تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 416 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 416

416 : تفسير الصفحة رقم 416 من القرآن الكريم

** وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـَكِنْ حَقّ الْقَوْلُ مِنّي لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَآ إِنّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يخبر تعالى عن حال المشركين يوم القيامة وقالهم حين عاينوا البعث وقاموا بين يدي الله عز وجل, حقيرين ذليلين ناكسي رؤوسهم, أي من الحياء والخجل يقولون {ربنا أبصرنا وسمعن} أي نحن الاَن نسمع قولك ونطيع أمرك, كما قال تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتونن} وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار بقولهم {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنافي أصحاب السعير} وهكذا هؤلاء يقولون {ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعن} أي إلى دار الدنيا {نعمل صالحاً إنا موقنون} أي قد أيقنا وتحققنا فيها أن وعدك حق ولقاءك حق, وقد علم الرب تعالى منهم أنه لو أعادهم إلى دار الدنيا لكانوا كما كانوا فيها كفاراً يكذبون بآيات الله ويخالفون رسله, كما قال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربن} الاَية, وقال ههنا {ولو شئنا لاَتينا كل نفس هداه} كما قال تعالى: {ولو شاء ربك لاَمن من في الأرض كلهم جميع} {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} أي من الصنفين فدارهم النار لامحيد لهم عنها ولا محيص لهم منها, نعوذ بالله وكلماته التامة من ذلك, {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذ} أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به واستبعادكم وقوعه وتناسيكم له إذ عاملتموه معاملة من هو ناس له {إنا نسيناكم} أي سنعاملكم معاملة الناسي, لأنه تعالى لا ينسى شيئاً ولا يضل عنه شيء, بل من باب المقابلة كما قال تعالى: {فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذ} وقوله تعالى: {وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} أي بسبب كفركم وتكذيبكم, كما قال تعالى في الاَية الأخرى {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً * إلا حميماً وغساقاً * ـ إلى قوله ـ فلن نزيدكم إلا عذاب}.

** إِنّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرّواْ سُجّداً وَسَبّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول تعالى: {إنما يؤمن بآياتن} أي إنما يصدق بها {الذين إذا ذكروا بها خروا سجد} أي استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً {وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} أي عن أتباعهم والانقياد لها كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة, قال الله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} ثم قال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والإضطجاع على الفرش الوطيئة, قال مجاهد والحسن في قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} يعني بذلك قيام الليل. وعن أنس وعكرمة ومحمد بن المنكدر وأبي حازم وقتادة: هو الصلاة بين العشاءين, وعن أنس أيضاً: هو انتظار صلاة العتمة. ورواه ابن جرير بإسناد جيد. وقال الضحاك: هو صلاة العشاء في جماعة وصلاة الغداة في جماعة {يدعون ربهم خوفاً وطمع} أي خوفاً من وبال عقابه وطمعاً في جزيل ثوابه {ومما رزقناهم ينفقون} فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية, ومقدم هؤلاء وسيدهم وفخرهم في الدنيا والاَخرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه.
وفينا رسول الله يتلو كتابهإذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى, فقلوبنابه موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشهإذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا عطاء بن السائب عن مرة الهمذاني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته فيقول: ربنا أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي, ثار من فراشه ووطائه من حيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي, ورجل غزا في سبيل الله تعالى فانهزموا, فعلم ما عليه من الفرار وما له في الرجوع, فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي, فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه». وهكذا رواه أبو داود في الجهاد عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير فقلت: يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار, قال «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه, تعبد الله ولا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت ـ ثم قال: ـ ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة, والصدقة تطفيء الخطيئة, وصلاة الرجل في جوف الليل ـ ثم قرأ ـ {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {جزاء بما كانوا تعلمون} ثم قال ـ ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ ـ فقلت: بلى يارسول الله فقال: ـ رأس الأمر الإسلام, وعموده الصلاة, وذروه سنامه الجهاد في سبيل الله ـ ثم قال ـ: ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟» فقلت: بلى يا نبي الله, فأخذ بلسانه ثم قال «كف عليك هذا». فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به, فقال «ثكلتك أمك يا معاذ, وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم» ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم من طرق عن معمر به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه ابن جرير من حديث شعبة عن الحكم قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له «ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة والصدقة تكفر الخطيئة, وقيام العبد في جوف الليل» وتلا هذه الاَية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون} ورواه أيضاً من حديث الثوري عن منصور بن المعتمر عن الحكم, عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. ومن حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت, والحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ مرفوعاً بنحوه. ومن حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر, عن معاذ أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} قال «قيام العبد من الليل».
