تفسير الطبري تفسير الصفحة 503 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 503
504
502
 الآية : 6-7
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ هَـَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ }.
يقول تعالى ذكره: وإذا جُمع الناس يوم القيامة لموقف الحساب, كانت هذه الاَلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء, لأنهم يتبرّأون منهم وكانُوا بعِبادِتهِمْ كافِرِين يقول تعالى ذكره: وكانت آلتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين, لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا, ولا شعرنا بعبادتهم إيانا, تبرأنا إليك منهم يا ربنا.
وقوله: وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيّناتٍ يقول تعالى ذكره: وإذا يقرأ على هؤلاء المشركين بالله من قومك آياتنا, يعني حججنا التي احتججناها عليهم, فيما أنزلناه من كتابنا على محمد صلى الله عليه وسلم بيّناتٍ يعني واضحات نيرات قالَ الّذِينَ كَفَرُوا للْحَقّ لَمّا جاءَهُمْ يقول تعالى ذكره: قال الذين جحدوا وحدانية الله, وكذّبوا رسوله للحقّ لما جاءهم من عند الله, فأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ يعنون هذا القرآن خداع يخدعنا, ويأخذ بقلوب من سمعه فعل السحر مبين: يقول: يُبين لمن تأمله ممن سمعه أنه سحر مبين.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىَ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: أم يقولون هؤلاء المشركون بالله من قريش, افترى محمد هذا القرآن, فاختلقه وتخرّصه كذبا, قل لهم يا محمد إن افتريته وتخرّصته على الله كذبا فَلا تَمْلِكُونَ لي يقول: فلا تغنون عني من الله إن عاقبني على افترائي إياه, وتخرّصي عليه شيئا, ولا تقدرون أن تدفعوا عني سوءا إن أصابني به.
وقوله: هُوَ أعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيه يقول: ربي أعلم من كلّ شيء سواه بما تقولون بينكم في هذا القرآن والهاء من قوله: تُفِيضُونَ فِيهِ من ذكر القرآن.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: تُفِيضُونَ فِيهِ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24152ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ قال: تقولون.
وقوله: كَفَى بِهِ شَهِيدا بَيْنِي وَبَيْنَكمْ يقول: كفى بالله شاهدا عليّ وعليكم بما تقولون من تكذيبكم لي فيما جئتكم به من عند الله الغفور الرحيم لهم, بأن لا يعذبهم عليها بعد توبتهم منها.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ وَمَآ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك من قريش ما كُنْتُ بِدْعا مِنَ الرّسُل يعني: ما كنت أوّل رسل الله التي أرسلها إلى خلقه, قد كان من قبلي له رسل كثيرة أُرسلت إلى أمم قبلكم يقال منه: هو بدع في هذا الأمر, وبديع فيه, إذا كان فيه أوّل. ومن البدع قول عديّ بن زيد.
فَلا أنا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِيرِجالاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسَي وأسْعُدِ
ومن البديع قول الأحوص:
فَخَرَتْ فانْتَمَتْ فقُلْتُ انْظُرِينيليسَ جَهْلٌ أتَيْتِهِ بِبَدِيعِ
يعني بأوّل, يقال: هو بدع من قوم أبداع. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24153ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ما كُنْتُ بِدْعا مِنَ الرّسُلِ يقول: لست بأوّل الرسل.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَما كُنْتُ بِدْعا مِنَ الرّسُلِ قال: يقول: ما كنت أوّل رسول أُرسل.
24154ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ما كُنْتُ بِدْعا مِنَ الرّسُلِ قال: ما كنت أوّلهم.
24155ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا عبد الوهاب بن معاوية, عن أبي هبيرة, قال: سألت قتادة قُلْ ما كُنْتُ بِدْعا مِنَ الرّسُلِ قال: أي قد كانت قبلي رسل.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعا مِنَ الرّسُلِ يقول: أي إن الرسل قد كانت قبلي.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: بِدْعا مِنَ الرّسُلِ قال: قد كانت قبله رسل.
وقوله: وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ اختلف أهل التأويل في تأويله, فقال بعضهم: عني به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقيل له: قل للمؤمنين بك ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة, وإلام نصير هنالك, قالوا ثم بين الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حالهم في الاَخرة, فقيل له إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ وقال: لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ. ذكر من قال ذلك:
24156ـ حدثنا عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فأنزل الله بعد هذا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ.
