تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 472 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 472

472- تفسير الصفحة رقم472 من المصحف
قوله تعالى: "وياقوم ما لي أدعوكم إلى النجاة" أي إلى طريق الإيمان الموصل إلى الجنان "وتدعونني إلى النار" بين أن ما قال فرعون من قوله: "وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" [غافر: 29] سبيل الغي عاقبته النار وكانوا دعوه إلى اتباعه؛ ولهذا قال: "تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم" وهو فرعون "وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار". "لا جرم" تقدم الكلام فيه، ومعناه حقا. "أنما تدعونني إليه" "ما" بمعنى الذي "ليس له دعوة" قال الزجاج: ليس له استجابة دعوة تنفع؛ وقال غيره: ليس له دعوة توجب له الألوهية "في الدنيا ولا في الآخرة" وقال الكلبي: ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة. وكان فرعون أولا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، ثم دعاهم إلى عبادة البقر، فكانت تعبد ما كانت شابة، فإذا هرمت أمر بذبحها، ثم دعا بأخرى لتعبد، ثم لما طال عليه الزمان قال أنا ربكم الأعلى. "وأن المسرفين هم أصحاب النار" قال قتادة وابن سيرين يعني المشركين. وقال مجاهد والشعبي: هم السفهاء والسفاكون للدماء بغير حقها. وقال عكرمة: الجبارون والمتكبرون. وقيل: هم الذي تعدوا حدود الله. وهذا جامع لما ذكر. و"أن" في المواضع في موضع نصب بإسقاط حرف الجر. وعلى ما حكاه سيبويه عن الخليل من أن "لا جرم" رد لكلام يجوز أن يكون موضع "أن" رفعا على تقدير وجب أن ما تدعونني إليه، كأنه قال: وجب بطلان ما تدعونني إليه، والمرد إلى الله، وكون المسرفين هم أصحاب النار.
قوله تعالى: "فستذكرون ما أقول لكم" تهديد ووعيد. و"ما" يجوز أن تكون بمعنى الذي أي الذي أقوله لكم. ويجوز أن تكون مصدرية أي فستذكرون قولي لكم إذا حل بكم العذاب. "وأفوض أمري إلى الله" أي أتوكل عليه وأسلم أمري إليه. وقيل: هذا يدل على أنهم أرادوا قتله. وقال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه. وقد قيل: القائل موسى. والأظهر أنه مؤمن آل فرعون؛ وهو قول ابن عباس.
الآية: 45 - 46 {فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب، النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}
قوله تعالى: "فوقاه الله سيئات ما مكروا" أي من إلحاق أنواع العذاب به فطلبوه فما وجدوه؛ لأنه فوض أمره إلى الله. قال قتادة: كان قبطيا فنجاه الله مع بني إسرائيل. فالهاء على هذا لمؤمن آل فرعون. وقيل: إنها لموسى على ما تقدم من الخلاف. "وحاق بآل فرعون سوء العذاب" قال الكسائي: يقال حاق يحيق حيقا وحيوقا إذ نزل ولزم. ثم بين العذاب فقال: "النار يعرضون عليها" وفيه ستة أوجه: يكون رفعا على البدل من "سوء". ويجوز أن يكون بمعنى هو النار. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء. وقال الفراء: يكون مرفوعا بالعائد على معنى النار عليها يعرضون، فهذه أربعة أوجه في الرفع، وأجاز الفراء النصب؛ لأن بعدها عائدا وقبلها ما يتصل به، وأجاز الأخفش الخفض على البدل من "العذاب". والجمهور على أن هذا العرض في البرزخ. واحتج بعض أهل العلم في تثبيت عذاب القبر بقوله: "النار يعرضون عليها غدوا وعشيا" ما دامت الدنيا. كذلك قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ومحمد بن كعب كلهم قال: هذه الآية تدل على عذاب القبر في الدنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة: "ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب". وفي الحديث عن ابن مسعود: أن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار تعرض على النار بالغداة والعشي فيقال هذه داركم. وعنه أيضا: إن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين فذلك عرضها. وروى شعبة عن يعلى بن عطاء قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أبو هريرة إذا أصبح ينادي: أصبحنا والحمد لله وعرض آل فرعون على النار. فإذا أمسى نادى: أمسينا والحمد لله وعرض آل فرعون على النار؛ فلا يسمع أبا هريرة أحد إلا تعوذ بالله من النار. وفي حديث صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر إذا مات عرض على النار بالغداة والعشي ثم تلا: "النار يعرضون عليها غدوا وعشيا" وإن المؤمن إذا مات عرض روحه عل الجنة بالغداة والعشي) وخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة). قال الفراء: في الغداة والعشي بمقادير دلك في الدنيا. وهو قول مجاهد. قال:"غدوا وعشيا" قال: من أيام الدنيا. وقال حماد بن محمد الفزاري: قال رجل للأوزاعي رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب، بيضا صغارا فوجا فوجا لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشاء رجعت مثلها سودا. قال: تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون، يعرضون على النار غدوا وعشيا، فترجع إلى أوكارها وقد أحترقت رياشها وصارت سودا، فينبت عليها من الليل رياشها بيضا وتتناثر السود، ثم تغدو فتعرض على النار غدوا وعشيا، ثم ترجع إلى وكرها فذلك دأبها ما كانت في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: "أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" وهو الهاوية. قال الأوزاعي: فبلغنا أنهم ألفا ألف وستمائة ألف. و"غدوا" مصدر جعل ظرفا على السعة. "وعشيا" عطف عليه وتم الكلام. "ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" ابتدئ "ويوم تقوم الساعة" على أن تنصب يوما بقوله: "أدخلوا" ويجوز أن يكون منصوبا بـ"يعرضون" على معنى "يعرضون" على النار في الدنيا "ويوم تقوم الساعة" فلا يوقف عليه. وقرأ نافع وأهل المدينة وحمزة والكسائي: "أدخلوا" بقطع الألف وكسر الخاء من أدخل وهي اختيار أبي عبيد؛ أي يأمر الملائكة أن يدخلوهم، ودليله "النار يعرضون عليها". الباقون "أدخلوا" بوصل الألف وضم الخاء من دخل أي يقال لهم: "أدخلوا" يا "آل فرعون أشد العذاب" وهو اختيار أبي حاتم. قال: في القراءة الأولى: "آل" مفعول أول و"أشد" مفعول ثان بحذف الجر، وفي القراءة الثانية منصوب؛ لأنه نداء مضاف. وآل فرعون: من كان على دينه وعلى مذهبه، وإذا كان من كان على دينه ومذهبه في أشد العذاب كان هو أقرب إلى ذلك. وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا منهم يحيى بن زكريا ولد مؤمنا وحيي مؤمنا ومات مؤمنا وإن العبد يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا منهم فرعون ولد كافرا وحيي كافرا ومات كافرا) ذكره النحاس. وجعل الفراء في الآية تقديما وتأخيرا مجازه: "أدخلوا آل فرعون أشد العذاب". "النار يعرضون عليها غدوا وعشيا" فجعل العرض في الآخرة؛ وهو خلاف ما ذهب إليه الجمهور من انتظام الكلام على سياقه على ما تقدم. والله أعلم.
الآية: 47 - 50 {وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار، قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد، وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}
قوله تعالى: "وإذ يتحاجون في النار" أي يختصمون فيها "فيقول الضعفاء للذين استكبروا" عن الانقياد للأنبياء "إنا كنا لكم تبعا" فيما دعوتمونا إليه من الشرك في الدنيا "فهل أنتم مغنون عنا" أي متحملون "نصيبا من النار" أي جزءا من العذاب. والتبع يكون واحدا ويكون جمعا في قول البصريين واحده تابع. وقال أهل الكوفة: هو جمع لا واحد له كالمصدر فلذلك لم يجمع ولو جمع لقيل أتباع. "قال الذين استكبروا إنا كل فيها" أي في جهنم. قال الأخفش: "كل" مرفوع بالابتداء. وأجاز الكسائي والفراء"إنا كلا فيها" بالنصب على النعت والتأكيد للمضمر في "إنا" وكذلك قرأ ابن السميقع وعيسى بن عمر والكوفيون يسمون التأكيد نعتا. ومنع ذلك سيبويه؛ قال: لأن "كلا" لا تنعت ولا ينعت بها. ولا يجوز البدل فيه لأن المخبر عن نفسه لا يبدل منه غيره، وقال معناه المبرد قال: لا يجوز أن يبدل من المضمر هنا؛ لأنه مخاطب ولا يبدل من المخاطَب ولا من المخاطِب؛ لأنهما لا يشكلان فيبدل منهما؛ هذا نص كلامه. "إن الله قد حكم بين العباد" أي لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره؛ فكل منا كافر.
قوله تعالى: "وقال الذين في النار" من الأمم الكافرة. ومن العرب من يقول اللذون على أنه جمع مسلم معرب، ومن قال: "الذين" في الرفع بناه كما كان في الواحد مبنيا. وقال الأخفش: ضمت النون إلى الذي فأشبه خمسة عشر فبني على الفتح. "لخزنة جهنم" خزنة جمع خازن ويقال: خزان وخزن. "ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب" "يخفف" جواب مجزوم وإن كان بالفاء كان منصوبا، إلا أن الأكثر في كلام العرب في جواب الأمر وما أشبهه أن يكون بغير فاء وعلى هذا جاء القرآن بأفصح اللغات كما قال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قال محمد بن كعب القرظي: بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة؛ فقال الله تعالى: "وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب" فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب فردت عليهم "أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" الخبر بطوله. وفي الحديث عن أبي الدرداء خرجه الترمذي وغيره قال: يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيأكلونه لا يغني عنهم شيئا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيغصون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثوا بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: "ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب" فيجيبوهم "أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" أي خسار وتبار.