سورة القمر | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 529 من المصحف
سورة القمر
وهي مكية.
قد تقدم في حديث أبي واقد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف، واقتربت الساعة، في الأضحى والفطر، وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار، لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد وإثبات النبوات، وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (2) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر (3) ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بالغة فما تغن النذر (5)
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها. كما قال تعالى: أتى أمر الله فلا تستعجلوه [سبحانه ] [ النحل : 1 ]، وقال: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ الأنبياء : 1 ] وقد وردت الأحاديث بذلك، قال الحافظ أبو بكر البزار:
حدثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي قالا حدثنا خلف بن موسى، حدثني أبي، عن قتادة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم، وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا شف يسير، فقال: "والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه، وما نرى من الشمس إلا يسيرا" .
قلت: هذا حديث مداره على خلف بن موسى بن خلف العمي، عن أبيه. وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ.
حديث آخر يعضد الذي قبله ويفسره، قال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا شريك، حدثنا سلمة بن كهيل، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان بعد العصر، فقال: "ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى" .
< 7-471 >
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين، حدثنا محمد بن مطرف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بعثت والساعة هكذا". وأشار بإصبعيه: السبابة والوسطى.
أخرجاه من حديث أبي حازم سلمة بن دينار .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن أبي خالد، عن وهب السوائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقها " وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنتم والساعة كهاتين".
تفرد به أحمد، رحمه الله . وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز بن أسد، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غزوان -قال بهز: وقال قبل هذه المرة-خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا، والله لتملؤنه، أفعجبتم! والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ الزحام" وذكر تمام الحديث، انفرد به مسلم .
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب، حدثني ابن علية، أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نـزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ، فجاءت الجمعة، فحضر أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال: ألا إن الله يقول: اقتربت الساعة وانشق القمر ، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار، وغدا السباق، فقلت لأبي: أيستبق الناس غدا؟ فقال: يا بني إنك لجاهل، إنما هو السباق بالأعمال. < 7-472 > ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرنا فخطب حذيفة، فقال: ألا إن الله، عز وجل يقول: اقتربت الساعة وانشق القمر ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سبق إلى الجنة .
وقوله: وانشق القمر : قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: "خمس قد مضين: الروم، والدخان، واللزام، والبطشة، والقمر" . وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أي انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك:
رواية أنس بن مالك:
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين، فقال: اقتربت الساعة وانشق القمر .
ورواه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق .
وقال البخاري: حدثني عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك؛ أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حراء بينهما .
وأخرجاه أيضا من حديث يونس بن محمد المؤدب، عن شيبان، عن قتادة . ورواه مسلم أيضا من حديث أبي داود الطيالسي، ويحيى القطان، وغيرهما، عن شعبة، عن قتادة، به .
رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد. فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه، وأسنده البيهقي في "الدلائل" من طريق محمد بن كثير، < 7-473 > عن أخيه سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن، [به] . وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره، عن حصين، به . ورواه البيهقي أيضا من طريق إبراهيم بن طهمان وهشيم، كلاهما عن حصين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده فذكره .
رواية عبد الله بن عباس [رضي الله عنهما]
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا بكر، عن جعفر، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: انشق القمر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ورواه البخاري أيضا ومسلم، من حديث بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك [بن مالك] ، به مثله .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود بن أبي هند، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: اقتربت الساعة وانشق القمر . وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقيه.
وروى العوفي، عن ابن عباس نحو هذا.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو البزار، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر. فنـزلت: اقتربت الساعة وانشق القمر إلى قوله: مستمر .
رواية عبد الله بن عمر:
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين: فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد".
< 7-474 >
وهكذا رواه مسلم، والترمذي، من طرق عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، به . قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود. وقال الترمذي: حسن صحيح.
رواية عبد الله ابن مسعود:
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشهدوا".
وهكذا رواه البخاري ومسلم، من حديث سفيان بن عيينة، به . وأخرجاه من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة، عن ابن مسعود، به .