24157ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا: قال في حم الأحقاف وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ, إنْ أتّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليّ وَما أنا إلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ فنسختها الاَية التي في سورة الفتح إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ... الاَية, فخرج نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الاَية, فبشرهم بأنه غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر, فقال له رجال من المؤمنين: هنيئا لك يا نبيّ الله, قد علمنا ما يفعل بك, فماذا يُفعل بنا؟ فأنزل الله عزّ وجلّ في سورة الأحزاب, فقال: وَبَشّرِ المُؤْمِنِينَ بأنّ لَهُمْ مِنَ اللّهِ فَضْلاً كَبيرا وقال لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها, وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتهِمْ وكان ذلكَ عِنْدَ اللّهِ فَوْزا عَظِيما, وَيُعَذّبَ المُنافِقِينَ وَالمُنَافِقاتِ وَالمُشْرِكينَ وَالمُشْركاتِ الظّانّينَ باللّهِ... الاَية, فبين الله ما يفعل به وبهم.
24158ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَما أدْرِي ما يُفَعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ثم دري أو علم من الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ما يفعل به, يقول إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ قال: قد بين له أنه قد غفر من ذنبه ما تقدّم وما تأخر.
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوله للمشركين من قومه ويعلم أنه لا يدري إلام يصير أمره وأمرهم في الدنيا, أيصير أمره معهم أن يقتلوه أو يخرجوه من بينهم, أو يؤمنوا به فيتبعوه, وأمرهم إلى الهلاك, كما أهلكت الأمم المكذّبة رسلها من قبلهم أو إلى التصديق له فيما جاءهم به من عند الله. ذكر من قال ذلك:
24159ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا أبو بكر الهذليّ, عن الحسن, في قوله: وَما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فقال: أما في الاَخرة فمعاذ الله, قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل, ولكن قال: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا, أخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي أو أُقتل كما قُتلت الأنبياء من قبلي, ولا أدري ما يُفْعل بي ولا بكم, أمتي المكذّبة, أم أمتي المصدّقة, أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا, أم مخسوف بها خسفا, ثم أوحي إليه: وَإذْ قُلْنا لَكَ إنّ رَبّكَ أحاطَ بالنّاسِ يقول: أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك, فعرف أنه لا يُقتل, ثم أنزل الله عزّ وجلّ: هُوَ الّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ على الدّين كُلّهِ, وَكَفَى باللّهٍ شَهِيدا يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيُظهر دينك على الأديان, ثم قال له في أمته: وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ, وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فأخبره الله ما يصنع به, وما يصنع بأمته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما أدري ما يفترض عليّ وعليكم, أو ينزل من حكم, وليس يعني ما أدري ما يفعل بي ولا بكم غدا في المعاد من ثواب الله من أطاعه, وعقابه من كذّبه.
وقال آخرون: إنما أمر أن يقول هذا في أمر كان ينتظره من قِبَل الله عزّ وجلّ في غير الثواب والعقاب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دلّ عليه التنزيل, القول الذي قاله الحسن البصري, الذي رواه عنه أبو بكر الهُذَليّ.
وإنما قلنا ذلك أولاها بالصواب لأن الخطاب من مبتدإ هذه السورة إلى هذه الاَية, والخبر خرج من الله عزّ وجلّ خطابا للمشركين وخبرا عنهم, وتوبيخا لهم, واحتجاجا من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عليهم. فإذا كان ذلك كذلك, فمعلوم أن هذه الاَية أيضا سبيلها سبيل ما قبلها وما بعدها في أنها احتجاج عليهم, وتوبيخ لهم, أو خبر عنهم. وإذا كان ذلك كذلك, فمحال أن يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم في الاَخرة, وآيات كتاب الله عزّ وجلّ في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون, والمؤمنون به في الجنان منعمون, وبذلك يرهبهم مرّة, ويرغبهم أخرى, ولو قال لهم ذلك, لقالوا له: فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أيّ حال تصير غدا في القيامة, إلى خفض ودعة, أم إلى شدّة وعذاب وإنما اتباعنا إياك إن اتبعناك, وتصديقنا بما تدعونا إليه, رغبة في نِعمة, وكرامة نصيبها, أو رهبة من عقوبة, وعذاب نهرب منه, ولكن ذلك كما قال الحسن, ثم بين الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما هو فاعل به, وبمن كذّب بما جاء به من قومه وغيرهم.
