كذا ومن أمري كذا, لنفد ماء البحر وتكسرت الأقلام. وقال قتادة: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد, فقال الله تعالى: {ولو أن ما في الأرض شجرة أقلام} أي لو كان شجر الأرض أقلاماَ ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه. وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها, وقد أنزل الله ذلك {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} الاَية, يقول: لو كان البحر مداداً لكلمات الله, والأشجار كلها أقلاماً, لا نكسرت الأقلام وفني ماء البحر, وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء, لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني كما ينبغي, حتى يكون هو الذي يثني على نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول.
وقد روي أن هذه الاَية نزلت جواباً لليهود. قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جيبر أو عكرمة عن ابن عباس أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد أرأيت قولك {وما أوتيتم من العلم إلا قليل} إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلاكما» قالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنها في علم الله قليل, وعندكم من ذلك ما يكفيكم» وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك {ولو أن في الأرض من شجرة أقلام} الاَية, وهكذا روي عن عكرمة وعطاء بن بشار, وهذا يقتضي أن هذه الاَية مدنية, لا مكية, والمشهور أنها مكية, والله أعلم.
وقوله {إن الله عزيز حكيم} أي عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه, فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه, حكيم في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه وجميع شؤونه. وقوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} أي ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة, الجميع هين عليه, {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} أي لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة, فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} وقوله {إن الله سميع بصير} أي كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة, كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة, ولهذا قال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} الاَية.