وقال ابن جرير: حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، حدثنا عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن رجل، عن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر، فأخذت فرقة خلف الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا، اشهدوا" .
قال البخاري: وقال أبو الضحى، عن مسروق، عن عبد الله: بمكة .
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة. قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. قال: فجاء السفار فقالوا: ذلك .
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش أهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به. قال: فسئل السفار، قال: وقدموا من كل وجهة، فقالوا: رأيناه.
رواه ابن جرير من حديث المغيرة، به . وزاد: فأنـزل الله عز وجل: اقتربت الساعة وانشق القمر . ثم قال ابن جرير:
< 7-475 >
حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب، عن محمد -هو ابن سيرين-قال: نبئت أن ابن مسعود، رضي الله عنه، كان يقول: لقد انشق القمر .
وقال ابن جرير أيضا: حدثني محمد بن عمارة، حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله قال: لقد رأيت الجبل من فرج القمر حين انشق.
ورواه الإمام أحمد عن مؤمل، عن إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر .
وقال ليث عن مجاهد: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "اشهد يا أبا بكر". فقال المشركون: سحر القمر حتى انشق .
وقوله: وإن يروا آية أي: دليلا وحجة وبرهانا يعرضوا أي: لا ينقادون له، بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم، ويقولوا سحر مستمر أي: ويقولون: هذا الذي شاهدناه من الحجج، سحر سحرنا به.
ومعنى مستمر أي: ذاهب. قاله مجاهد، وقتادة، وغيرهما، أي: باطل مضمحل، لا دوام له.
وكذبوا واتبعوا أهواءهم أي: كذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم.
وقوله: وكل أمر مستقر قال قتادة: معناه: أن الخير واقع بأهل الخير، والشر واقع بأهل الشر.
وقال ابن جريج: مستقر بأهله. وقال مجاهد: وكل أمر مستقر أي: يوم القيامة.
وقال السدي: مستقر أي: واقع.
وقوله: ولقد جاءهم من الأنباء أي: من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل، وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب، مما يتلى عليهم في هذا القرآن، ما فيه مزدجر أي: ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب.
وقوله: حكمة بالغة أي: في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله، فما تغن النذر يعني : أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على قلبه؟ فمن الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ الأنعام : 149 ]، وكذا قوله تعالى: وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ يونس : 101 ].
< 7-476 >
فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر (6)
خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (7) مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر (8) .
يقول تعالى: فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضون ويقولون: هذا سحر مستمر، أعرض عنهم وانتظرهم، يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر أي: إلى شيء منكر فظيع، وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء، بل والزلازل والأهوال، خشعا أبصارهم أي: ذليلة أبصارهم يخرجون من الأجداث وهي: القبور، كأنهم جراد منتشر أي: كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر في الآفاق؛ ولهذا قال: مهطعين أي: مسرعين إلى الداعي ، لا يخالفون ولا يتأخرون، يقول الكافرون هذا يوم عسر أي: يوم شديد الهول عبوس قمطرير فذلك يومئذ يوم عسير . على الكافرين غير يسير [ المدثر : 9 ، 10 ].
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9) فدعا ربه أني مغلوب فانتصر (10) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر (14) ولقد تركناها آية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17) .
يقول تعالى: كذبت قبل قومك يا محمد قوم نوح فكذبوا عبدنا أي: صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون، وقالوا مجنون وازدجر قال مجاهد: وازدجر أي: استطير جنونا. وقيل: وازدجر أي: انتهروه وزجروه وأوعدوه: لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين [ الشعراء : 116 ]. قاله ابن زيد، وهذا متوجه حسن.
فدعا ربه أني مغلوب فانتصر أي: إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فانتصر أنت لدينك . قال الله تعالى: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . قال السدي: هو الكثير وفجرنا الأرض عيونا أي: نبعت جميع أرجاء الأرض، حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيونا، فالتقى الماء أي: من السماء ومن الأرض على أمر قد قدر أي: أمر مقدر.
