تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 503 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 503

503 : تفسير الصفحة رقم 503 من القرآن الكريم

** وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ هَـَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىَ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ * قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ وَمَآ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ
يقول عز وجل مخبراً عن المشركين في كفرهم وعنادهم: أنهم إِذا تتلى عليهم آيات الله بينات أي في حال بيانها ووضوحها وجلائها يقولون {هذا سحر مبين} أي سحر واضح وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا {أم يقولون افتراه} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {قل إِن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئ} أي لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني وليس كذلك لعاقبني أشد العقوبة, ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم, أن يجيرني منه, كقوله تبارك وتعالى: {قل إِني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً* إِلا بلاغاً من الله ورسالاته} وقال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين} ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: {قل إِن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم} هذا تهديد ووعيد أكيد وترهيب شديد.
وقوله عز وجل وعلا: {وهو الغفور الرحيم} ترغيب لهم إِلى التوبة والإنابة أي ومع هذا كله إِن رجعتم وتبتم تاب عليكم وعفا عنكم وغفر ورحم, وهذه الاَية كقوله عز وجل في سورة الفرقان: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إِنه كان غفوراً رحيم} وقوله تبارك وتعالى: {قل ما كنت بدعاً من الرسل} أي لست بأول رسول طرق العالم بل جاءت الرسل من قبلي فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إِليكم فإِنه قد أرسل الله جل وعلا قبلي جميع الأنبياء إِلى الأمم, قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة {قل ما كنت بدعاً من الرسل} ما أنا بأول رسول, ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك.
وقوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاَية: نزل بعدها {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} وهكذا قال عكرمة والحسن وقتادة: إِنها منسوخة بقوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} قالوا: ولما نزلت هذه الاَية قال رجل من المسلمين: هذا قد بين الله تعالى, ماهو فاعل بك يا رسول الله, فما هو فاعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} هكذا قال, والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا: هنيئاً لك يارسول الله فما لنا ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الاَية, وقال الضحاك {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} أي ما أدري بماذا أومر وبماذا أنهى بعد هذا ؟ وقال أبو بكر الهذلي عن الحسن البصري في قوله تعالى: {وماأدري ما يفعل بي ولا بكم} قال: أما في الاَخرة فمعاذ الله وقد علم أنه في الجنة, ولكن قال: لاأدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا, أخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبلي ؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي ؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة ؟ وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير وأنه لا يجوز غيره ولا شك أن هذا هو اللائق به صلى الله عليه وسلم, فإِنه بالنسبة إِلى الاَخرة جازم أنه يصير إِلى الجنة هو ومن اتبعه, وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إِليه أمره وأمر مشركي قريش إِلى ماذا, أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد, حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء, وهي امرأة من نسائهم أخبرته وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله عنه فاشتكى عثمان رضي الله عنه عندنا فمرضناه, حتى إِذا توفي أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه» فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإِني لأرجو له الخير, والله ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بي».
قالت: والله لا أزكي أحداً بعده أبداً وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عيناً تجري, فجئت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك عمله» فقد انفرد بإِخراجه البخاري دون مسلم, وفي لفظ له «ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل به» وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك, وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إِلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة وابن سلام والغميصاء وبلال وسراقة, وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر, والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة, وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم, وقوله {إِن أتبع إِلا ما أوحي إلي} أي إِنما أتبع ما ينزله الله علي من الوحي {وما أنا إِلا نذير مبين} أي بين النذارة أمري ظاهر لكل ذي لب وعقل, والله أعلم.

** قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىَ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَـَذَا كِتَابٌ مّصَدّقٌ لّسَاناً عَرَبِيّاً لّيُنذِرَ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىَ لِلْمُحْسِنِينَ * إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن {أرأيتم إِن كان} هذا القرآن {من عند الله وكفرتم به} أي ما ظنكم أن الله صانع بكم إِن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزل علي لأبلغكموه, وقد كفرتم به وكذبتموه. {وشهد شاهد من بني إِسرائيل على مثله} أي وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبلي, بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به. وقوله عز وجل: {فآمن} أي هذا الذي شهد بصدقه من بني إِسرائيل لمعرفته بحقيقته {واستكبرتم} أنتم عن اتباعه, وقال مسروق: فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم {إِن الله لا يهدي القوم الظالمين} وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره, فإِن هذه الاَية مكية نزلت قبل إِسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه, وهذا كقوله تبارك وتعالى: {وإِذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إِنه الحق من ربنا إِنا كنا من قبله مسلمين} وقال: {إِن الذين أوتوا العلم من قبله إِذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إِن كان وعد ربنا لمفعول} قال مسروق والشعبي: ليس بعبد الله بن سلام هذه الاَية مكية, وإِسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان بالمدينة. رواه عنهما ابن جرير وابن أبي حاتم واختاره ابن جرير. وقال مالك عن أبي النضر عن عامر بن سعد عن أبيه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إِنه من أهل الجنة, إِلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه, قال: وفيه نزلت {وشهد شاهد من بني إِسرائيل على مثله} رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث مالك به, وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ويوسف بن عبد الله بن سلام وهلال بن يساف والسدي والثوري ومالك بن أنس, وابن زيد أنهم كلهم قالوا: إِنه عبد الله بن سلام.
وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إِليه} أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيراً ما سبقنا هؤلاء إِليه, يعنون بلالاً وعماراً وصهيباً وخباباً رضي الله عنهم, وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء, وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطأوا خطأ بيناً كما قال تبارك وتعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بينن} أي يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا: {لو كان خيراً ما سبقونا إِليه} وأما أهل السنة والجماعة, فيقولون: في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم هو بدعة لأنه لو كان خيراً لسبقونا إِليه, لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إِلا وقد بادروا إِليها.
وقوله تعالى: {وإِذ لم يهتدوا به} أي بالقرآن {فسيقولون هذا إِفك قديم} أي كذب قديم أي مأثور عن الناس الأقدمين فينتقصون القرآن وأهله, وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بطر الحق وغمط الناس» . ثم قال تعالى: {ومن قبله كتاب موسى} وهو التوراة {إِماماً ورحمة وهذا كتاب} يعني القرآن {مصدق} أي لما قبله من الكتب {لساناً عربي} أي فصيحاً بيناً واضحاً {لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين} أي مشتمل على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين, وقوله تعالى: {فلا خوف عليهم} أي فيما يستقبلون {ولا هم يحزنون} على ما خلفهم {أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون} أي الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم, والله أعلم.