سورة غافر | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 472 من المصحف
** وَيَقَوْمِ مَا لِيَ أَدْعُوكُـمْ إِلَى النّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيَ إِلَى النّارِ * تَدْعُونَنِي لأكْـفُرَ بِاللّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ * لاَ جَرَمَ أَنّمَا تَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدّنْيَا وَلاَ فِي الاَخِرَةِ وَأَنّ مَرَدّنَآ إِلَى اللّهِ وَأَنّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِيَ إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ * النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ
يقول لهم المؤمن ما بالي أدعوكم إلى النجاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله الله الذي بعثه {وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم} أي على جهل بلا دليل {وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} أي هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه {لا جرم أنما تدعونني إليه} يقول حقاً ؟ قال السدي وابن جرير معنى قوله {لا جرم} حقاً. وقال الضحاك {لا جرم} لا كذب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لا جرم} يقول: بلى إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد {ليس له دعوة في الدنيا ولا في الاَخرة} قال مجاهد: الوثن ليس له شيء, وقال قتادة يعني الوثن لا ينفع ولا يضر, وقال السدي: لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الاَخرة, وهذا كقوله تبارك وتعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ؟ * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} وقوله: {وأن مردنا إلى الله} أي في الدار الاَخرة فيجازي كلاً بعمله ولهذا قال: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} أي خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عز وجل: {فستذكرون ما أقول لكم} أي سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفع الندم {وأفوض أمري إلى الله} أي وأتوكل على الله وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم {إن الله بصير بالعباد} أي هو بصير بهم تعالى وتقدس فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الإضلال وله الحجة البالغة والحكمة التامة والقدر النافذ. وقوله تبارك وتعالى: {فوقاه الله سيئات ما مكرو} أي في الدنيا والاَخرة, وأما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى عليه الصلاة والسلام وأما في الاَخرة فبالجنة {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجحيم, فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساء إلى قيام الساعة فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ولهذا قال: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} أي أشده ألماً وأعظمه نكالاً, وهذه الاَية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وهي قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدواً وعشي}.
ولكن هنا سؤال وهو أنه لا شك أن هذه الاَية مكية وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ وقد قال الإمام أحمد حدثنا هاشم هو ابن القاسم أبو النضر حدثنا إسحاق بن سعيد هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص حدثنا سعيد يعني أباه عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة رضي الله عنها إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية وقاك الله عذاب القبر قالت رضي الله عنها: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا, من زعم ذلك ؟» قالت هذه اليهودية لا أصنع إليها شيئاً من المعروف إلا قالت وقاك الله عذاب القبر قال صلى الله عليه وسلم: «كذبت يهود وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة» ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملاً بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته «القبر كقطع الليل المظلم, أيها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيراً وضحكتم قليلاً, أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق» وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه وروى أحمد حدثنا يزيد حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت سألتها امرأة يهودية فأعطتها فقالت لها وقاك الله من عذاب القبر فأنكرت عائشة رضي لله عنها ذلك فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم قالت له فقال صلى الله عليه وسلم «لا» قالت عائشة رضي الله عنها ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك «وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» وهذا أيضاً على شرطهما. فيقال فما الجمع بين هذا وبين كون الاَية مكية وفيها دلالة على عذاب البرزخ ؟ والجواب أن الاَية دلت على عرض الأرواح على النار غدواً وعشياً في البزرخ وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصاً بالروح فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الاَتي ذكرها. وقد يقال إن هذه الاَية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب. ومما يدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حدثنا عثمان بن عمر حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امراة من اليهود وهي تقول أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم, فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنما يفتن يهود» قالت عائشة رضي الله عنها فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنكم تفتنون في القبور» وقالت عائشة رضي الله عنها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر, وهكذا رواه مسلم عن هارون بن سعيد وحرملة كلاهما عن ابن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به.