قال ابن جريج، عن ابن عباس: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر كثير، لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده، ولا من السحاب؛ فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، فالتقى الماءان على أمر قد قدر.
وروى ابن أبي حاتم أن ابن الكواء سأل عليا عن المجرة فقال: هي شرج السماء، ومنها فتحت < 7-477 > السماء بماء منهمر.
وحملناه على ذات ألواح ودسر : قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والقرظي، وقتادة، وابن زيد: هي المسامير، واختاره ابن جرير، قال: وواحدها دسار، ويقال: دسير، كما يقال: حبيك وحباك، والجمع حبك.
وقال مجاهد: الدسر: أضلاع السفينة. وقال عكرمة والحسن: هو صدرها الذي يضرب به الموج.
وقال الضحاك: الدسر: طرفها وأصلها.
وقال العوفي عن ابن عباس: هو كلكلها.
وقوله: تجري بأعيننا أي: بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا جزاء لمن كان كفر أي جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصارا لنوح، عليه السلام.
وقوله: ولقد تركناها آية قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة. والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن، كقوله تعالى: وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون . وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ يس : 41، 42 ]. وقال إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية . لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية [ الحاقة : 11، 12]؛ ولهذا قال ها هنا: فهل من مدكر أي: فهل من يتذكر ويتعظ؟
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن ابن مسعود، قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل من مدكر فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن، مدكر أو مذكر؟ قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدكر
وهكذا رواه البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم: فهل من مذكر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهل من مدكر
وروى البخاري أيضا من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: فهل من مدكر .
وقال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير، عن أبي إسحاق؛ أنه سمع رجلا يسأل الأسود: فهل من مدكر أو مذكر ؟ قال: سمعت عبد الله يقرأ: فهل من مدكر . وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها: فهل من مدكر دالا.
< 7-478 >
وقد أخرج مسلم هذا الحديث وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث أبي إسحاق .
وقوله: فكيف كان عذابي ونذر أي: كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ولم يتعظ بما جاءت به نذري، وكيف انتصرت لهم، وأخذت لهم بالثأر.
ولقد يسرنا القرآن للذكر أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه لمن أراده، ليتذكر الناس. كما قال: كتاب أنـزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ ص : 29 ] ، وقال تعالى: فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ مريم : 97 ].
قال مجاهد: ولقد يسرنا القرآن للذكر يعني: هونا قراءته.
وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن.
وقال الضحاك عن ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله، عز وجل.
قلت: ومن تيسيره، تعالى، على الناس تلاوة القرآن ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هذا القرآن أنـزل على سبعة أحرف". وأوردنا الحديث بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد والمنة.
وقوله: فهل من مدكر أي: فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه؟
وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منـزجر عن المعاصي؟
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن رافع، حدثنا ضمرة ، عن ابن شوذب، عن مطر -هو الوراق-في قوله تعالى: فهل من مدكر هل من طالب علم فيعان عليه؟
وكذا علقه البخاري بصيغة الجزم، عن مطر الوراق و[كذا] رواه ابن جرير ، وروي عن قتادة مثله.
كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18) إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19) تنـزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (20) فكيف كان عذابي ونذر (21) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (22) .
يقول تعالى مخبرا عن عاد قوم هود: إنهم كذبوا رسولهم أيضا، كما صنع قوم نوح، وأنه تعالى < 7-479 > أرسل عليهم ريحا صرصرا ، وهي الباردة الشديدة البرد، في يوم نحس أي: عليهم. قاله الضحاك، وقتادة، والسدي. مستمر عليهم نحسه ودماره؛ لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي.
وقوله: تنـزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار، ثم تنكسه على أم رأسه، فيسقط إلى الأرض، فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس؛ ولهذا قال: كأنهم أعجاز نخل منقعر . فكيف كان عذابي ونذر . ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر .
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 529
529 : تفسير الصفحة رقم 529 من القرآن الكريمسورة القمر
وهي مكية.
قد تقدم في حديث أبي واقد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف، واقتربت الساعة، في الأضحى والفطر، وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار، لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد وإثبات النبوات، وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (2) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر (3) ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بالغة فما تغن النذر (5)
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها. كما قال تعالى: أتى أمر الله فلا تستعجلوه [سبحانه ] [ النحل : 1 ]، وقال: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ الأنبياء : 1 ] وقد وردت الأحاديث بذلك، قال الحافظ أبو بكر البزار:
حدثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي قالا حدثنا خلف بن موسى، حدثني أبي، عن قتادة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم، وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا شف يسير، فقال: "والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه، وما نرى من الشمس إلا يسيرا" .
قلت: هذا حديث مداره على خلف بن موسى بن خلف العمي، عن أبيه. وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ.
حديث آخر يعضد الذي قبله ويفسره، قال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا شريك، حدثنا سلمة بن كهيل، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان بعد العصر، فقال: "ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى" .
< 7-471 >
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين، حدثنا محمد بن مطرف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بعثت والساعة هكذا". وأشار بإصبعيه: السبابة والوسطى.
أخرجاه من حديث أبي حازم سلمة بن دينار .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن أبي خالد، عن وهب السوائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقها " وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنتم والساعة كهاتين".
تفرد به أحمد، رحمه الله . وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز بن أسد، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غزوان -قال بهز: وقال قبل هذه المرة-خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا، والله لتملؤنه، أفعجبتم! والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ الزحام" وذكر تمام الحديث، انفرد به مسلم .
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب، حدثني ابن علية، أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نـزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ، فجاءت الجمعة، فحضر أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال: ألا إن الله يقول: اقتربت الساعة وانشق القمر ، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار، وغدا السباق، فقلت لأبي: أيستبق الناس غدا؟ فقال: يا بني إنك لجاهل، إنما هو السباق بالأعمال. < 7-472 > ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرنا فخطب حذيفة، فقال: ألا إن الله، عز وجل يقول: اقتربت الساعة وانشق القمر ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سبق إلى الجنة .
وقوله: وانشق القمر : قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: "خمس قد مضين: الروم، والدخان، واللزام، والبطشة، والقمر" . وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أي انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك:
رواية أنس بن مالك:
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين، فقال: اقتربت الساعة وانشق القمر .
ورواه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق .
وقال البخاري: حدثني عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك؛ أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حراء بينهما .
وأخرجاه أيضا من حديث يونس بن محمد المؤدب، عن شيبان، عن قتادة . ورواه مسلم أيضا من حديث أبي داود الطيالسي، ويحيى القطان، وغيرهما، عن شعبة، عن قتادة، به .
رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد. فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه، وأسنده البيهقي في "الدلائل" من طريق محمد بن كثير، < 7-473 > عن أخيه سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن، [به] . وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره، عن حصين، به . ورواه البيهقي أيضا من طريق إبراهيم بن طهمان وهشيم، كلاهما عن حصين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده فذكره .
رواية عبد الله بن عباس [رضي الله عنهما]
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا بكر، عن جعفر، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: انشق القمر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ورواه البخاري أيضا ومسلم، من حديث بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك [بن مالك] ، به مثله .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود بن أبي هند، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: اقتربت الساعة وانشق القمر . وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقيه.
وروى العوفي، عن ابن عباس نحو هذا.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو البزار، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر. فنـزلت: اقتربت الساعة وانشق القمر إلى قوله: مستمر .
رواية عبد الله بن عمر:
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين: فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد".
< 7-474 >
وهكذا رواه مسلم، والترمذي، من طرق عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، به . قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود. وقال الترمذي: حسن صحيح.
رواية عبد الله ابن مسعود:
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشهدوا".
وهكذا رواه البخاري ومسلم، من حديث سفيان بن عيينة، به . وأخرجاه من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة، عن ابن مسعود، به .
