تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 449 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 449

449 : تفسير الصفحة رقم 449 من القرآن الكريم

** وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاَخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىَ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمّ أَغْرَقْنَا الاَخَرِينَ
لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة شرع يبين ذلك مفصلاً فذكر نوحاً عليه الصلاة والسلام وما لقي من قومه من التكذيب, وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم, وكلما دعاهم ازدادوا نفرة فدعا ربه أني مغلوب فانتصر, فغضب الله تعالى لغضبه عليهم, ولهذا قال عز وجل: {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون} أي فلنعم المجيبون له {ونجيناه وأهله من الكرب العظيم} وهو التكذيب والأذى {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تبارك وتعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام, وقد روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال سام وحام ويافث وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم» ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي عن يزيد بن زريع عن سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة به, قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر, وقد روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله, والمراد بالروم ههنا هم الروم الأول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام ثم روي من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح عليه السلام ثلاثة: سام ويافث وحام, وولد كل واحد من هؤلاء الثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم, وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج, وولد حام القبط والسودان والبربر,وروي عن وهب بن منبه نحو هذا والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى: {وتركنا عليه في الاَخرين} قال ابن عباس رضي الله عنهما يذكر بخير, وقال مجاهد يعني لسان صدق للأنبياء كلهم, وقال قتادة والسدي أبقى الله عليه الثناء الحسن في الاَخرين. وقال الضحاك السلام والثناء الحسن, وقوله تعالى: {سلام على نوح في العالمين} مفسر لما أبقى عليه الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم {إنا كذلك نجزي المحسنين} أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله تعالى ونجعل له لسان صدق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك ثم قال تعالى: {إنه من عبادنا المؤمنين} أي المصدقين الموحدين الموقنين {ثم أغرقنا الاَخرين} أي أهلكناهم فلم يبق منهم عين تطرف ولا ذكر ولا عين ولا أثر, ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.

** وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَآءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {وإن من شيعته لإبراهيم} يقول من أهل دينه, وقال مجاهد على منهاجه وسنته {إذ جاء ربه بقلب سليم} قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن عوف قلت لمحمد بن سيرين ما القلب السليم ؟ قال يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور, وقال الحسن: سليم من الشرك وقال عروة لا يكون لعاناً.
وقوله تعالى: {إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون} أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد ولهذا قال عز وجل {أئفكا آلهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين} قال قتادة يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم معه غيره.

** فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النّجُومِ * فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ * فَتَوَلّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَىَ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوَاْ إِلَيْهِ يَزِفّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ
إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها فقال لهم كلاماً هو حق في نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه {فتولوا عنه مدبرين} قال قتادة والعرب تقول لمن تفكر نظر في النجوم, يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكراً فيما يلهيهم به فقال {إني سقيم} أي ضعيف, فأما الحديث الذي رواه ابن جرير ههنا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثني هشام عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله تعالى, قوله {إني سقيم} وقوله {بل فعله كبيرهم هذ} وقوله في سارة هي أختي» فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا ولما, وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزاً وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم عليه الصلاة والسلام الثلاث التي قال ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله تعالى: {فقال إني سقيم} وقال {بل فعله كبيرهم هذ} وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي. قال سفيان في قوله {إني سقيم} يعني طعين وكانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلو بآلهتهم, وكذا قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم} فقالوا له وهو في بيت آلهتهم: اخرج فقال إني مطعون فتركوه مخافة الطاعون. وقال قتادة عن سعيد بن المسيب رأى نجماً طلع فقال {إني سقيم} كابد نبي الله عن دينه {فقال إني سقيم}. وقال آخرون {فقال إني سقيم} بالنسبة إلى ما يستقبل يعني مرض الموت, وقيل أراد {إني سقيم} أي مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله تعالى, وقال الحسن البصري: خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم فأرادوه على الخروج فاضطجع على ظهره وقال {إني سقيم} وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها. ورواه ابن أبي حاتم, ولهذا قال تعالى: {فتولوا عنه مدبرين} أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعة واختفاء {فقال ألا تأكلون ؟} وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتبارك لهم فيه. وقال السدي: دخل إبراهيم عليه السلام إلى بيت الاَلهة فإذا هم في بهو عظيم وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً ووضعوه بين أيدي الاَلهة وقالوا إذا كان حين نرجع وقد باركت الاَلهة في طعامنا أكلناه, فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما بين أيديهم من الطعام قال {ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون} وقوله تعالى: {فراغ عليهم ضرباً باليمين} قال الفراء معناه مال عليهم ضرباً باليمين. وقال قتادة والجوهري فأقبل عليهم ضرباً باليمين. وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى ولهذا تركهم جذاداً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون كما تقدم في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تفسير ذلك. وقوله تعالى ههنا: {فأقبلوا إليه يزفون} قال مجاهد وغير واحد أي يسرعون, وهذه القصة ههنا مختصرة وفي سورة الأنبياء مبسوطة فإنهم لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا فعرفوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي فعل ذلك. فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم فقال {أتعبدون ما تنحتون} أي أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم {والله خلقكم وما تعملون} يحتمل أن تكون ما مصدرية فيكون تقدير الكلام خلقكم وعملكم ويحتمل أن تكون بمعنى الذي تقديره والله خلقكم والذي تعملونه وكلا القولين متلازم, والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد عن علي بن المديني عن مروان بن معاوية عن أبي مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً قال: «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته» وقرأ بعضهم {والله خلقكم وما تعملون} فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر فقالوا {ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم} وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونجاه الله من النار وأظهره عليهم وأعلى حجته ونصرها ولهذا قال تعالى: {فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين}.