تفسير الطبري تفسير الصفحة 417 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 417
418
416
 الآية : 21
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَنُذِيقَنّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الأدْنَىَ دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى العذاب الأدنى, الذي وعد الله أن يذيقه هؤلاء الفسقة, فقال بعضهم: ذلك مصائب الدنـيا فـي الأنفس والأموال. ذكر من قال ذلك:
21526ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـي, عن ابن عبـاس وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى يقول: مصائب الدنـيا وأسقامها وبلاؤها مـما يبتلـي الله بها العبـاد حتـى يتوبوا.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ لعلّهُمْ يَرْجِعُونَ قال: العذاب الأدنى: بلاء الدنـيا, قـيـل: هي الـمصائب.
21527ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن شعبة, عن قتادة, عن عروة, عن الـحسن العرنـي, عن ابن أبـي لـيـلـى, عن أُبـيّ بن كعب وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَدْنَى قال: الـمصيبـات فـي الدنـيا. قال: والدخان قد مضى, والبطشة واللزام.
قال أبو موسى: ترك يحيى بن سعيد, يحيى بن الـجزار, نقصان رجل.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد ومـحمد بن جعفر, قالا: حدثنا شعبة, عن قتادة, عن ابن عروة, عن الـحسن العرنـي, عن يحيى بن الـجزار, عن ابن أبـي لَـيـلـى, عن أُبـيّ بن كعب, أنه قال: فـي هذه الاَية وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ قال: مصيبـات الدنـيا, واللزوم والبطشة, أو الدخان شكّ شعبة فـي البطشة أو الدخان.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة, عن عروة, عن الـحسن العرنـي, عن يحيى بن الـجزّار, عن ابن أبـي لَـيـلـى, عن أُبـيّ بن كعب, بنـحوه, إلاّ أنه قال: الـمصيبـات واللزوم والبطشة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا زيد بن حبـاب, عن شعبة, عن قتادة, عن عروة, عن الـحسن العرنـي, عن يحيى بن الـجزّار, عن عبد الرحمن بن أبـي لَـيـلـى, عن أُبـيّ بن كعب, قال: الـمصيبـات يصابون بها فـي الدنـيا: البطشة, والدخان, واللزوم.
21528ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن أبـي جعفر الرازي, عن الربـيع, عن أبـي العالـية وَلَنُذيقَنّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنَى قال: الـمصائب فـي الدنـيا.
21529ـ قال: ثنا أبو خالد الأحمر, عن جُوَيبر, عن الضحاك وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: الـمصيبـات فـي دنـياهم وأموالهم.
21530ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, حدثه, عن الـحسن, قوله وَلَنُذيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى: أي مصيبـات الدنـيا.
21531ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيـم وَلَنُذيقَنّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنَى قال: أشياء يُصابون بها فـي الدنـيا.
وقال آخرون: عنى بها الـحدود. ذكر من قال ذلك:
21532ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, عن شبـيب, عن عكرمة, عن ابن عبـاس وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: الـحدود.
وقال آخرون: عنى بها القتل بـالسيف, قال: وقتلوا يوم بدر. ذكر من قال ذلك:
21533ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن السديّ, عن أبـي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله, وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى قال: يوم بدر.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن السديّ, عن أبـي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله مثله.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا إسرائيـل, عن السديّ, عن مسروق, عن عبد الله, مثله.
21534ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عوف عمن حدثه, عن الـحسن بن علـيّ, أنه قال وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: القتل بـالسيف صبرا.
21535ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الأعلـى, عن عوف, عن عبد الله بن الـحارث بن نوفل وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: القتل بـالسيف, كلّ شيء وعد الله هذه الأمة من العذاب الأدنى إنـما هو السيف.
21536ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: القتل والـجوع لقريش فـي الدنـيا.
21537ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان مـجاهد يحدّث عن أُبـيّ بن كعب أنه كان يقول وَلَنُذيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ يوم بدر.
وقال آخرون: عنى بذلك سنون أصابتهم. ذكر من قال ذلك:
21538ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: سنون أصابتهم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم, مثله.
وقال آخرون: عنى بذلك: عذاب القبر. ذكر من قال ذلك:
21539ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة, قال: حدثنا عبـيد الله, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى, عن مـجاهد: وَلَنُذيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ قال: الأدنى فـي القبور وعذاب الدنـيا.
وقال آخرون: ذلك عذاب الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
21540ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذاب الأدْنَى قال: العذاب الأدنى: عذاب الدنـيا.