وقال ابن جرير: حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، حدثنا عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن رجل، عن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر، فأخذت فرقة خلف الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا، اشهدوا" .
قال البخاري: وقال أبو الضحى، عن مسروق، عن عبد الله: بمكة .
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة. قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. قال: فجاء السفار فقالوا: ذلك .
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش أهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به. قال: فسئل السفار، قال: وقدموا من كل وجهة، فقالوا: رأيناه.
رواه ابن جرير من حديث المغيرة، به . وزاد: فأنـزل الله عز وجل: اقتربت الساعة وانشق القمر . ثم قال ابن جرير:
< 7-475 >
حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب، عن محمد -هو ابن سيرين-قال: نبئت أن ابن مسعود، رضي الله عنه، كان يقول: لقد انشق القمر .
وقال ابن جرير أيضا: حدثني محمد بن عمارة، حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله قال: لقد رأيت الجبل من فرج القمر حين انشق.
ورواه الإمام أحمد عن مؤمل، عن إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر .
وقال ليث عن مجاهد: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "اشهد يا أبا بكر". فقال المشركون: سحر القمر حتى انشق .
وقوله: وإن يروا آية أي: دليلا وحجة وبرهانا يعرضوا أي: لا ينقادون له، بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم، ويقولوا سحر مستمر أي: ويقولون: هذا الذي شاهدناه من الحجج، سحر سحرنا به.
ومعنى مستمر أي: ذاهب. قاله مجاهد، وقتادة، وغيرهما، أي: باطل مضمحل، لا دوام له.
وكذبوا واتبعوا أهواءهم أي: كذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم.
وقوله: وكل أمر مستقر قال قتادة: معناه: أن الخير واقع بأهل الخير، والشر واقع بأهل الشر.
وقال ابن جريج: مستقر بأهله. وقال مجاهد: وكل أمر مستقر أي: يوم القيامة.
وقال السدي: مستقر أي: واقع.
وقوله: ولقد جاءهم من الأنباء أي: من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل، وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب، مما يتلى عليهم في هذا القرآن، ما فيه مزدجر أي: ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب.
وقوله: حكمة بالغة أي: في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله، فما تغن النذر يعني : أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على قلبه؟ فمن الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ الأنعام : 149 ]، وكذا قوله تعالى: وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ يونس : 101 ].
< 7-476 >
فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر (6)
خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (7) مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر (8) .
يقول تعالى: فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضون ويقولون: هذا سحر مستمر، أعرض عنهم وانتظرهم، يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر أي: إلى شيء منكر فظيع، وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء، بل والزلازل والأهوال، خشعا أبصارهم أي: ذليلة أبصارهم يخرجون من الأجداث وهي: القبور، كأنهم جراد منتشر أي: كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر في الآفاق؛ ولهذا قال: مهطعين أي: مسرعين إلى الداعي ، لا يخالفون ولا يتأخرون، يقول الكافرون هذا يوم عسر أي: يوم شديد الهول عبوس قمطرير فذلك يومئذ يوم عسير . على الكافرين غير يسير [ المدثر : 9 ، 10 ].
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9) فدعا ربه أني مغلوب فانتصر (10) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر (14) ولقد تركناها آية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17) .
يقول تعالى: كذبت قبل قومك يا محمد قوم نوح فكذبوا عبدنا أي: صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون، وقالوا مجنون وازدجر قال مجاهد: وازدجر أي: استطير جنونا. وقيل: وازدجر أي: انتهروه وزجروه وأوعدوه: لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين [ الشعراء : 116 ]. قاله ابن زيد، وهذا متوجه حسن.
فدعا ربه أني مغلوب فانتصر أي: إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فانتصر أنت لدينك . قال الله تعالى: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . قال السدي: هو الكثير وفجرنا الأرض عيونا أي: نبعت جميع أرجاء الأرض، حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيونا، فالتقى الماء أي: من السماء ومن الأرض على أمر قد قدر أي: أمر مقدر.