وقوله: إنْ أتّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليّ يقول تعالى ذكره: قل لهم ما أتبع فيما آمركم به, وفيما أفعله من فعل إلا وحي الله الذي يوحيه إليّ, وَما أنا إلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ يقول: وما أنا لكم إلا نذير, أنذركم عقاب الله على كفركم به مبين: يقول: قد أبان لكم إنذاره, وأظهر لكم دعاءه إلى ما فيه نصيحتكم, يقول: فكذلك أنا.
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين لهذا القرآن لما جاءهم هذا سحر مبين أرأيْتُمْ أيها القوم إنْ كانَ هذا القرآن مِنْ عِنْدِ اللّهِ أنزله عليّ وكَفَرْتُمْ أنتم بِهِ يقول: وكذّبتم أنتم به.
وقوله: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معناه: وشهد شاهد من بني إسرائيل, وهو موسى بن عمران عليه السلام على مثله, يعني على مثل القرآن, قالوا: ومثل القرآن الذي شهد عليه موسى بالتصديق التوراة. ذكر من قال ذلك:
24160ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن عامر, عن مسروق في هذه الاَية: وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فخاصم به الذين كفروا من أهل مكة, التوراة مثل القرآن, وموسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: سُئل داود, عن قوله: قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ... الاَية, قال داود, قال عامر, قال مسروق: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام, ما نزلت إلا بمكة, وما أسلم عبد الله إلا بالمدينة, ولكنها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه وسلم بها قومه, قال: فنزلت قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ قال: فالتوراة مثل القرآن, وموسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم, فآمنوا بالتورَاة وبرسولهم, وكفرتم.
24161ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت داود بن أبي هند, عن الشعبيّ, قال: أناس يزعمون أن شاهدا من بني إسرائيل على مثله عبد الله بن سلام, وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة وقد أخبرني مسروق أن آل حم, إنما نزلت بمكة, وإنما كانت محاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه, فقال: أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ يعني القرآن وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فآمَنَ موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام على الفرقان.
حدثني أبو السائب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن داود, عن الشعبيّ, قال: إن ناسا يزعمون أن الشاهد على مثله: عبد الله بن سلام, وأنا أعلم بذلك, وإنما أسلم عبد الله بالمدينة, وقد أخبرني مسروق أن آل حم إنما نزلت بمكة, وإنما كانت محاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه, فقال: قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ يعني الفرقان وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فمثل التوراة الفرقان, التوراة شهد عليها موسى, ومحمد على الفرقان صلى الله عليهما وسلم.
حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا داود, عن الشعبيّ, عن مسروق, في قوله قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ الاَية, قال: كان إسلام ابن سلام بالمدينة ونزلت هذه السورة بمكة إنما كانت خصومة بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين قومه, فقال: قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ قال: التوراة مثل الفرقان, وموسى مثل محمد, فآمن به واستكبرتم, ثم قال: آمن هذا الذي من بني إسرائيل بنبيه وكتابه, واستكبرتم أنتم, فكذّبتم أنتم نبيكم وكتابكم, إنّ الله لا يهْدِي... إلى قوله: هَذا إفْكٌ قَدِيمٌ.
وقال آخرون: عنى بقوله: وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ عبد الله بن سلام, قالوا: ومعنى الكلام وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل هذا القرآن بالتصديق. قالوا: ومثل القرآن التوراة. ذكر من قال ذلك:
24162ـ حدثني يونس, قال: حدثنا عبد الله بن يوسف التّنّيسي, قال: سمعت مالك بن أنس يحدّث عن أبي النضر, عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص, عن أبيه, قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام قال: وفيه نزلت وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ.
24163ـ حدثنا الحسين بن عليّ الصّدَائي, قال: حدثنا أبو داود الطيالسي, قال: حدثنا شعيب بن صفوان, قال: حدثنا عبد الملك بن عمير, أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام, قال: قال عبد الله: أنزل فيّ قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ.... إلى قوله: فآمَن واسْتَكْبَرْتُم.
حدثني عليّ بن سعد بن مسروق الكنديّ, قال: حدثنا أبو محمد يحيى بن يعلى, عن عبد الملك بن عمير, عن ابن أخي عبد الله بن سلام, قال: قال عبد الله بن سلام: نزلت فيّ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فآمَن واسْتَكْبَرْتُمْ إنّ الله لا يهْدِي القَوْم الظّالمِينَ.
