تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 503 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 503

502

6- "وإذا تتلى عليهم آياتنا" أي آيات القرآن حال كونها "بينات" واضحات المعاني ظاهرات الدلالات "قال الذين كفروا للحق" أي لأجله وفي شأنه، وهو عبارة عن الآيات "لما جاءهم" أي وقت أن جاءهم "هذا سحر مبين" أي ظاهر السحرية.
7- "أم يقولون افتراه" أم هي المنقطعة: أي بل أيقولون افتراه والاستفهام للإنكار والتعجب من صنيعهم، وبل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحراً إلى قولهم: إن رسول الله افترى ما جاء به، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفى. ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: "قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً" أي قل إن افتريته على سبيل الفرض والتقدير: كما تدعون، فلا تقدرون على أن تردوا عني عقاب الله، فكيف افتري على الله لأجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني "هو أعلم بما تفيضون فيه" أي تخوضون فيه من التكذيب والإفاضة في الشيء الخوض فيه والاندفاع فيه، يقال أفاضوا في الحديث: أي اندفعوا فيه، وأفاض البعير: إذا دفع جرته من كرشه. والمعنى: الله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب له والقول بأنه سحر وكهانة: "كفى به شهيداً بيني وبينكم" فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده وأني قد بلغتكم، ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود، وفي هذا وعيد شديد "وهو الغفور الرحيم" لمن تاب وآمن وصدق بالقرآن وعمل بما فيه: أي كثير المغفرة والرحمة بليغهما.
8- "قل ما كنت بدعاً من الرسل" البدع من كل شيء المبدأ: أي ما أنا بأول رسول، قد بعث الله قبلي كثيراً من الرسل. قيل البدع بمعنى البديع كالخف والخفيف، والبديع ما لم ير له مثل، من الابتداع وهو الاختراع، وشيء بدع بالكسر: أي مبتدع، وفلان بدع في هذا الأمر: أي بديع كذا قال الأخفش، وأنشد قطرب: فما أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً غدت من بعد موسى وأسعدا وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة "بدعا" بفتح الدال على تقدير حذف المضاف: أي ما كنت ذا بدع، وقرأ مجاهد بفتح الباب وكسر الدال على الوصف "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" أي ما يفعل بي فيما يستقبل من الزمان هل أبقى في مكة أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل؟ وهل تعجل لكم العقوبة أم تمهلون؟ وهذا إنما هو في الدنيا. وأما في الآخرة فقد علم أنه وأمته في الجنة وأن الكافرين في النار. وقيل إن المعنى: ما أدري ما يفعل بي ولا يكم يوم القيامة، وإنها لما نزلت فرح المشركون وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا؟ فنزل قوله تعالى: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" والأول أولى " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " قرأ الجمهور "يوحى" مبينا للمفعول: أي ما أتبع إلا القرآن ولا أبتدع من عندي شيئاً، والمعنى: قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوحي لا قصر اتباعه على الوحي "وما أنا إلا نذير مبين" أي أنذركم عقاب الله وأخوفكم عذابه على وجه الايضاح. وقد أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريف أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس "أو أثارة من علم" قال: الخط. قال سفيان: ,لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أن الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن صادف مثل خطه علم" ومعنى هذا ثابت في الصحيح ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة. ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط، وأين السند الصحيح إلى ذلك النبي، أو إلى نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذا الخط هو على صورة كذا، فليس ما يفعله أهل الرمل إلا جهالات وضلالات. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أو أثارة من علم" قال: حسن الخط. وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم من طريق الشعبي عن ابن عباس: "أو أثارة من علم" قال: خط كان يخطه العرب في الأرض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "أو أثارة من علم" يقول: بينة من الأمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله: "قل ما كنت بدعا من الرسل" يقول لست بأول الرسل "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" فأنزل الله بعد هذا "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" وقوله: " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات " الآية، فأعلم سبحانه نبيه ما يفعل به وبالمؤمنين جمياً. وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضاً أن هذه الآية منسوخة بقوله: "ليغفر لك الله" وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أم العلاء قالت: "لما مات عثمان بن مظعون قلت: رحمك الله أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم، قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي بعده أحداً".