قال ابن جريج، عن ابن عباس: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر كثير، لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده، ولا من السحاب؛ فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، فالتقى الماءان على أمر قد قدر.
وروى ابن أبي حاتم أن ابن الكواء سأل عليا عن المجرة فقال: هي شرج السماء، ومنها فتحت < 7-477 > السماء بماء منهمر.
وحملناه على ذات ألواح ودسر : قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والقرظي، وقتادة، وابن زيد: هي المسامير، واختاره ابن جرير، قال: وواحدها دسار، ويقال: دسير، كما يقال: حبيك وحباك، والجمع حبك.
وقال مجاهد: الدسر: أضلاع السفينة. وقال عكرمة والحسن: هو صدرها الذي يضرب به الموج.
وقال الضحاك: الدسر: طرفها وأصلها.
وقال العوفي عن ابن عباس: هو كلكلها.
وقوله: تجري بأعيننا أي: بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا جزاء لمن كان كفر أي جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصارا لنوح، عليه السلام.
وقوله: ولقد تركناها آية قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة. والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن، كقوله تعالى: وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون . وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ يس : 41، 42 ]. وقال إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية . لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية [ الحاقة : 11، 12]؛ ولهذا قال ها هنا: فهل من مدكر أي: فهل من يتذكر ويتعظ؟
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن ابن مسعود، قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل من مدكر فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن، مدكر أو مذكر؟ قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدكر
وهكذا رواه البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم: فهل من مذكر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهل من مدكر
وروى البخاري أيضا من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: فهل من مدكر .
وقال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير، عن أبي إسحاق؛ أنه سمع رجلا يسأل الأسود: فهل من مدكر أو مذكر ؟ قال: سمعت عبد الله يقرأ: فهل من مدكر . وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها: فهل من مدكر دالا.
< 7-478 >
وقد أخرج مسلم هذا الحديث وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث أبي إسحاق .
وقوله: فكيف كان عذابي ونذر أي: كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ولم يتعظ بما جاءت به نذري، وكيف انتصرت لهم، وأخذت لهم بالثأر.
ولقد يسرنا القرآن للذكر أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه لمن أراده، ليتذكر الناس. كما قال: كتاب أنـزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ ص : 29 ] ، وقال تعالى: فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ مريم : 97 ].
قال مجاهد: ولقد يسرنا القرآن للذكر يعني: هونا قراءته.
وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن.
وقال الضحاك عن ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله، عز وجل.
قلت: ومن تيسيره، تعالى، على الناس تلاوة القرآن ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هذا القرآن أنـزل على سبعة أحرف". وأوردنا الحديث بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد والمنة.
وقوله: فهل من مدكر أي: فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه؟
وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منـزجر عن المعاصي؟
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن رافع، حدثنا ضمرة ، عن ابن شوذب، عن مطر -هو الوراق-في قوله تعالى: فهل من مدكر هل من طالب علم فيعان عليه؟
وكذا علقه البخاري بصيغة الجزم، عن مطر الوراق و[كذا] رواه ابن جرير ، وروي عن قتادة مثله.
كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18) إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19) تنـزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (20) فكيف كان عذابي ونذر (21) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (22) .
يقول تعالى مخبرا عن عاد قوم هود: إنهم كذبوا رسولهم أيضا، كما صنع قوم نوح، وأنه تعالى < 7-479 > أرسل عليهم ريحا صرصرا ، وهي الباردة الشديدة البرد، في يوم نحس أي: عليهم. قاله الضحاك، وقتادة، والسدي. مستمر عليهم نحسه ودماره؛ لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي.
وقوله: تنـزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار، ثم تنكسه على أم رأسه، فيسقط إلى الأرض، فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس؛ ولهذا قال: كأنهم أعجاز نخل منقعر . فكيف كان عذابي ونذر . ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر .
الصفحة رقم 529 من المصحف تحميل و استماع mp3