وأولـى الأقوال فـي ذلك أن يقال: إن الله وعد هؤلاء الفسقة الـمكذّبـين بوعيده فـي الدنـيا العذاب الأدنى, أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر, والعذاب: هو ما كان فـي الدنـيا من بلاء أصابهم, إما شدّة من مـجاعة, أو قتل, أو مصائب يصابون بها, فكل ذلك من العذاب الأدنى, ولـم يخصص الله تعالـى ذكره, إذ وعدهم ذلك أن يعذّبهم بنوع من ذلك دون نوع, وقد عذّبهم بكل ذلك فـي الدنـيا بـالقتل والـجوع والشدائد والـمصائب فـي الأموال, فأوفـى لهم بـما وعدهم.
وقوله: دُونَ العَذَاب الأكْبَرِ يقول: قبل العذاب الأكبر, وذلك عذاب يوم القـيامة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21541ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن السديّ, عن أبـي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: يوم القـيامة.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا إسرائيـل, عن السديّ, عن مسروق, عن عبد الله مثله.
21542ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ يوم القـيامة فـي الاَخرة.
حدثنـي مـحمد بن عمارة, قال: حدثنا عبـيد الله, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى, عن مـجاهد دونَ العَذَابِ الأكْبَرِ يوم القـيامة.
21543ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ يوم القـيامة. حدّث به قتادة, عن الـحسن.
21544ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله دُونَ العَذَاب الأكْبَرِ قال: العذاب الأكبر: عذاب الاَخرة.
وقوله لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول: كي يرجعوا ويتوبوا بتعذيبهم العذاب الأدنى. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21545ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن السديّ, عن أبـي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله لَعلّهُمْ يَرْجِعُونَ قال: يتوبون.
21546ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن أبـي جعفر الرازيّ, عن الربـيع, عن أبـي العالـية لَعَلّهُمْ يَرْجعونَ قال: يتوبون.
21547ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ: أي يتوبون.
الآية : 22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن ذُكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ ثُمّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وأيّ الناس أظلـم لنفسه مـمن وعظه الله بحججه, وآي كتابه ورسله, ثم أعرض عن ذلك كله, فلـم يتعظ بـمواعظه, ولكنه استكبر عنها.
وقوله إنّا مِنَ الـمُـجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ يقول: إنا من الذين اكتسبوا الاَثام, واجترحوا السيئات منتقمون.
وكان بعضهم يقول: عنى بـالـمـجرمين فـي هذا الـموضع: أهل القدر. ذكر من قال ذلك:
21548ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا مروان بن معاوية, قال: أخبرنا وائل بن داود, عن مروان بن سفـيح, عن يزيد بن رفـيع, قال: إن قول الله فـي القرآن إنّا مِنَ الـمُـجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ هم أصحاب القدر, ثم قرأ إنّ الـمُـجْرِمِينَ فِـي ضَلالٍ وَسُعُرٍ... إلـى قوله خَـلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
حدثنا الـحسن بن عرفة, قال: حدثنا مروان, قال: أخبرنا وائل بن داود, عن ابن سفـيح, عن يزيد بن رفـيع بنـحوه, إلاّ أنه قال فـي حديثه: ثم قرأ وائل بن داود هؤلاء الاَيات إنّ الـمُـجْرِمِينَ فِـي ضَلالٍ وسُعُرٍ... إلـى آخر الاَيات.
وقال آخرون فـي ذلك, بـما:
21549ـ حدثنـي به عمران بن بكار الكلاعي, قال: حدثنا مـحمد بن الـمبـارك, قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش, قال: حدثنا عبد العزيز بن عبـيد الله, عن عبـادة بن نسيّ, عن جنادة بن أبـي أُميّة, عن معاذ بن جبل, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثَلاثٌ مَنْ فَعَلَهُنّ فَقَدْ أجْرَمَ: مَنِ اعْتَقَدَ لِوَاءً فِـي غيرِ حَقّ, أوْ عَقّ وَالِدَيْهِ, أوْ مَشَى مَعَ ظالِـمٍ يَنْصُرُهُ فَقَدْ أجْرَمَ. يَقُولُ اللّهُ: إنّا مِنَ الـمُـجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ».