وقد يقال إن هذه الاَية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل في الأجساد في قبورها فلما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بخصوصه استعاذ منه والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد روى البخاري من حديث شعبة عن أشعث ابن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فقالت نعوذ بالله من عذاب القبر فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم عذاب القبر حق» قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. فهذا يدل على أنه بادر صلى الله عليه وسلم إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر وقرر عليه, وفي الأخبار المتقدمة أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي فلعلهما قضيتان والله سبحانه أعلم وأحاديث عذاب القبر كثيرة جداً وقال قتادة في قوله تعالى: {غدواً وعشي} صباحاً ومساء ما بقيت الدنيا يقال لهم يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخاً ونقمة وصغاراً لهم, وقال ابن زيد هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة. وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد حدثنا المحاربي حدثنا ليث عن عبد الرحمن بن ثروان عن هذيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاؤوا, وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش, وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها, وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهذيل بن شرحبيل من كلامه في أرواح آل فرعون وكذلك قال السدي. وفي حديث الإسراء من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه «ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم مصفدون على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وآل فرعون كالإبل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا زيد بن أخرم حدثنا عامر بن مدرك الحارثي حدثنا عتبة ـ يعني ابن يقظان ـ عن قيس بن مسلم عن طارق عن شهاب عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى» قال قلنا يا رسول الله ما إثابة الله الكافر ؟ فقال: «إن كان قد وصل رحماً أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك» قلنا فما إثابته في الاَخرة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عذاباً دون العذاب» وقرأ {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} ورواه البزار في مسنده عن زيد بن أخرم ثم قال: لا نعلم له إسناداً غير هذا. وقال ابن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال: رحمك الله رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضاً فوجاً فوجاً لا يعلم عددها إلا الله عز وجل فإذا كان العشي رجع مثلها سوداً قال وفطنتم إلى ذلك ؟ قال نعم, قال إن ذلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشياً فترجع إلى وكورها وقد احترقت أرياشها وصارت سوداً فينبت عليها من الليل ريش أبيض ويتناثر الأسود ثم تغدو على النار غدواً وعشياً ثم ترجع إلى وكورها, فذلك دأبهم في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} قال وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل, وقال الإمام أحمد حدثنا إسحاق حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة, وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل إليه يوم القيامة» أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.
** وَإِذْ يَتَحَآجّونَ فِي النّـارِ فَيَقُولُ الضّعَفَاءُ لِلّذِينَ اسْتَكْـبَرُوَاْ إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مّغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مّنَ النّارِ * قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا كُلّ فِيهَآ إِنّ اللّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنّمَ ادْعُواْ رَبّكُمْ يُخَفّفْ عَنّا يَوْماً مّنَ الْعَذَابِ * قَالُوَاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ بَلَىَ قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ
يخبر تعالى عن تحاج أهل النار في النار وتخاصمهم وفرعون وقومه من جملتهم فيقول الضعفاء وهم الأتباع للذين استكبروا وهم القادة والسادة والكبراء {إنا كنا لكم تبع} أي أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال {فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار} أي قسطاً تتحملونه عنا {قال الذين استكبروا إنا كل فيه} أي لا نتحمل عنكم شيئاً كفى بنا ما عندنا وما حملنا من العذاب والنكال {إن الله قد حكم بين العباد} أي فقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا كما قال تعالى: {قال لكل ضعف ولكن لا تعملون * وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} لما علموا أن الله عز وجل لا يستجيب منهم ولا يستمع لدعائهم بل قد قال: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} سألوا الخزنة وهم كالسجانين لأهل النار أن يدعوا لهم الله تعالى أن يخفف عن الكافرين ولو يوماً واحداً من العذاب فقالت لهم الخزنة رادين عليهم {أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ؟} أي أو ما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل {قالوا بلى قالوا فادعو} أي أنتم لأنفسكم فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم ولا نود خلاصكم ونحن منكم براء ثم نخبركم أنه سواء دعوتم أو لم تدعوا لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم ولهذا قالوا: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} أي إلا في ذهاب ولا يتقبل ولا يستجاب.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 472
