تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 420 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 420

420 : تفسير الصفحة رقم 420 من القرآن الكريم

** وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبّثُواْ بِهَآ إِلاّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً * قُل لّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاّ تُمَتّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوَءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين {يقولون إِن بيوتنا عورة وما هي بعورة إِن يريدون إِلا فرار} أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها, ثم سئلوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعاً, وهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع, هكذا فسرها قتادة وعبد الرحمن بن زيد وابن جرير, وهذا ذم لهم في غاية الذم, ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار ولا يفرون من الزحف {وكان عهد الله مسئول} أي وإِن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد لا بد من ذلك, ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ولا يطول أعمارهم بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة, ولهذا قال تعالى: {وإِذاً لا تمتعون إِلا قليل} أي بعد هربكم وفراركم {قل متاع الدنيا قليل, والاَخرة خير لمن اتقى} ثم قال تعالى: {قل من ذا الذي يعصمكم من الله} أي يمنعكم {إِن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصير} أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث.

** قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَىَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَـَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً
يخبر تعالى عن إِحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب والقائلين لإخوانهم أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم {هلم إِلين} إِلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار, وهم مع ذلك {لا يأتون البأس إِلا قليلاً* أشحة عليكم} أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم. وقال السدي {أشحة عليكم} أي في الغنائم, {فإِذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إِليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} أي من شدة خوفه وجزعه, وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال {فإِذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} أي فإِذا كان الأمن تكلموا كلاماً بليغاً فصيحاً عالياً, وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة, وهم يكذبون في ذلك, وقال ابن عباس رضي الله عنهما {سلقوكم} أي استقبلوكم. وقال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأه مقاسمة: أعطونا أعطونا قد شهدنا معكم, وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق, وهم مع ذلك أشحة على الخير, أي ليس فيهم خير قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير, فهم كما قال في أمثالهم الشاعر:
أفي السلم أعياراً جفاءً وغلظةوفي الحرب أمثال النساء العوارك
أي في حال المسالمة كأنهم الحمر, والأعيار جمع عير وهو الحمار, وفي الحرب كأنهم النساء الحيض, ولهذا قال تعالى: {أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسير} أي سهلاً هيناً عنده.

** يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّواْ لَوْ أَنّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مّا قَاتَلُوَاْ إِلاّ قَلِيلاً
وهذا أيضاً من صفاتهم القبيحة في الجبن والخور والخوف {يحسبون الأحزاب لم يذهبو} بل هم قريب منهم وإِن لهم عودة إِليهم {وإِن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم} أي ويودون إِذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة, بل في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم {ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إِلا قليل} أي ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إِلا قليلاً لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم, والله سبحانه وتعالى العالم بهم.

** لّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الاَخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً * وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُواْ هَـَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً
هذه الاَية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله, ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل, صلوات الله وسلامه عليه دائماً إِلى يوم الدين, ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال تعالى: {لمن كان يرجوا الله واليوم الاَخر وذكر الله كثير}.
ثم قال تعالى مخبراً عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والاَخرة, فقال تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: يعنون قوله تعالى في سورة البقرة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ؟ ألا إِن نصر الله قريب} أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب, ولهذا قال تعالى: {وصدق الله ورسوله}. وقوله تعالى: {وما زادهم إِلا إِيماناً وتسليم} دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إِلى الناس وأحوالهم, كما قال جمهور الأئمة: إِنه يزيد وينقص, وقد قررنا ذلك في أول شرح البخاري, ولله الحمد والمنة, ومعنى قوله جلت عظمته {وما زادهم} أي ذلك الحال والضيق والشدة {إِلا إِيمان} بالله {وتسليم} أي انقياداً لاَوامره وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.