الآية : 23 -24
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد آتـينا موسى التوراة, كما آتـيناك الفرقان يا مـحمد فَلا تَكُنْ فِـي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ يقول: فلا تكن فـي شكّ من لقائه فكان قتادة يقول: معنى ذلك: فلا تكن فـي شكّ من أنك لقـيته, أو تلقاه لـيـلة أُسري بك, وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
21550ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة عن أبـي العالـية الرياحي, قال: حدثنا ابن عمّ نبـيكم, يعنـي ابن عبـاس, قال: قال نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: «أُرِيتُ لَـيْـلَةَ أُسْرِيَ بِـي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلاً آدَمَ طِوَالاً جَعْدا, كأنّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ, ورأيْتُ عِيسَى رَجُلاً مَربُوعَ الـخَـلْقِ إلـى الـحُمْرَةِ والبَـياضِ, سَبْطَ الرأسِ, ورأيْتُ مالِكا خازِنَ النّارِ, والدّجّالَ» فـي آيات أرَاهُنّ اللّهُ إيّاهُ, فَلا تَكُنْ فِـي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ أنه قد رأى موسى, ولقـي موسى لـيـلة أُسري به.
وقوله: وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِـي إسْرائِيـلَ يقول تعالـى ذكره: وجعلنا موسى هدى لبنـي إسرائيـل, يعنـي: رشادا لهم يرشدون بـاتبـاعه, ويصيبون الـحقّ بـالاقتداء به, والائتـمام بقوله. وبـالذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21551ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِـي إسْرائِيـلَ قال: جعل الله موسى هدى لبنـي إسرائيـل.
وقوله: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمّةً يقول تعالـى ذكره: وجعلنا من بنـي إسرائيـل أئمة, وهي جمع إمام, والإمام الذي يؤتـمّ به فـي خير أو شرّ, وأريد بذلك فـي هذا الـموضع أنه جعل منهم قادة فـي الـخير, يؤتـم بهم, ويُهْتَدى بهديهم. كما:
21552ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمّةً يَهْدُونَ بأمْرِنا قال: رؤساء فـي الـخير. وقوله يَهْدُونَ بأمْرِنا يقول تعالـى ذكره: يهدون أتبـاعهم وأهل القبول منهم بإذننا لهم بذلك, وتقويتنا إياهم علـيه.
وقوله: لَـمّا صَبرُوا اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة, وبعض أهل الكوفة: لَـمّا صَبرُوا بفتـح اللام وتشديد الـميـم, بـمعنى: إذ صبروا, وحين صبروا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «لِـمَا» بكسر اللام وتـخفـيف الـميـم, بـمعنى: لصبرهم عن الدنـيا وشهواتها, واجتهادهم فـي طاعتنا, والعمل بأمرنا. وذُكر أن ذلك فـي قراءة ابن مسعودِ: «بـمَا صَبَرُوا». وما إذا كسرت اللام من «لِـمَا» فـي موضع خفض, وإذا فتـحت اللام وشدّدت الـميـم, فلا موضع لها, لأنها حينئذٍ أداة.
والقول عندي فـي ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا الـمعنى, قد قرأ بكل واحدة منهما عامة من القرّاء فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وتأويـل الكلام إذا قُرىء ذلك بفتـح اللام وتشديد الـميـم: وجعلنا منهم أئمة يهدون أتبـاعهم بإذننا إياهم, وتقويتنا إياهم علـى الهداية, إذ صبروا علـى طاعتنا, وعزفوا أنفسهم عن لذّات الدنـيا وشهواتها. وإذا قرىء بكسر اللام علـى ما قد وصفنا. وقد:
21553ـ حدثنا ابن وكيع, قال: قال أبـي, سمعنا فـي وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمّةً يَهْدُونَ بأمْرِنا لَـمّا صبَرُوا قال: عن الدنـيا.
وقوله: وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُونَ يقول: وكانوا أهل يقـين بـما دلهم علـيه حججنا, وأهل تصديق بـما تبـين لهم من الـحقّ وإيـمان برسلنا, وآيات كتابنا وتنزيـلنا.
الآية : 25
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ رَبّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: إن ربك يا مـحمد هو يبـين جميع خـلقه يوم القـيامة فـيـما كانوا فـيه فـي الدنـيا يختلفون من أمور الدين والبعث والثواب والعقاب, وغير ذلك من أسبـاب دينهم, فـيفرق بـينهم بقضاء فـاصل بإيجابه لأهل الـحقّ الـجنة, ولأهل البـاطل النار.
الآية : 26
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: أَوَ لـم يبـين لهم؟ كما:
21554ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس أوَ لَـمْ يَهْدِ لَهُمْ يقول: أو لـم يبـين لهم.
وعلـى القراءة بـالـياء فـي ذلك قرّاء الأمصار, وكذلك القراءة عندنا لإجماع الـحجة من القرّاء, بـمعنى: أو لـم يبـين لهم إهلاكنا القرون الـخالـية من قبلهم, سنتنا فـيـمن سلك سبـيـلهم من الكفر بآياتنا, فـيتعظوا وينزجروا. وقوله كَمْ إذا قُرىء يهْدِ بـالـياء, فـي موضع رفع بـيهد. وأما إذا قرىء ذلك بـالنون «أوَ لَـمْ نَهْدِ» فإن موضع «كم» وما بعدها نصب. وقوله: يَـمْشونَ فِـي مَساكِنهمْ يقول تعالـى ذكره: أو لـم يبـين لهن كثرة إهلاكنا القرون الـماضية من قبلهم يـمشون فـي بلادهم وأرضهم, كعاد وثمود. كما:
21555ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أو لَـمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهمْ مِنَ القُرُونِ عاد وثمود وأنهم إلـيهم لا يُرجعون.
وقوله: إنّ فِـي ذلكَ لاَياتٍ يقول تعالـى ذكره: إن فـي خلاء مساكن القرون الذين أهلكناهم من قبل هؤلاء الـمكذّبـين بآيات الله من قريش من أهلها الذين كانوا سكانها وعمّارها بإهلاكنا إياهم لـما كذّبوا رسلنا, وجحدوا بآياتنا, وعبدوا من دون الله آلهة غيره التـي يـمرّون بها فـيعاينونها, لاَيات لهم وعظات يتعظون بها, لو كانوا أولـي حجا وعقول. يقول الله: أفَلا يَسْمَعُونَ عظات الله وتذكيره إياهم آياته, وتعريفهم مواضع حججه؟
الآية : 27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: أو لـم ير هؤلاء الـمكذّبون بـالبعث بعد الـموت والنشر بعد الفناء, أنا بقُدرتنا نسوق الـماء إلـى الأرض الـيابسة الغلـيظة التـي لا نبـات فـيها وأصله من قولهم: ناقة جرز: إذا كانت تأكل كلّ شيء, وكذلك الأرض الـجروز: التـي لا يبقـى علـى ظهرها شيء إلاّ أفسدته, نظير أكل الناقة الـجراز كلّ ما وجدته, ومنه قولهم للإنسان الأكول: جَرُوز, كما قال الراجز:
(خَبّ جَرُوزٌ وَإذَات )
ومنه قـيـل للسيف إذا كان لا يبقـي شيئا إلاّ قطعه: سيف جراز, فـيه لغات أربع: أرض جُرُز, وجَرْز, وجِرز وجُرْز, والفتـح لبنـي تـميـم فـيـما بلغنـي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21556ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن عمرو, عن ابن عبـاس الأرْضِ الـجُرُزِ أرض بـالـيـمن.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن عمرو بن دينار, عن ابن عبـاس, قال: أرض بـالـيـمن.
21557ـ قال: ثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا عبد الله بن الـمبـارك عن معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد أوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الـمَاءَ إلـى الأرْضِ الـجُرُزِ قال: أبـين ونـحوها.
حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة, قال: حدثنا عبد الرزاق بن عمر, عن ابن الـمبـارك, قال: أخبرنا معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله, إلاّ أنه قال: ونـحوها من الأرض.
21558ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن رجل, عن ابن عبـاس, فـي قوله إلـى الأرْضِ الـجُرُزِ قال: الـجرز: التـي لا تُـمطر إلاّ مطرا لا يغنـي عنها شيئا, إلاّ ما يأتـيها من السيول.
21559ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مـحمد بن يزيد, عن جُوَيبر, عن الضحاك إلـى الأرْضِ الـجُرُزِ لـيس فـيها نبت.
21560ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا نَسوقُ الـمَاءَ إلـى الأرْضِ الـجُرُز الـمغبرة.
21561ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الـمَاءَ إلـى الأرْضِ الـجُرزِ قال: الأرض الـجرز: التـي لـيس فـيها شيء, لـيس فـيها نبـات. وفـي قوله: صَعيدا جُرُزا قال: لـيس علـيها شيء ولـيس فـيها نبـات ولا شيء.
