تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 433 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 433

433 : تفسير الصفحة رقم 433 من القرآن الكريم

** وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـَؤُلاَءِ إِيّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مّؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ
يخبر تعالى أنه يقرع المشركين يوم القيامة على روؤس الخلائق, فيسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم ليقربوهم إلى الله زلفى, فيقول للملائكة {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} أي أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم, كما قال تعالى في سورة الفرقان {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} وكما يقول لعيسى عليه الصلاة والسلام {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إِلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} وهكذا تقول الملائكة {سبحانك} أي تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله {أنت ولينا من دونهم} أي نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء {بل كانوا يعبدون الجن} يعنون الشياطين, لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم {أكثرهم بهم مؤمنون} كما قال تبارك وتعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله} قال الله عز وجل {فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً, ولا ضر} أي لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم «اليوم لايملكون لكم نفعاً ولا ضراً» {ونقول للذين ظلمو} وهم المشركون {ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيجاً.

** وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـَذَا إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدّكُمْ عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـَذَآ إِلاّ إِفْكٌ مّفْتَرًى وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ * وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نّذِيرٍ * وَكَذّبَ الّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
يخبر الله عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب, لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات يسمعونها غضة طرية من لسان رسوله صلى الله عليه وسلم {قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} يعنون أن دين آبائهم هو الحق, وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل, عليهم وعلى آبائهم لعائن الله تعالى: {وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى} يعنون القرآن {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} قال الله تعالى: {وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير} أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن وما أرسل إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقد كانوا يودون ذلك ويقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل عليناكتاب لكنا أهدى من غيرنا, فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه.
ثم قال تعالى: {وكذب الذين من قبلهم} أي من الأمم {وما بلغوا معشار ماآتيناهم} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي من القوة في الدنيا. وكذلك قال قتادة والسدي وابن زيد, كما قال تعالى: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة} أي وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده, بل دمر الله عليهم لماكذبوا رسله, ولهذا قال: {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي.

** قُلْ إِنّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
يقول تبارك وتعالى: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون {إنما أعظكم بواحدة} أي إنماآمركم بواحدة وهي {أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} أي تقوموا قياماً خالصاً لله عز وجل من غير هوى ولا عصبية, فيسأل بعضكم بعضاً هل بمحمد من جنون. فينصح بعضكم بعضاً {ثم تتفكرو} أي ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه, ويتفكر في ذلك, ولهذا قال تعالى: {أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} هذا معنى ما ذكره مجاهد ومحمد بن كعب والسدي وقتاده وغيرهم, وهذا هو المراد من الاَية.
فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أعطيت ثلاثاً لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر: أحلت لي الغنائم ولم تحل لمن قبلي, كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها, وبعثت إلى كل أحمر وأسود, وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أتيمم بالصعيد وأصلي فيها حيث أدركتني الصلاة, قال الله تعالى: {أن تقوموا لله مثنى وفراد} وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي» فهو حديث ضعيف الإسناد, وتفسير الاَية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد, ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة, فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها, والله أعلم.
وقوله تعالى: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} قال البخاري عندها: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا محمد بن خازم حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش, فقالوا: مالك ؟ فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني» قالوا: بلى, قال صلى الله عليه وسلم: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا. فأنزل الله عز وجل {تبت يدا أبي لهب وتب} وقد تقدم عند قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم. حدثنا بشير بن المهاجر, حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فنادى ثلاث مرات, فقال: «أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟» قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم, فبعثوا رجلاً يتراءى لهم فبينما هو كذلك أبصر العدو, فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه, فأهوى بثوبه, أيها الناس أوتيتم أيها الناس أوتيتم» ثلاث مرات, وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة جميعاً إن كادت لتسبقني» تفرد به الإمام أحمد في مسنده.