تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 530 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 530

530 : تفسير الصفحة رقم 530 من القرآن الكريم

 كذبت ثمود بالنذر (23) فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر (24) أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر (25) سيعلمون غدا من الكذاب الأشر (26) إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر (27) .

ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر (28) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر (29) فكيف كان عذابي ونذر (30) إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر (31) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (32) .

وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا، فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر ، يقولون: لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كلنا قيادنا لواحد منا!

ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم، ثم رموه بالكذب فقالوا: بل هو كذاب أشر أي: متجاوز في حد الكذب. قال الله تعالى: سيعلمون غدا من الكذاب الأشر وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد.

ثم قال تعالى: إنا مرسلو الناقة فتنة لهم أي: اختبارا لهم؛ أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء من صخرة صماء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح، عليه السلام، فيما جاءهم به.

ثم قال آمرا لعبده ورسوله صالح: فارتقبهم واصطبر أي: انتظر ما يؤول إليه أمرهم، واصبر عليهم، فإن العاقبة لك والنصر لك في الدنيا والآخرة، ونبئهم أن الماء قسمة بينهم أي: يوم لهم ويوم للناقة؛ كقوله: قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم [الشعراء : 155].

وقوله: كل شرب محتضر قال مجاهد: إذا غابت حضروا الماء، وإذا جاءت حضروا اللبن.

ثم قال تعالى: فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر قال المفسرون: هو عاقر الناقة، واسمه قدار بن سالف، وكان أشقى قومه. كقوله: إذ انبعث أشقاها [ الشمس :12 ]. فتعاطى أي: فجسر

فعقر . فكيف كان عذابي ونذر أي: فعاقبتهم، فكيف كان عقابي [لهم] على كفرهم بي < 7-480 > وتكذيبهم رسولي؟ إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر أي: فبادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات. قاله غير واحد من المفسرين. والمحتظر -قال السدي-: هو المرعى بالصحراء حين يبيس وتحرق ونسفته الريح.

وقال ابن زيد: كانت العرب يجعلون حظارا على الإبل والمواشي من يبيس الشوك، فهو المراد من قوله: كهشيم المحتظر .

وقال سعيد بن جبير: كهشيم المحتظر : هو التراب المتناثر من الحائط. وهذا قول غريب، والأول أقوى، والله أعلم.

كذبت قوم لوط بالنذر (33) إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر (34) نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر (35) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر (36) ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر (37) ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر (38) فذوقوا عذابي ونذر (39) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (40) .

يقول تعالى مخبرا عن قوم لوط كيف كذبوا رسولهم وخالفوه، وارتكبوا المكروه من إتيان الذكور، وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين؛ ولهذا أهلكهم الله هلاكا لم يهلكه أمة من الأمم، فإنه تعالى أمر جبريل، عليه السلام، فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها، وأتبعت بحجارة من سجيل منضود؛ ولهذا قال هاهنا. إنا أرسلنا عليهم حاصبا وهي: الحجارة، إلا آل لوط نجيناهم بسحر أي: خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم، ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ولا رجل واحد حتى ولا امرأته، أصابها ما أصاب قومها، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسسه سوء؛ ولهذا قال تعالى: كذلك نجزي من شكر . ولقد أنذرهم بطشتنا أي: ولقد كان قبل حلول العذاب بهم قد أنذرهم بأس الله وعذابه، فما التفتوا إلى ذلك، ولا أصغوا إليه، بل شكوا فيه وتماروا به، ولقد راودوه عن ضيفه وذلك ليلة ورد عليه الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل في صورة شباب مرد حسان محنة من الله بهم، فأضافهم لوط [عليه السلام] وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها، فأعلمتهم بأضياف لوط، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، وذلك عشية، ولوط، عليه السلام، يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، ويقول لهم: هؤلاء بناتي يعني: نساءهم، إن كنتم فاعلين [ الحجر:71 ] قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق أي: ليس لنا فيهن أرب، وإنك لتعلم ما نريد [ هود:79 ] فلما اشتد الحال وأبوا إلا الدخول، خرج عليهم جبريل، عليه السلام، فضرب أعينهم بطرف جناحه، فانطمست أعينهم. يقال: إنها غارت من وجوههم. < 7-481 > وقيل: إنه لم تبق لهم عيون بالكلية، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطا، عليه السلام، إلى الصباح.