فنـخرجُ به زرعا تأكلُ منهُ أنعامهُمْ وَأنْفُسهُمْ يقول تعالـى ذكره: فنـخرج بذلك الـماء الذي نسوقه إلـيها علـى يبسها وغلظها وطول عهدها بـالـماء زرعا خضرا تأكل منه مواشيهم, وتغذَى به أبدانهم وأجسامهم فـيعيشون به أفَلا يُبْصرُونَ يقول تعالـى ذكره: أفلا يرون ذلك بأعينهم, فـيعلـموا برؤيتهموه أن القدرة التـي بها فعلت ذلك لا يتعذّر علـيّ أن أحيى بها الأموات وأُنشرهم من قبورهم, وأعيدهم بهيئاتهم التـي كانوا بها قبل وفـاتهم.
الآية : 28 -30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنّهُمْ مّنتَظِرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَيَقُولُونَ هؤلاء الـمشركون بـالله يا مـحمد لك مَتـى هَذَا الْفَتْـحُ. واختلف فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: معناه: متـى يجيء هذا الـحكم بـيننا وبـينكم, ومتـى يكون هذا الثواب والعقاب. ذكر من قال ذلك:
21562ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, فـي قوله وَيَقُولُونَ مَتـى هَذَا الفَتْـحُ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ قال: قال أصحاب نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: إن لنا يوما أوشك أن نستريح فـيه وننعم فـيه, فقال الـمشركون مَتـى هَذَا الفَتْـحُ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ.
وقال آخرون: بل عنى بذلك: فتـح مكة.
والصواب من القول فـي ذلك قول من قال: معناه: ويقولون متـى يجيء هذا الـحكم بـيننا وبـينكم, يعنون العذاب, يدلّ علـى أن ذلك معناه قوله: قُلْ يَوْمَ الفَتْـحِ لا يَنْفَعُ الّذِينَ كَفَرُوا إيـمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ولا شكّ أن الكفـار قد كان جعل الله لهم التوبة قبل فتـح مكة وبعده, ولو كان معنى قوله مَتـى هَذَا الفَتْـحُ علـى ما قاله من قال: يعنـي به: فتـح مكة, لكان لا توبة لـمن أسلـم من الـمشركين بعد فتـح مكة, ولا شكّ أن الله قد تاب علـى بشر كثـير من الـمشركين بعد فتـح مكة, ونفعهم بـالإيـمان به وبرسوله فمعلوم بذلك صحة ما قلنا من التأويـل, وفساد ما خالفه. وقوله: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ يعنـي: إن كنتـم صادقـين فـي الذي تقولون من أنا معاقبون علـى تكذيبنا مـحمدا صلى الله عليه وسلم, وعبـادتنا الاَلهة والأوثان.
وقوله: قُلْ يَوْمَ الفَتْـحِ يقول لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهم يوم الـحكم, ومـجيء العذاب: لا ينفع من كفر بـالله وبآياته إيـمانهم الذي يحدثونه فـي ذلك الوقت. كما:
21563ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله قُلْ يَوْمَ الفَتْـحِ لا يَنْفَعُ الّذِينَ كَفَرُوا إيـمَانُهُمْ قال: يوم الفتـح إذا جاء العذاب.
21564ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد يَوْمَ الفَتْـحِ يوم القـيامة. ونصب الـيوم فـي قوله قُلْ يَوْمَ الفَتْـحِ ردّا علـى متـى, وذلك أن «متـى» فـي موضع نصب. ومعنى الكلام: أنـي حينُ هذا الفتـح إن كنتـم صادقـين, ثم قـيـل يوم كذا, وبه قرأ القرّاء.
وقوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يقول: ولا هم يؤخرون للتوبة والـمراجعة. وقوله فأعْرِضْ عَنْهُمْ وانْتَظِرْ إنّهُمْ مُنْتَظِرونَ يقول لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: فأعرض يا مـحمد عن هؤلاء الـمشركين بـالله, القائلـين لك: متـى هذا الفتـح, الـمستعجلـيك بـالعذاب, وانتظر ما الله صانع بهم, إنهم منتظرون ما تعدهم من العذاب ومـجيء الساعة. كما:
21565ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَأعْرِضْ عَنْهُمْ, وَانْتَظرْ إنّهُمْ مُنْتَظِرُونَ يعنـي يوم القـيامة.
آخر تفسير سورة السجدة, ولله الـحمد والـمنة.

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة السجدة