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا فطر بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت والحكم وحكيم بن جرير عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي لله في غزوة تبوك فقال «إن شئت أنبأتك بأبواب الخير: الصوم جنة, والصدقة تطفىء الخطيئة, وقيام الرجل في جوف الليل» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الاَية, ثم قال: حدثنا أبي, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا جمع الله الأولين والاَخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم, ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} ـ الاَية ـ فيقومون وهم قليل».
وقال البزار: حدثنا عبد الله بن شبيب, حدثنا الوليد بن العطاء بن الأغر, حدثنا عبد الحميد بن سليمان, حدثني مصعب عن زيد بن أسلم عن أبيه, قال: قال بلال: لما نزلت هذه الاَية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الاَية, كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء, فنزلت هذه الاَية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} ثم قال: لا نعلم روى أسلم عن بلال سواه, وليس له طريق عن بلال غير هذه الطريق.
وقوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} الاَية, أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد, لما أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم من الثواب, جزاء وفاقاً, فإن الجزاء من جنس العمل قال الحسن البصري: أخفى قوم عملهم, فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر, رواه ابن أبي حاتم.
قال البخاري قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} الاَية, حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} قال: وحدثنا سفيان, حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال الله مثله. قيل لسفيان رواية, قال: فأي شيء ؟ ورواه مسلم والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به. وقال الترمذي: حسن صحيح, ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر, حدثنا أبو أسامة عن الأعمش, حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر ذخراً من بله ما اطلعتم عليه» ثم قرأ {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} قال أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح: قرأ أبو هريرة {قرات أعين} انفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى قال: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر» أخرجاه في الصحيحين من رواية عبد الرزاق, قال: ورواه الترمذي في التفسير, وابن جرير من حديث عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال حماد بن سلمة عن ثابت بن أبي رافع, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال حماد: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من يدخل الجنة ينعم لا يبأس, لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه, في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وروى الإمام أحمد: حدثنا هارون, حدثنا ابن وهب, حدثني أبو صخر أن أبا حازم حدثه قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى, ثم قال في آخر حديثه «فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر» ثم قرأ هذه الاَية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع ـ إلى قوله ـ يعملون} وأخرجه مسلم في صحيحه عن هارون بن معروف وهارون بن سعيد, كلاهما عن ابن وهب به وقال ابن جرير: حدثني العباس بن أبي طالب, حدثنا معلى بن أسد, حدثنا سلام بن أبي مطيع عن قتادة عن عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه عز وجل قال: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر لم يخرجوه. وقال مسلم أيضاً في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر وغيره, حدثنا سفيان, حدثنا مطرف بن طريف وعبد الملك بن سعيد, سمعا الشعبي يخبر عن المغيرة بن شعبة قال: سمعته على المنبر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل: ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة, فيقال له: ادخل الجنة, فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك مَلكٍ من ملوك الدنيا ؟ فيقول: رضيت رب, فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله, ومثله فقال في الخامسة, رضيت رضيت ربي, فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله, ولك ما اشتهت ولذت عينك, فيقول: رضيت رب, قال: رب فأعلاهم منزلة ؟ قال: أولئك الذين أردت, غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها, فلم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر على قلب بشر, قال: ومصداقه من كتاب الله عز وجل {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} الاَية, ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر وقال: حسن صحيح. قال: ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة ولم يرفعه, والمرفوع أصح.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن منير المدائني, حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد, حدثنا زياد بن خيثمة عن محمد بن جحادة عن عامر بن عبد الواحد قال, بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكانه سبعين سنة, ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه, فتقول: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب, فيقول: من أنت ؟ فتقول: أنا من المزيد, فيمكث معها سبعين سنة, ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه, فتقول له: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب, فيقول: من أنت ؟ فتقول: أنا التي قال الله {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: تدخل عليهم الملائكة في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات, معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم, وذلك قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} ويخبرون أن الله عنهم راض. وروى ابن جرير: حدثنا سهل بن موسى الرازي, حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أبي اليمان الهوزني أو غيره, قال: الجنة مائة درجة, أولها درجة فضة, وأرضها فضة, ومساكنها فضة, وآنيتها فضة, وترابها المسك, والثانية ذهب, وأرضها ذهب, ومساكنها ذهب, وآنيتها ذهب, وترابها المسك, والثالثة لؤلؤ, وأرضها لؤلؤ, ومساكنها اللؤلؤ, وآنيتها اللؤلؤ, وترابها المسك, وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ثم تلا هذه الاَية {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم} الاَية.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا معتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح الأمين قال «يؤتى بحسنات العبد وسيئاته ينقص بعضها من بعض, فإن بقيت حسنة واحدة وسع الله له في الجنة, قال: فدخلت على بزداد فحدث بمثل هذا الحديث, قال: فقلت فأين ذهبت الحسنة ؟ قال {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم} الاَية, قلت: قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} قال: العبد يعمل سراً أسره إلى لله لم يعلم به الناس, فأسر الله له يوم القيامة قرة أعين.

** أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاّ يَسْتَوُونَ * أَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوَىَ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمّا الّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النّارُ كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ * وَلَنُذِيقَنّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الأدْنَىَ دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن ذُكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ ثُمّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ
يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمناً بآياته متبعاً لرسله, بمن كان فاسقاً أي خارجاً عن طاعة ربه, مكذباً لرسل الله إليه, كما قال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} وقال تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} الاَية, ولهذا قال تعالى ههنا {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} أي عند الله يوم القيامة, وقد ذكر عطاء بن يسار والسدي وغيرهما أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط, ولهذا فصل حكمهم فقال {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي صدقت قلوبهم بآيات الله وعملوا يمقتضاها وهي الصالحات {فلهم جنات المأوى} أي التي فيها المساكن والدور والغرف العالية {نزل} أي ضيافة وكرامة {بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقو} أي خرجوا عن الطاعة فمأواهم النار, كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها, كقوله {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيه} الاَية قال الفضيل بن عياض: «والله إن الأيدي لموثقة, وإن الأرجل لمقيدة, وإن اللهب ليرفعهم, والملائكة تقمعهم {وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً.
وقوله تعالى: {ولنذيقهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} قال ابن عباس: يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها, وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه. وروي مثله عن أبي بن كعب وأبي العالية والحسن وإبراهيم النخعي والضحاك وعلقمة وعطية ومجاهد وقتادة وعبد الكريم الجزري وخصيف. وقال ابن عباس في رواية عنه: يعني به إقامة الحدود عليهم. وقال البراء بن عازب ومجاهد وأبو عبيدة: يعني به عذا ب القبر. وقال النسائي, أخبرنا عمرو بن علي, أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص, وأبي عبيدة عن عبد الله {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} قال: سنون أصابتهم.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عبد الله بن عمر القواريري, حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن قتادة عن عروة عن الحسن العوفي عن يحيى الجزار, عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب في هذه الاَية {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} قال: القمر والدخان قد مضيا والبطشة واللزام, ورواه مسلم من حديث شعبة به موقوفاً نحوه. وعند البخاري عن ابن مسعود نحوه. وقال عبد الله بن مسعود أيضاً في رواية عنه: العذاب الأدنى ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر, وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم. قال السدي وغيره: لم يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير, فأصيبوا أو غرموا, ومنهم من جمع له الأمران.
وقوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنه} أي لا أظلم ممن ذكره الله بآياته وبينها له ووضحها, ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها. قال قتادة.: إياكم والإعراض عن ذكر الله, فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة, وأعوز أشد العوز, وعظم من أعظم الذنوب, ولهذا قال تعالى متهدداً لمن فعل ذلك {إنا من المجرمين منتقمون} أي سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام. وروى ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي, حدثنا محمد بن المبارك, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا عبد العزيز بن عبيد الله عن عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله يقول: ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق, أو عق والديه, أو مشى مع ظالم ينصره فقد أجرم, يقول الله تعالى: {إنا من المجرمين منتقمون} ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش به وهذا حديث غريب جداً.