472 : تفسير الصفحة رقم 472 من القرآن الكريم** وَيَقَوْمِ مَا لِيَ أَدْعُوكُـمْ إِلَى النّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيَ إِلَى النّارِ * تَدْعُونَنِي لأكْـفُرَ بِاللّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ * لاَ جَرَمَ أَنّمَا تَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدّنْيَا وَلاَ فِي الاَخِرَةِ وَأَنّ مَرَدّنَآ إِلَى اللّهِ وَأَنّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِيَ إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ * النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ
يقول لهم المؤمن ما بالي أدعوكم إلى النجاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله الله الذي بعثه {وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم} أي على جهل بلا دليل {وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} أي هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه {لا جرم أنما تدعونني إليه} يقول حقاً ؟ قال السدي وابن جرير معنى قوله {لا جرم} حقاً. وقال الضحاك {لا جرم} لا كذب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لا جرم} يقول: بلى إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد {ليس له دعوة في الدنيا ولا في الاَخرة} قال مجاهد: الوثن ليس له شيء, وقال قتادة يعني الوثن لا ينفع ولا يضر, وقال السدي: لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الاَخرة, وهذا كقوله تبارك وتعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ؟ * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} وقوله: {وأن مردنا إلى الله} أي في الدار الاَخرة فيجازي كلاً بعمله ولهذا قال: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} أي خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عز وجل: {فستذكرون ما أقول لكم} أي سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفع الندم {وأفوض أمري إلى الله} أي وأتوكل على الله وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم {إن الله بصير بالعباد} أي هو بصير بهم تعالى وتقدس فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الإضلال وله الحجة البالغة والحكمة التامة والقدر النافذ. وقوله تبارك وتعالى: {فوقاه الله سيئات ما مكرو} أي في الدنيا والاَخرة, وأما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى عليه الصلاة والسلام وأما في الاَخرة فبالجنة {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجحيم, فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساء إلى قيام الساعة فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ولهذا قال: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} أي أشده ألماً وأعظمه نكالاً, وهذه الاَية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وهي قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدواً وعشي}.
ولكن هنا سؤال وهو أنه لا شك أن هذه الاَية مكية وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ وقد قال الإمام أحمد حدثنا هاشم هو ابن القاسم أبو النضر حدثنا إسحاق بن سعيد هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص حدثنا سعيد يعني أباه عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة رضي الله عنها إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية وقاك الله عذاب القبر قالت رضي الله عنها: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا, من زعم ذلك ؟» قالت هذه اليهودية لا أصنع إليها شيئاً من المعروف إلا قالت وقاك الله عذاب القبر قال صلى الله عليه وسلم: «كذبت يهود وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة» ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملاً بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته «القبر كقطع الليل المظلم, أيها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيراً وضحكتم قليلاً, أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق» وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه وروى أحمد حدثنا يزيد حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت سألتها امرأة يهودية فأعطتها فقالت لها وقاك الله من عذاب القبر فأنكرت عائشة رضي لله عنها ذلك فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم قالت له فقال صلى الله عليه وسلم «لا» قالت عائشة رضي الله عنها ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك «وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» وهذا أيضاً على شرطهما. فيقال فما الجمع بين هذا وبين كون الاَية مكية وفيها دلالة على عذاب البرزخ ؟ والجواب أن الاَية دلت على عرض الأرواح على النار غدواً وعشياً في البزرخ وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصاً بالروح فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الاَتي ذكرها. وقد يقال إن هذه الاَية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب. ومما يدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حدثنا عثمان بن عمر حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امراة من اليهود وهي تقول أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم, فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنما يفتن يهود» قالت عائشة رضي الله عنها فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنكم تفتنون في القبور» وقالت عائشة رضي الله عنها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر, وهكذا رواه مسلم عن هارون بن سعيد وحرملة كلاهما عن ابن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به.