قال الله تعالى: ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر أي: لا محيد لهم عنه، ولا انفكاك لهم منه، فذوقوا عذابي ونذر . ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر .

ولقد جاء آل فرعون النذر (41) كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر (42) أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر (43) أم يقولون نحن جميع منتصر (44) سيهزم الجمع ويولون الدبر (45) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر (46) .

يقول تعالى مخبرا عن فرعون وقومه إنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون بالبشارة إن آمنوا، والنذارة إن كفروا، وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة، فكذبوا بها كلها، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، أي: فأبادهم الله ولم يبق منهم مخبرا ولا عينا ولا أثرا.

ثم قال: أكفاركم أي: أيها المشركون من كفار قريش خير من أولئكم يعني: من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب: أأنتم خير أم أولئك؟ أم لكم براءة في الزبر أي: أم معكم من الله براءة ألا ينالكم عذاب ولا نكال؟ .

ثم قال مخبرا عنهم: أم يقولون نحن جميع منتصر أي: يعتقدون أنهم مناصرون بعضهم بعضا، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء، قال الله تعالى: سيهزم الجمع ويولون الدبر أي: سيتفرق شملهم ويغلبون.

قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا خالد، عن خالد -وقال أيضا: حدثنا محمد، حدثنا عفان بن مسلم، عن وهيب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو في قبة له يوم بدر-: "أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا". فأخذ أبو بكر، رضي الله عنه، بيده وقال: حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك. فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر . بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر .

وكذا رواه البخاري والنسائي في غير موضع، من حديث خالد -وهو مهران الحذاء-به .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد عن أيوب، عن عكرمة، قال: لما نـزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر [قال] قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع < 7-482 > يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر فعرفت تأويلها يومئذ .

وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف؛ أن ابن جريج أخبرهم: أخبرني يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين، قالت: نـزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة -وإني لجارية ألعب- بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر هكذا رواه ها هنا مختصرا . ورواه في فضائل القرآن مطولا ، ولم يخرجه مسلم.

إن المجرمين في ضلال وسعر (47) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شيء خلقناه بقدر (49) .

وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر (50) ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر (51) وكل شيء فعلوه في الزبر (52) وكل صغير وكبير مستطر (53) إن المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر (55)

يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق، وسعر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق.

ثم قال: يوم يسحبون في النار على وجوههم أي: كما كانوا في سعر وشك وتردد أورثهم ذلك النار، وكما كانوا ضلالا سحبوا فيها على وجوههم، لا يدرون أين يذهبون، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: ذوقوا مس سقر .

وقوله: إنا كل شيء خلقناه بقدر ، كقوله: وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ الفرقان:2 ] وكقوله: سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى [ الأعلى :1-3 ] أي: قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه؛ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة. وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح "كتاب الإيمان" من "صحيح البخاري" رحمه الله، ولنذكر هاهنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة:

قال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان الثوري، عن زياد بن إسماعيل السهمي، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنـزلت: يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر . إنا كل شيء خلقناه بقدر .

< 7-483 >

وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه، من حديث وكيع، عن سفيان الثوري، به .

وقال البزار: حدثنا عمرو بن على، حدثنا الضحاك بن مخلد، حدثنا يونس بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: ما نـزلت هذه الآيات: إن المجرمين في ضلال وسعر . يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر . إنا كل شيء خلقناه بقدر ، إلا في أهل القدر .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سهل بن صالح الأنطاكي، حدثني قرة بن حبيب، عن كنانة حدثنا جرير بن حازم، عن سعيد بن عمرو بن جعدة، عن ابن زرارة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية: ذوقوا مس سقر . إنا كل شيء خلقناه بقدر ، قال: "نـزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله" .

وحدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا مروان بن شجاع الجزري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: أتيت ابن عباس وهو ينـزع من زمزم، وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تكلم في القدر. فقال: أو [قد] فعلوها؟ قلت: نعم. قال: فوالله ما نـزلت هذه الآية إلا فيهم: ذوقوا مس سقر . إنا كل شيء خلقناه بقدر ، أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين.

وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر، وفيه مرفوع، فقال:

حدثنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، عن بعض إخوته، عن محمد بن عبيد المكي، عن عبد الله بن عباس، قال: قيل له: إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر فقال: دلوني عليه -وهو أعمى-قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج، تصطفق ألياتهن مشركات، هذا أول شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا" .

ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة، عن الأوزاعي، عن العلاء بن الحجاج، عن محمد بن عبيد، فذكر مثله . لم يخرجوه.

< 7-484 >

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني أبو صخر، عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه ، فكتب إليه عبد الله بن عمر: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر".

رواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل، به .

وقال أحمد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة، عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون: لا قدر. إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم" .

لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.

وقال أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا رشدين، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة مسخ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية".

ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث أبي صخر حميد بن زياد، به . وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن الطباع، أخبرني مالك، عن زياد بن سعد، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس اليماني قال: سمعت ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدرن حتى العجز والكيس".

ورواه مسلم منفردا به، من حديث مالك .

وفي الحديث الصحيح: "استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان" .

وفي حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم يكتبه الله لك، لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يكتبه الله عليك، لم يضروك. جفت الأقلام وطويت الصحف" .

< 7-485 >

وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن سوار، حدثنا الليث ، عن معاوية، عن أيوب بن زياد، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة، حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه، أوصني واجتهد لي. فقال: أجلسوني. فلما أجلسوه قال: يا بني، إنك لما تطعم طعم الإيمان، ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم. ثم قال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" يا بني، إن مت ولست على ذلك دخلت النار .

ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البلخي، عن أبي داود الطيالسي، عن عبد الواحد بن سليم، عن عطاء بن أبي رباح، عن الوليد بن عبادة، عن أبيه، به. وقال: حسن صحيح غريب .

وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن ربعي بن خراش، عن رجل، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره".

وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شميل، عن شعبة، عن منصور، به . ورواه من حديث أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن علي، فذكره وقال: "هذا عندي أصح". وكذا رواه ابن ماجه من حديث شريك، عن منصور، عن ربعي، عن علي، به .

وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره، عن أبي هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" زاد ابن وهب: وكان عرشه على الماء [هود: 7]. ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب .

وقوله: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر . وهو إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه كما أخبر < 7-486 > بنفوذ قدره فيهم، فقال: وما أمرنا إلا واحدة أي: إنما نأمر بالشيء مرة واحدة، لا نحتاج إلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلا موجودا كلمح البصر ، لا يتأخر طرفة عين، وما أحسن ما قال بعض الشعراء:

إذا مــا أراد اللــه أمــرا فإنمـا

يقـــول لـــه: كــن , قولــة فيكون

وقوله: ولقد أهلكنا أشياعكم يعني: أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، فهل من مدكر أي: فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك، وقدر لهم من العذاب، كما قال: وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل [ سبأ : 54 ].

وقوله: وكل شيء فعلوه في الزبر أي: مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام، وكل صغير وكبير أي: من أعمالهم مستطر أي: مجموع عليهم، ومسطر في صحائفهم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك: سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير، حدثني عوف بن الحارث -وهو ابن أخي عائشة لأمها-عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يا عائشة، إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا".

ورواه النسائي وابن ماجه، من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني . وثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وغيرهم.

وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر ، ثم قال سعيد: فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي: ويحك يا سعيد بن مسلم! لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره، فأتاه آت في منامه فقال له: يا سليمان:

لا تحــقرن مـن الذنـوب صغـيـرا

إن الصغـير غــدا يعــود كبيـرا

إن الصغــير ولــو تقـادم عهـده

عنــد الإلــه مســطر تســطيـرا

فـازجر هـواك عـن البطالـة لا تكن

صعـــب القيـاد وشـمرن تشميرا

إن المحـــب إذا أحـــب إلهــه

طــار الفــؤاد وألهــم التفكـيــرا

فاســأل هــدايتك الإلــه بنيــة

فكــفى بــربك هاديــا ونصـيرا

< 7-487 >

وقوله: إن المتقين في جنات ونهر أي: بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسعر والسحب في النار على وجوههم، مع التوبيخ والتقريع والتهديد.

وقوله: في مقعد صدق أي: في دار كرامة الله ورضوانه وفضله، وامتنانه وجوده وإحسانه، عند مليك مقتدر أي: عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون؛ وقد قال الإمام أحمد:

حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو -يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم-قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا".

انفرد بإخراجه مسلم والنسائي، من حديث سفيان بن عيينة، بإسناده مثله .

آخر تفسير سورة "اقتربت"، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة