تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 420 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 420

419

16- "قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل" فإن من حضر أجله مات أو قتل فر أو لم يفر "وإذا لا تمتعون إلا قليلاً" أي تمتعاً قليلاً أو زماناً قليلاً بعد فرارهم إلى أن تنقضي آجالهم، وكل ما هو آت فهو قريب قرأ الجمهور "تمتعون" بالفوقية، وقرأ يعقوب الحضرمي في رواية الساجي عنه بالتحتية. وفي بعض الروايات لا تمتعوا بحذف النون إعمالاً لإذن، وعلى قراءة الجمهور هي ملغاة.
17- " قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء " أي هلاكاً أو نقصاً في الأموال وجدباً ومرضاً "أو أراد بكم رحمة" يرحمكم بها من خصب ونصر وعافية "ولا يجدون لهم من دون الله ولياً" يواليهم ويدفع عنهم "ولا نصيراً" ينصرهم من عذاب الله. وقد أخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي مريم الغساني أن أعرابياً قال: يا رسول الله أي شيء كان أول نبوتك؟ قال: أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم تلا "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً" ودعوة إبراهيم قال: "وابعث فيهم رسولاً منهم"، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال "قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال: وآدم بين الروح والجسد". وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عنه قال "قيل يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد". وفي الباب أحاديث قد صحح بعضها. وأخرج الحسن بن سفيان وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والديلمي وابن عساكر من طريق قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم" الآية قال: "كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث"، قبدأ به قبلهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: "ميثاقهم" عهدهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم" قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساكر من طرق عن حذيفة قال: " لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحد منا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم و "يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة" فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون ونحن ثلثمائة، أو نحن ذلك إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً حتى مر علي وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جث على ركبتي فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، قال حذيفة، فتقاصرت إلى الأرض، فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم، قال: قم فقمت، فقال: إنه كان في القوم خبر، فأتني بخبر القوم، قال: وأنا من أشد القوم فزعاً وأشدهم قراً، فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، قال: فوالله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوفي إلا خرج من جوفي، فما أجد منه شيئاً، فلما وليت قال: يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسخ خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل، ثم دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارساً معتمين فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يترحلون، وأنز الله "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود" الآية". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "إذ جاءتكم جنود" قال: كان يوم أبي سفيان يوم الأحزاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: لما كان ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب، فقالت: انطلقي فانصري الله ورسوله، فقالت الجنوب: إن الحرة لا تسري بالليل، فغضب الله عليها وجعلها عقيماً، فأرسل عليهم الصبا، فأطفأت نيرانهم وقطعت أطنابهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور،" فذلك قوله: "فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور". وأخرج البخاري وغيره عن عائشة في قوله: "إذ جاءوكم من فوقكم" الآية قالت: كان ذلك يوم الخندق، وفي الباب أحاديث في وصف هذه الغزوة وما وقع فيها، وقد اشتملت عليها كتب الغزوات والسير. واخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب، وهي المدينة تنفي البأس كما ينفي الكير خبث الحديد". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة هي طابة" ولفظ أحمد "إنما هي طابة" وإسناده ضعيف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "ويستأذن فريق منهم النبي" قال: هم بنو حارثة قالوا: "بيوتنا عورة" أي مختلة نخشى عليها السرق. وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة " ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها " قال: لأعطوها: يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على المدينة.
قوله: 18- "قد يعلم الله المعوقين منكم" يقال عاقه واعتاقه وعوقه: إذا صرفه عن الوجه الذي يريده. قال الواحدي قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم قالوا لهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لالتقمهم أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا، وقيل إن القائل هذه المقالة اليهود قالوا "لإخوانهم" من المنافقين "هلم إلينا" ومعنى هلم أقبل واحضر وأهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث، وغيرهم من العرب يقولون: هلم للواحد المذكر، وهلمي للمؤنث، وهلما للاثنين، وهلموا للجماعة، وقد مر الكلام على هذا في سورة الأنعام "ولا يأتون البأس" أي الحرب "إلا قليلاً" خوفاً من الموت، وقيل المعنى: لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة من غير احتساب.