24164ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ... الاَية, قال: كان رجل من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم, فقال: إنا نجده في التوراة, وكان أفضل رجل منهم, وأعلمهم بالكتاب, فخاصمت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: «أتَرْضَوْنَ أنْ يَحْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلام»؟ «أتُؤْمِنُونَ»؟ قالوا: نعم, فأرسل إلى عبد الله بن سلام, فقال: «أتَشْهَدُ أنّي رَسُولُ اللّهِ مَكتُوبا فِي التّوْرَاةِ والإنْجِيلِ», قال: نعم, فأعرضت اليهود, وأسلم عبد الله بن سلام, فهو الذي قال الله جلّ ثناؤه عنه: وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ يقول: فآمن عبد الله بن سلام.
24165ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ قال: عبد الله بن سلام.
24166ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ... الاَية, كنا نحدّث أنه عبد الله بن سلام آمن بكتاب الله وبرسوله وبالإسلام, وكان من أحبار اليهود.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ؟ قال: هو عبد الله بن سلام.
24167ـ حُدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ الشاهد: عبد الله بن سلام, وكان من الأحبار من علماء بني إسرائيل, وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود, فأتوه, فسألهم فقال: «أتَعْلَمُون أنّي رسُولُ اللّهِ تجدُونَنِي مَكْتُوبا عِنْدكُمْ في التّوْراةِ»؟ قالوا: لا نعلم ما تقول, وإنا بما جئت به كافرون, فقال: «أيّ رجُل عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلام عنْدَكُمْ»؟ قالوا: عالمنا وخيرنا, قال: «أتَرْضوْن بهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»؟ قالوا: نعم, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن سلام, فجاءه فقال: «ما شَهادَتُكَ يا بْنَ سَلام»؟ قال: أشهد أنك رسول الله, وأن كتابك جاء من عند الله, فآمن وكفروا, يقول الله تبارك وتعالى فآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ.
24168ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا عوف, عن الحسن, قال: بلغني أنه لما أراد عبد الله بن سلام أن يسلم قال: يا رسول الله, قد علمت اليهود أني من علمائهم, وأن أبي كان من علمائهم, وإني أشهد أنك رسول الله, وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في التوراة, فأرسل إلى فلان وفلان, ومن سماه من اليهود, وأخبئني في بيتك, وسلهم عني, وعن أبي, فإنهم سيحدّثونك أني أعلمهم, وأن أبي من أعلمهم, وإني سأخرج إليهم, فأشهد أنك رسول الله, وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في التوراة, وأنك بُعثت بالهدى ودين الحقّ, قال: ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخبأه في بيته وأرسل إلى اليهود, فدخلوا عليه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عبد الله بن سلام فيكم»؟ قالوا: أعلمنا نفسا. وأعلمنا أبا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيْتُمْ إنْ أسْلَمَ تُسْلِمُونَ»؟ قالوا: لا يسلم, ثلاث مرار, فدعاه فخرج, ثم قال: أشهد أنك رسول الله, وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في التوراة, وأنك بُعثت بالهدى ودين الحقّ, فقالت اليهود: ما كنا نخشاك على هذا يا عبد الله بن سلام, قال: فخرجوا كفارا, فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ, فآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ.
24169ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُم قال: هذا عبد الله بن سلام, شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه حقّ, وهو في التوراة حقّ, فآمن واستكبرتم.