9- "قل أرأيتم" أي أخبروني "إن كان من عند الله" يعني ما يوحى إليه من القرآن، وقيل المراد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إن كان مرسلاً من عند غير الله، وقوله: "وكفرتم به" في محل نصب على الحال بتقدير قد، وكذلك قوله: "وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله" والمعنى: أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة من عند الله والحال أنكم قد كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل الله في التوراة على مثله: أي القرآن من المعاني الموجودة في التوراة المطابقة له من إثبات التوحيد والبعث والنشور وغير ذلك. وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ. وقال الجرجاني: مثل صلة، والمعنى: وشهد شاهد عليه أنه من عند الله، وكذا قال الواحدي: "فآمن" الشاهد بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله ومن جنس ما ينزله على رسله وهذا الشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم، وفي هذا نظر فإن السورة مكية بالإجماع، وعبد الله بن سلام كان إسلامه بعد الهجرة، فيكون المراد بالشاهد رجلاً من أهل الكتاب قد آمن بالقرآن في مكة وصدقه، واختار هذا ابن جرير، وسيأتي في آخر البحث ما يترجح به أنه عبد الله بن سلام وأن هذه الآية مدنية لا مكية. وروي عن مسروق أن المراد بالرجل موسى عليه السلام، وقوله: "واستكبرتم" معطوف على شهد: أي آمن الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" فحرمهم الله سبحانه الهداية لظلمهم لأنفسهم بالكفر بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان، ومن فقد هداية الله له ضل. وقد اختلف في جواب الشرط ماذا هو؟ فقال الزجاج: محذوف تقديره أتؤمنون، وقيل قوله: "فآمن واستكبرتم" وقيل محذوف تقديره: فقد ظلمتم لدلالة "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" عليه، وقيل تقديره: فمن أضل منكم، كما في قوله: "أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل" الآية. وقال أو علي الفارسي تقديره أتأمنون عقوبة الله، وقيل التقدير: ألستم ظالمين.
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أقاويلهم الباطلة فقال: 10- "وقال الذين كفروا للذين آمنوا" أي لأجلهم، ويجوز أن تكون هذه اللام هي لام التبليغ "لو كان خيراً ما سبقونا إليه" أي لو كان ما جاء به محمد من القرآن والنبوة خيراً ما سبقونا إليه لأنهم عند أنفسهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة، ولم يعلموا أن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويصطفي لدينه من يشاء " وإذ لم يهتدوا به " أي بالقرآن، وقيل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل بالإيمان "فسيقولون هذا إفك قديم" فجاوزوا نفي خيرية القرآن إلى دعوى أنه كذب قديم كما قالوا أساطير الأولين، والعامل في إذ مقدر: أي ظهر عنادهم، ولا يجوز أن يعمل فيه فسيقولون لتضاد الزمانين: أعني المضي والاستقبال ولأجل الفاء أيضاً، وقيل إن العامل فيه فعل مقدر من جنس المذكور: أي لم يهتدوا به.
وإذا لم يهتدوا به فسيقولون: 11- "ومن قبله كتاب موسى" قرأ الجمهور بكسر الميم من "من" على أنها حرف جر، وهي مع مجرورها خبر مقدم، وكتاب موسى مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة، والكلام مسوق لرد قولهم "هذا إفك قديم" فإن كونه قد تقدم القرآن كتاب موسى، وهو التوراة وتوافقا في أصول الشرائع يدل على أنه حق وأنه من عند الله، ويقتضي بطلان قولهم. وقرئ بفتح ميم من على أنها موصولة ونصب "كتاب": أي وآتينا من قبله كتاب موسى، ورويت هذه القراءة عن الكلبي "إماماً ورحمة" أي يقتدي به في الدين ورحمة من الله لمن آمن به، وهما منتصبان على الحال. قاله الزجاج وغيره. وقال الأخفش على القطع، وقال أبو عبيدة: أي جعلناه إماماً ورحمة "وهذا كتاب مصدق" يعني القرآن فإنه مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة ولغيره من كتب الله، وقيد مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم، وانتصاب "لساناً عربياً" على الحال الموطئة وصاحبها الضمير في مصدق العائد إلى كتاب، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً لمصدق، والأول أولى، وقيل هو على حذف مضاف: أي ذا لسان عربي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم "لينذر الذين ظلموا" قرأ الجمهور "لينذر" بالتحتية على أن فاعله ضمير يرجع إلى الكتاب: أي لينذر الكتاب الذين ظلموا، وقيل الضمير راجع إلى الله، وقيل إلى الرسول، والأول أولى. وقرأ نافع وابن عامر والبزي بالفوقية على أن فاعله النبي صلى الله عليه وسلم، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد، وقوله: "وبشرى للمحسنين" في محل نصب عطفاً على محل لينذر. وقال الزجاج: الأجود أن يكون في محل رفع: أي وهو بشرى، وقيل على المصدرية لفعل محذوف: أي وتبشر بشرى، وقوله: "للمحسنين" متعلق ببشرى.
12- "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" أي جمعوا بين التوحيد والاستقامة على الشريعة، وقد تقدم تفسير هذا في سورة السجدة "فلا خوف عليهم" الفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط "ولا هم يحزنون" المعنى: أنهم لا يخافون من وقوع مكروه بهم، ولا يحزنون من فوات محبوب وأن ذلك مستمر دائم.
13- "أولئك أصحاب الجنة" أي أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة التي هي دار المؤمنين حال كونهم "خالدين فيها" وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم، فإن نفي الخوف والحزن على الدوام والاستقرار في الجنة على الأبد مما لا تطلب الأنفس سواه ولا تتشوف إلى ما عداه "جزاء بما كانوا يعملون" أي يجزون جزاء بسبب أعمالهم التي عملوها من الطاعات لله وترك معاصيه.
14- "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً" قرأ الجمهور "حسناً" بضم الحاء وسكون السين. وقرأ علي والسلمي بفتحهما. وقرأ ابن عباس والكوفيون "إحساناً" وقد تقدم في سورة العنكبوت "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً" من غير اختلاف بين القراء وتقدم في سورة الأنعام وسورة بني إسرائيل "وبالوالدين إحساناً" فلعل هذا هو وجه اختلاف القراء في هذه الآية، وعلى جميع هذه القراءات فانتصابه على المصدرية: أي وصيناه أن يحسن إليهما حسناً، أو إحساناً. وقيل على أنه مفعول به بتضمين وصينا معنى ألزمنا، وقيل على أنه مفعول له "حملته أمه كرها ووضعته كرهاً" قرأ الجمهور "كرهاً" في الموضعين بضم الكاف. وقرأ أبو عمر وأهل الحجاز [بفتحها]. قال الكسائي: وهما لغتان بمعنى واحد. قال أبو حاتم: الكره بالفتح لا يحسن لأنه الغضب والغلبة، واختار أبو عبيد قراءة الفتح قال: لأن لفظ الكره في القرآن كله بالفتح إلا التي في سورة البقرة "كتب عليكم القتال وهو كره لكم" وقيل إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره. وإنما ذكر سبحانه حمل الأم ووضعها تأكيداً لوجوب الإحسان إليها الذي وصى الله به، والمعنى: أنها حملته ذات كره ووضعته ذات كره. ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال: "حمله وفصاله ثلاثون شهراً" أي مدتهما هذه المدة من عند ابتداء حمله إلى أن يفصل من الرضاع: أي يفطم عنه، وقد استدل بهذه الآية على أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن مدة الرضاع سنتان: أي مدة الرضاع الكامل كما في قوله: "حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة" فذكر سبحانه في هذه الآية أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع. وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة، وأرضعته هذه المدة بتعب ونصب ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك. قرأ الجمهور "وفصاله" بالألف، وقرأ الحسن ويعقوب وقتادة والجحدي " وفصاله " بفتح الفاء وسكون الصاد بغير ألف، والفصل والفصال بمعنى: كالفطم والفطام والقطف والقطاف "حتى إذا بلغ أشده" أي بلغ استحكام قوته وعقله، وقد مضى تحقيق الأشد مستوفى ولا بد من تقدير جملة تكون حتى غاية لها: أي عاش واستمرت حياته حتى بلغ أشده، قيل بلغ عمره ثماني عشرة سنة، وقيل الأشد الحلم قاله الشعبي وابن زيد. وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين، والأول أولى لقوله: "وبلغ أربعين سنة" فإن هذا يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيء وراء بلوغ الأشد. قال المفسرون: لم يبعث الله نبياً قط إلا بعد أربعين سنة "قال رب أوزعني" أي ألهمني. قال الجوهري: استوزعت الله فأوزعني: أي استلهمته فألهمني "أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي" أي ألهمني شكر ما أنعمت به علي من الهداية، وعلى والدي من التحنن علي منهما حين ربياني صغيراً. وقيل أنعمت علي بالصحة والعافية، وعلى والدي بالغنى والثروة، والأولى عدم تقييد النعمة عليه وعلى أبويه بنعمة مخصوصة "وأن أعمل صالحاً ترضاه" أي وألهمني أن أعمل عملاً صالحاً ترضاه مني "وأصلح لي في ذريتي" أي اجعل ذريتي صالحين راسخين في الصلاح متمكنين منه. وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات، وقد روي أنها نزلت في أبي بكر كما سيأتي في آخر البحث "إني تبت إليك" من ذنوبي "وإني من المسلمين" أي المستسلمين لك المنقادين لطاعتك المخلصين لتوحيدك.