وقد يقال إن هذه الاَية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل في الأجساد في قبورها فلما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بخصوصه استعاذ منه والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد روى البخاري من حديث شعبة عن أشعث ابن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فقالت نعوذ بالله من عذاب القبر فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم عذاب القبر حق» قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. فهذا يدل على أنه بادر صلى الله عليه وسلم إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر وقرر عليه, وفي الأخبار المتقدمة أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي فلعلهما قضيتان والله سبحانه أعلم وأحاديث عذاب القبر كثيرة جداً وقال قتادة في قوله تعالى: {غدواً وعشي} صباحاً ومساء ما بقيت الدنيا يقال لهم يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخاً ونقمة وصغاراً لهم, وقال ابن زيد هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة. وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد حدثنا المحاربي حدثنا ليث عن عبد الرحمن بن ثروان عن هذيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاؤوا, وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش, وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها, وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهذيل بن شرحبيل من كلامه في أرواح آل فرعون وكذلك قال السدي. وفي حديث الإسراء من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه «ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم مصفدون على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وآل فرعون كالإبل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا زيد بن أخرم حدثنا عامر بن مدرك الحارثي حدثنا عتبة ـ يعني ابن يقظان ـ عن قيس بن مسلم عن طارق عن شهاب عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى» قال قلنا يا رسول الله ما إثابة الله الكافر ؟ فقال: «إن كان قد وصل رحماً أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك» قلنا فما إثابته في الاَخرة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عذاباً دون العذاب» وقرأ {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} ورواه البزار في مسنده عن زيد بن أخرم ثم قال: لا نعلم له إسناداً غير هذا. وقال ابن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال: رحمك الله رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضاً فوجاً فوجاً لا يعلم عددها إلا الله عز وجل فإذا كان العشي رجع مثلها سوداً قال وفطنتم إلى ذلك ؟ قال نعم, قال إن ذلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشياً فترجع إلى وكورها وقد احترقت أرياشها وصارت سوداً فينبت عليها من الليل ريش أبيض ويتناثر الأسود ثم تغدو على النار غدواً وعشياً ثم ترجع إلى وكورها, فذلك دأبهم في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} قال وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل, وقال الإمام أحمد حدثنا إسحاق حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة, وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل إليه يوم القيامة» أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.
** وَإِذْ يَتَحَآجّونَ فِي النّـارِ فَيَقُولُ الضّعَفَاءُ لِلّذِينَ اسْتَكْـبَرُوَاْ إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مّغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مّنَ النّارِ * قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا كُلّ فِيهَآ إِنّ اللّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنّمَ ادْعُواْ رَبّكُمْ يُخَفّفْ عَنّا يَوْماً مّنَ الْعَذَابِ * قَالُوَاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ بَلَىَ قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ
يخبر تعالى عن تحاج أهل النار في النار وتخاصمهم وفرعون وقومه من جملتهم فيقول الضعفاء وهم الأتباع للذين استكبروا وهم القادة والسادة والكبراء {إنا كنا لكم تبع} أي أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال {فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار} أي قسطاً تتحملونه عنا {قال الذين استكبروا إنا كل فيه} أي لا نتحمل عنكم شيئاً كفى بنا ما عندنا وما حملنا من العذاب والنكال {إن الله قد حكم بين العباد} أي فقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا كما قال تعالى: {قال لكل ضعف ولكن لا تعملون * وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} لما علموا أن الله عز وجل لا يستجيب منهم ولا يستمع لدعائهم بل قد قال: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} سألوا الخزنة وهم كالسجانين لأهل النار أن يدعوا لهم الله تعالى أن يخفف عن الكافرين ولو يوماً واحداً من العذاب فقالت لهم الخزنة رادين عليهم {أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ؟} أي أو ما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل {قالوا بلى قالوا فادعو} أي أنتم لأنفسكم فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم ولا نود خلاصكم ونحن منكم براء ثم نخبركم أنه سواء دعوتم أو لم تدعوا لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم ولهذا قالوا: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} أي إلا في ذهاب ولا يتقبل ولا يستجاب.
الصفحة رقم 472 من المصحف تحميل و استماع mp3