24170ـ حدثني أبو شرحبيل الحمصي, قال: حدثنا أبو المغيرة, قال: حدثنا صفوان بن عمرو, عن عبد الرحمن بن جُبير بن نفير, عن أبيه, عن عوف بن مالك الأشجعي, قال: انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا معه, حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم, فكرهوا دخولنا عليهم, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا مَعْشَرَ اليَهُودِ إِرُوني اثْنَي عَشَرَ رَجُلاً يَشْهَدُونَ إنّهُ لا إلَهَ إلاّ هُو, وأنّ مَحمّدا رَسُولُ اللّهِ, يُحْبِطُ اللّهُ عَنْ كُلّ يَهُودِيّ تَحْتَ أدِيمِ السّماءِ الغَضَبَ الّذِي غَضِب عَلَيْهِ», قال: فأسكتوا فما أجابه منهم أحد, ثم ثلّث فلم يجبه أحد, فانصرف وأنا معه, حتى إذا كدنا أن نخرج نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد, قال: فأقبل, فقال ذلك الرجل: أيّ رجل تَعلموني فيكم يا معشر اليهود, قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله, ولا أفقه منك, ولا من أبيك, ولا من جدّك قبل أبيك, قال: فإني أشهد بالله أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي تجدونه في التوراة والإنجيل, قالوا كذبت, ثم ردّوا عليه قوله وقالوا له شرّا, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَذَبْتُمْ لَنْ نَقْبَلَ قَوْلَكُمْ, أما آنفا فَتَثْنُونَ عَلَيْهِ مِنَ الخَيْرِ ما أثْنَيْتُم, وأمّا إذْ آمَنَ كَذّبْتُمُوهُ وَقُلْتُمْ ما قُلْتُمْ, فَلَنْ نَقْبَلَ قَوْلَكُم», قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنا, وعبد الله بن سلام, فأنزل الله فيه: قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ... الاَية.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل, لأن قوله: قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش, واحتجاجا عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم, وهذه الاَية نظيرة سائر الاَيات قبلها, ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر, فتوجه هذه الاَية إلى أنها فيهم نزلت, ولا دلّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدّم الخبر عنهم معنى, غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك عنى به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل, وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن, والسبب الذي فيه نزل, وما أريد به, فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك, وشهد عبد الله بن سلام, وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله, يعني على مثل القرآن, وهو التوراة, وذلك شهادته أن محمدا مكتوب في التوراة أنه نبيّ تجده اليهود مكتوبا عندهم في التوراة, كما هو مكتوب في القرآن أنه نبيّ.
وقوله: فآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ يقول: فآمن عبد الله بن سلام, وصدّق بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به من عند الله, واستكبرتم أنتم على الإيمان بما آمن به عبد الله بن سلام معشر اليهود إنّ اللّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ يقول: إن الله لا يوفّق لإصابة الحقّ, وهدى الطريق المستقيم, القوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بإيجابهم لها سخط الله بكفرهم به.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: وقال الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل للذين آمنوا به, لو كان تصديقكم محمدا على ما جاءكم به خيرا, ما سبقتمونا إلى التصديق به, وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله: وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ أنه معنيّ به عبد الله بن سلام, فأما على تأويل من تأوّل أنه عُني به مشركو قريش, فإنه ينبغي أن يوجه تأويل قوله: وَقالَ الّذِين كَفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرا ما سَبَقُونا إلَيْهِ أنه عُنِي به مشركو قريش وكذلك كان يتأوّله قتادة, وفي تأويله إياه كذلك ترك منه تأويله, قوله: وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ أنه معنيّ به عبد الله بن سلام. ذكر الرواية عنه بذلك:
24171ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرا ما سَبَقُونا إلَيْهِ قال: قال ذاك أناس من المشركين: نحن أعزّ, ونحن, ونحن, فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان, فإن الله يختصّ برحمته من يشاء.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرا ما سَبَقُونا إلَيْهِ قال: قد قال ذلك قائلون من الناس, كانوا أعزّ منهم في الجاهلية, قالوا: والله لو كان هذا خيرا ما سبقنا إليه بنو فلان وبنو فلان, يختصّ الله برحمته من يشاء, ويكرم الله برحمته من يشاء, تبارك وتعالى.
وقوله: وَإذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ يقول تعالى ذكره: وإذ لم يبصروا بمحمد وبما جاء به من عند الله من الهدى, فيرشدوا به الطريق المستقيم فَسَيَقُولُونَ هَذَا إفْكٌ قَدِيمٌ يقول: فسيقولون هذا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكاذيب من أخبار الأوّلين قديمة, كما قال جل ثناؤه مخِبرا عنهم, وَقالُوا أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلَىَ عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلاً.
الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىَ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَـَذَا كِتَابٌ مّصَدّقٌ لّسَاناً عَرَبِيّاً لّيُنذِرَ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىَ لِلْمُحْسِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ومن قبل هذا الكتاب, كتاب موسى, وهو التوراة, إماما لبني إسرائيل يأتمون به, ورحمة لهم أنزلناه عليهم. وخرج الكلام مخرج الخبر عن الكتاب بغير ذكر تمام الخبر اكتفاءً بدلالة الكلام على تمامه وتمامه: ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أنزلناه عليه, وهذا كتاب أنزلناه لسانا عربيا.
اختلف في تأويل ذلك, وفي المعنى الناصب لِسانا عَربِيّا أهل العربية, فقال بعض نحويي البصرة: نصب اللسان والعربي, لأنه من صفة الكتاب, فانتصب على الحال, أو على فعل مضمر, كأنه قال: أعني لسانا عربيا. قال: وقال بعضهم على مصدق جعل الكتاب مصدق اللسان, فعلى قول من جعل اللسان نصبا على الحال, وجعله من صفة الكتاب, ينبغي أن يكون تأويل الكلام, وهذا كتاب بلسان عربيّ مصدّق التوراة كتاب موسى, بأن محمدا لله رسول, وأن ما جاء به من عند الله حقّ. وأما القول الثاني الذي حكيناه عن بعضهم, أنه جعل الناصب للسان مصدّق, فقول لا معنى له, لأن ذلك يصير إذا يؤوّل كذلك إلى أن الذي يصدق القرآن نفسه, ولا معنى لأن يقال: وهذا كتاب يصدّق نفسه, لأن اللسان العربيّ هو هذا الكتاب, إلا أن يجعل اللسان العربيّ محمدا عليه الصلاة والسلام, ويوجه تأويله إلى: وهذا كتاب وهو القرآن يصدّق محمدا, وهو اللسان العربيّ, فيكون ذلك وجها من التأويل.
وقال بعض نحويي الكوفة: قوله: لِسانا عَرَبِيّا من نعت الكتاب, وإنما نُصب لأنه أريد به: وهذا كتاب يصدّق التوراة والإنجيل لسانا عربيا, فخرج لسانا عربيا من يصدّق, لأنه فعل, كما تقول: مررت برجل يقوم محسنا, ومررت برجل قائم محسنا, قال: ولو رفع لسان عربيّ جاز على النعت للكتاب.
وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود «وهذا كتاب مصدّق لما بين يديه لسانا عربيا» فعلى هذه القراءة يتوجه النصب في قوله: لِسانا عَرَبِيّا من وجهين: أحدهما على ما بيّنت من أن يكون اللسان خارجا من قوله مُصَدّقٌ والاَخر: أن يكون قطعا من الهاء التي في بين يديه.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يكون منصوبا على أنه حال مما في مصدّق من ذكر الكتاب, لأن قوله: مَصدّقٌ فعل, فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: وهذا القرآن يصدق كتاب موسى بأن محمدا نبي مرسل لسانا عربيا.
وقوله: لِيُنْذِرّ الّذِين ظَلَمُوا يقول: لينذر هذا الكتاب الذي أنزلناه إلى محمد عليه الصلاة والسلام الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله بعبادتهم غيره.
وقوله: وبُشْرى للْمُحْسِنِين يقول: وهو بشرى للذين أطاعوا الله فأحسنوا في إيمانهم وطاعتهم إياه في الدنيا, فحسن الجزاء من الله لهم في الاَخرة على طاعتهم إياه. وفي قوله: وبُشْرى وجهان من الإعراب: الرفع على العطف على الكتاب بمعنى: وهذا كتاب مصدّق وبشرى للمحسنين. والنصب على معنى: لينذر الذين ظلموا ويبشر, فإذا جعل مكان يبشر وبُشرى أو وبشارة, نصبت كما تقول أتيتك لأزورك وكرامة لك, وقضاءً لحقك, بمعنى لأزورك وأكرمك, وأقضي حقك, فتنصب الكرامة والقضاء بمعنى مضمر.
واختلفت القرّاء في قراءة لِيُنْذِرَ فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز «لِتُنْذِرَ» بالتاء بمعنى: لتنذر أنت يا محمد, وقرأته عامة قرّاء العراق بالياء بمعنى: لينذر الكتاب, وبأيّ القراءتين قرأ ذلك القارىء فمصيب.
الآية : 13-14
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ الذي لا إله غيره ثُمّ اسْتَقامُوا على تصديقهم بذلك فلم يخلطوه بشرك, ولم يخالفوا الله في أمره ونهيه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من فزع يوم القيامة وأهواله وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا وراءهم بعد مماتهم.
وقوله: أُولَئِكَ أصَحابُ الجَنّةِ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين قالوا هذا القول, واستقاموا أهل الجنة وسكانها خالِدِينَ فِيها يقول: ماكثين فيها أبدا جَزَاءً بمَا كانُوا يَعْمَلُونَ يقول: ثوابا منا لهم آتيناهم ذلك على أعمالهم الصالحة التي كانوا في الدنيا يعملونها