19- "أشحة عليكم" أي بخلاء عليكم لا يعاونوكم بحفر الخندق ولا بالنفقة في سبيل الله، قاله مجاهد وقتادة. وقيل أشحة بالقتال معكم، وقيل بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم، وقيل أشحة بالغنائم إذا أصابوها. قاله السدي. وانتصابه على الحال من فاعل يأتون. أو من المعوقين. وقال الفراء: يجوز في نصبه أربعة أوجه: منها النصب على الذم، ومنها بتقدير فعل محذوف: أي يأتونه أشحة. قال النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيه للمعوقين ولا القائلين لئلا يفرق بين الصلة والموصول " فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم " أي تدور يميناً وشمالاً، وذكل سبيل الجبان إذا شاهد ما يخافه "كالذي يغشى عليه من الموت" أي كعين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي نزل به الموت وغشيته أسبابه، فيذهل ويذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عيناه، ودارت حماليق عينيه، والكاف نعت مصدر محذوف "فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد" يقال سلق فلان فلاناً بلسانه: إذا أغلظ له في القول مجاهراً. قال الفراء: أي آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة، ويقال: خطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغاً، ومنه قول الأعشى: فيهم المجد والسماحة والنجـ ـدة فيهم والخاطب المسلاق قال القتيبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد، والسلق الأذى، ومنه قول الشاعر: لقد سلقت هوازناً بنو أهل حتى انحنينا قال قتادة: معنى الآية: بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطنا فإنه قد شهدنا معكم، فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لساناً ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم. قال النحاس: وهذا قول حسن، وانتصاب "أشحة على الخير" على الحالية من فاعل سلقوكم، ويجوز أن يكون نصبه على الذم. وقرأ ابن أبي عبلة برفع أشحة، والمراد هنا أنهم أشحة على الغنيمة يشاحون المسلمين عند القسمة، قاله يحيى بن سلام. وقيل على المال أن ينفقوه في سبيل الله. قاله السدي. ويمكن أن يقال معناه: أنهم قليلو الخير من غير تقييد بنوع من أنواعه والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الموصوفين بتلك الصفات "لم يؤمنوا" إيماناً خالصاً بل هم منافقون: يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر "فأحبط الله أعمالهم" أي أبطلها بمعنى أظهر بطلانها، لأنها لم تكن لهم أعمال تقتضي الثوبا حتى يبطلها الله. قال مقاتل: أبطل جهادهم لأنه لم يكن في إيمان "وكان ذلك على الله يسيراً" أي وكان ذلك الإحباط لأعمالهم، أو كان نفاقهم على الله هيناً.
20- "يحسبون الأحزاب لم يذهبوا" أي يحسب هؤلاء المنافقون لجبنهم أن الأحزاب باقون في معسكرهم لم يذهبوا إلى ديارهم، وذلك لما نزل بهم من الفشر والروع "وإن يأت الأحزاب" مرة أخرى بعد هذه المرة "يودوا لو أنهم بادون في الأعراب" أي يتمنون أنهم في بادية الأعراب لما حل بهم من الرهبة، والبادي خلاف الحاضر، يقال: بدا يبدو بداوة إذا خرج إلى البادية "يسألون عن أنبائكم" أي عن أخباركم وما جرى لكم، كل قادم عليهم من جهتكم، أو يسأل بعضهم بعضاً عن الأخبار التي بلغته من أخبار الأحزاب ورسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أنهم يتمنون أنهم بعيد عنكم يسألون عن أخباركم من غير مشاهدة للقتال لفرط جبنهم وضعف نياتهم "ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً" أي لو كانوا معكم في هذه الغزوة مشاهدين للقتال لفرط جبنهم وضعف نياتهم " ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا " أي لو كانوا معكم في هذه الغزوة مشاهدين للقتال ما قاتلوا معكم إلا قتالاً قليلاً خوفاً من العار وحمية على الديار.
21- "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" أي قدوة صالحة، يقال لي في فلان أسوة: أي لي به، والأسوة من الائتساء، كالقدوة من الاقتداء: اسم يوضع موضع المصدر. قال الجوهري: والأسوة والإسوة بالضم والكسر، والجمع أسى وإسى. قرأ الجمهور أسوة بالضم للهمزة، وقرأ عاصم بكسرها، وهما لغتان كما قال الفراء وغيره. وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي لقد كان لكم في رسول الله حيث بذل نفسه للقتال وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، وهذه الآية وإن كان سببها خاصة فهي عامة في كل شيء، ومثلها "ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وقوله: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، واللام في " لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " متعلق بحسنة، أو بمحذوف هو صفة لحسنة: أي كائنة لمن يرجوالله. وقيل إن الجملة بدل من الكاف في لكم، ورده أبو حيان وقال: إنه لا يبدل من ضمير المخاطب بإعادة الجار. ويجاب عنه بأنه قد أجاز ذلك الكوفيون والأخفش وإنه منعه البصريون، والمراد بمن كان يرجو الله: المؤمنون، فإنهم الذين يرجون الله ويخافون عذابه، ومعنى يرجون الله: يرجون ثوابه أو لقاءه، ومعنى يرجون اليوم الآخر: أنهم يرجون رحمة الله فيه أو يصدقون بحصوله وأنه كائن لا محالة، وهذه الجملة تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى "وذكر الله كثيراً" معطوف على كان: أي ولمن ذرك الله في جميع أحواله ذكراً كثيراً، وجمع بين الرجاء لله والذكر له، فإن بذلك تتحقق الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بين سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب ومشاهدتهم لتلك الجيوش التي أحاطت بهم كالبحر العباب فقال: 22- "ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله" الأشارة بقوله هذا إلى ما رأوه من الجيوش، أو إلى الخطب الذي نزل والبلاء الذي دهم، وهذا القول منهم قالوه استبشاراً بحصول ما وعدهم الله ورسوله من مجيء هذه الجنود، وإنه يتعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله، و ما في ما وعدنا الله هي الموصولة، أو المصدرية، ثم أردفوا ما قالوه بقولهم: "وصدق الله ورسوله" أي ظهر صدق خبر الله ورسوله "وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً" أي ما زادهم ما رأوه إلا إيماناً بالله وتسليماً لأمره. قال الفراء: ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيماناً وتسليماً. قال علي بن سليمان: رأى يدل على الرؤية وت أنيث الرؤية غير حقيقي، والمعنى: ما زادهم الرؤية إلا إيماناً للرب وتسليماً للقضاء، ولو قال ما زادتهم لجاز.