تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 417 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 417

417 : تفسير الصفحة رقم 417 من القرآن الكريم

** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ * إِنّ رَبّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه آتاه الكتاب, وهو التوراة, وقوله تعالى: {فلا تكن في مرية من لقائه} قال قتادة: يعني به ليلة الإسراء, ثم روي عن أبي العالية الرياحي قال: حدثني ابن عم نبيكم, يعني ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلاً آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة, ورأيت عيسى رجلاً مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض, سبط الرأس, ورأيت مالكاً خازن النار والدجال» في آيات أراهن الله إياه {فلا تكن في مرية من لقائه} أنه قد رأى موسى ولقي موسى ليلة أسري به.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا الحسن بن علي الحلواني, حدثنا روح بن عبادة. حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي العالية, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} قال: جعل موسى هدى لبني إسرائيل, وفي قوله {فلا تكن في مرية من لقائه} قال: من لقاء موسى ربه عز وجل. وقوله تعالى: {وجعلناه} أي الكتاب الذي آتيناه {هدى لبني إسرائيل} كما قال تعالى في سورة الإسراء {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيل}.
وقوله: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} أي لما كانوا صابرين على أوامر الله, وترك زواجره, وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوهم به, كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله, ويدعون إلى الخير, ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, ثم لما بدلوا وحرفوا وأولوا, سلبوا ذلك المقام, وصارت قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه, فلا عملاً صالحاً ولا اعتقاداً صحيحاً, ولهذا قوله تعالى: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب} قال قتادة وسفيان : لما صبروا عن الدنيا وكذلك قال الحسن بن صالح قال سفيان: هكذا كان هؤلاء, ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا قال وكيع: قال سفيان: لا بد للدين من العلم, كما لا بد للجسد من الخبز. وقال ابن بنت الشافعي: قرأ أبي على عمي أو عمي على أبي: سئل سفيان عن قول علي رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ألم تسمع قوله {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبرو} قال: لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوساء. قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ولهذا قال تعالى: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقتاهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر} الاَية, كما قال هنا {إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} أي من الاعتقادات والأعمال.

** أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ
يقول تعالى: أولم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل, ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به من قويم السبل, فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثر {هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركز} ولهذا قال {يمشون في مساكنهم} أي هؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين, فلا يرون منها أحداً ممن يسكنها ويعمرها, ذهبوا منها {كأن لم يغنوا فيه} كما قال {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلمو} وقال {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في الأرض ـ إلى قوله ـ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ولهذا قال ههنا {إن في ذلك لاَيات} أي إن في ذهاب أولئك القوم ودمارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل, ونجاة من آمن بهم, لاَيات وعبراً ومواعظ ودلائل متناظرة {أفلا يسمعون} أي أخبار من تقدم كيف كان أمرهم.
وقوله تعالى: {أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز} يبين تعالى لطفه بخلقه وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح, وهو ما تحمله الأنهار ويتحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته, ولهذا قال تعالى: {إلى الأرض الجرز} وهي التي لا نبات فيها, كما قال تعالى: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرز} أي يبساً لا تنبت شيئاً, وليس المراد من قوله {إلى الأرض الجرز} أرض مصر فقط, بل هي بعض المقصود وإن مثل بها كثير من المفسرين فليست هي المقصودة وحدها, ولكنها مرادة قطعاً من هذه الاَية, فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطراً لتهدمت أبنيتها, فيسوق الله تعالى إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة, وفيه طين أحمر, فيغشى أرض مصر وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء وذلك الطين أيضاً, ليبنبت الزرع فيه, فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم, وطين جديد من غير أرضهم, فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبدً.
قال ابن لهيعة عن قيس بن حجاج عمن حدثه قال: لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص, حين دخل بؤونة من أشهر العجم, فقالوا: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها قال: وما ذاك ؟ قالوا: إن كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر, عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها, فأرضينا أبويها, وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون, ثم ألقيناها في هذا النيل, فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام, إن الإسلام يهدم ما كان قبله, فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء, فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك, فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت, وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا, فألقها في النيل, فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها, فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر, أما بعد, فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري, وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك, فنسأل الله أن يجريك. قال: فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة, قد قطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم. رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي الطبري في كتاب السنة له, ولهذا قال تعالى: {أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون} كما قال تعالى: {فلينظر بالإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صب} الاَية, ولهذا قال ههنا {أفلا يبصرون}.
وقال ابن أبي نجيح عن رجل عن ابن عباس في قوله {إلى الأرض الجزر} قال: هي التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً إلا ما يأتيها من السيول, وعن ابن عباس ومجاهد: هي أرض باليمن, وقال الحسن رحمه الله: هي قرى بين اليمن والشام. وقال عكرمة والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد: الأرض الجرز التي لا نبات فيها, وهي مغبرة, قلت: وهذا كقوله تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناه} الاَيتين.

** وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنّهُمْ مّنتَظِرُونَ
يقول تعالى مخبراً عن استعجال الكفار ووقوع بأس الله بهم, وحلول غضبه ونقمته عليهم, استبعاداً وتكذيباً وعناداً {ويقولون متى هذا الفتح} أي متى تنصر علينا يا محمد ؟ كما تزعم أن لك وقتاً علينا وينتقم لك منا, فمتى يكون هذا ؟ ما نراك أنت وأصحابك إلا مختفين خائفين ذليلين, قال الله تعالى: {قل يوم الفتح} أي إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا وفي الأخرى {لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون} كما قال تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} الاَيتين. ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة فقد أبعد النجعة, وأخطأ فأفحش, فإن يوم الفتح قد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام الطلقاء, وقد كانوا قريباً من ألفين, ولوكان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: {قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون} وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل كقوله {فافتح بيني وبينهم فتح} الاَية, وكقوله {قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق} الاَية, وقال تعالى: {واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد} وقال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفرو} وقال تعالى: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}.
ثم قال تعالى: {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون} أي أعرض عن هؤلاء المشركين, وبلغ ما أنزل إليك من ربك, كقوله: {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو} الاَية, وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعد وسينصرك على من خالفك, إنه لا يخلف الميعاد. وقوله {إنهم منتظرون} أي أنت منتظر وهم منتظرون ويتربصون بكم الدوائر {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة الله في نصرتك وتأييدك, وسيجدون غب ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك من وبيل عقاب الله لهم, وحلول عذابه بهم, وحسبنا الله ونعم الوكيل.
آخر تفسير سورة السجدة ولله الحمد والمنة.