تفسير الطبري تفسير الصفحة 529 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 529
530
528
 الآية : 9-10
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبّهُ أَنّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ }.
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره, وتهديد للمشركين من أهل مكة وسائر من أرْسَلَ إليه رسولَه محمدا صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه, وتقدم منه إليهم إن هم لم ينيبوا من تكذيبهم إياه, أنه محلّ بهم ما أحل بالأمم الذين قصّ قصصهم في هذه السورة من الهلاك والعذاب, ومنجّ نبيه محمدا والمؤمنين به, كما نجّى من قبله الرسل وأتباعهم من نقمه التي أحلّها بأممهم, فقال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كذّبت يا محمد قبل هؤلاء الذين كذّبوك من قومك, الذين إذا رأوْا آية أعرضوا وقالوا سحر مستمرّ, قوم نوح, فكذبوا عبدنا نوحا إذ أرسلناه إليهم, كما كذّبتك قريش إذ أتيتهم بالحقّ من عندنا وقالوا: هو مجنون وازدجر, وهو افْتُعِل من زجرت, وكذا تفعل العرب بالحرف إذا كان أوّله زايا صيروا تاء الافتعال منه دالاً من ذلك قولهم: ازدجر من زجرت, وازدلف من زلفت, وازديد من زدت.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ الذي زَجَروه, فقال بعضهم: كان زجرهم إياه أن قالوا: استُطِير جنونا. ذكر من قال ذلك:
25323ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ قال: استطير جنونا.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَازْدَجِرْ قال: استُطير جنونا.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد في هذه الاَية وَقالُوا مَجْنُونٍ وَازْدُجِرَ قال: استعر جنونا.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا زيد بن الحباب, قال: وأخبرني شعبة بن الحجاج, عن الحكم, عن مجاهد, مثله.
وقال آخرون: بل كان زجرهم إياه, وعيدهم له بالشتم والرجم بالقول القبيح. ذكر من قال ذلك:
25324ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ قال: اتهموه وزجروه وأوعدوه لئن لم يفعل ليكوننّ من المرجومين, وقرأ لَئِنْ لَم تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ المَرْجُومِينَ.
وقوله: فَدَعا رَبّهُ أني مَغْلُوبٌ فانْتَصِرْ يقول تعالى ذكره: فدعا نوح ربه: إن قومي قد غلبوني, تمرّدا وَعتوّا, ولا طاقة لي بهم, فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.
الآية : 11-12
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السّمَآءِ بِمَاءٍ مّنْهَمِرٍ * وَفَجّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَىَ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ }.
يقول تعالى ذكره: فَفَتَحْنا لما دعانا نوح مستغيثا بنا على قومه أبْوَابَ السّماءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وهو المندفق, كما قال امرؤ القيس في صفة غيث:
رَاحَ تَمْرِيه الصّبا ثُمّ انْتَحَىفِيهِ شُؤْبُوبُ جنوبٍ مُنْهَمِرْ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
25325ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ قال: ينصبّ انصبابا.
وقوله: وَفَجّرْنا الأرْضَ عُيُونا يقول جلّ ثناؤه: وأسلنا الأرض عيون الماء. كما:
25326ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, في قوله: وَفَجّرْنا الأرْضَ عُيُونا قال: فجّرنا الأرض الماءَ وجاء من السماء.
فالْتَقَى المَاءُ على أمْرٍ قَدْ قُدرْ يقول تعالى ذكره: فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره الله وقضاه, كما:
25327ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان فالْتَقَى المَاءُ على أمْرٍ قَدْ قُدِرْ قال: ماء السماء وماء الأرض. وإنما قيل: فالتقى الماء على أمر قد قدر, والالتقاء لا يكون من واحد, وإنما يكون من اثنين فصاعدا, لأن الماء قد يكون جمعا وواحدا, وأريد به في هذا الموضع: مياه السماء ومياه الأرض, فخرج بلفظ الواحد ومعناه الجمع. وقيل: التقى الماء على أمر قد قُدر, لأن ذلك كان أمرا قد قضاه الله في اللوح المحفوظ. كما:
25328ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب قال: كانت الأقوات قبل الأجساد, وكان القدر قبل البلاء, وتلا فالْتَقَى المَاءُ على أمْرٍ قَدْ قُدِرَ.
الآية : 13-14
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَىَ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لّمَن كَانَ كُفِرَ }.
يقول تعالى ذكره: وحملنا نوحا إذ التقى الماء على أمر قد قُدر, على سفينة ذات ألواح ودُسُر. والدسر: جمع دسار وقد يقال في واحدها: دسير, كما يقال: حَبِيك وحِباك والدّسار: المسمار الذي تشدّ به السفينة يقال منه: دسرت السفينة إذا شددتها بمسامير أو غيرها.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك, فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك:
25329ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, أخبرني ابن لَهِيعة, عن أبي صخر, عن القُرَظي, وسُئل عن هذه الاَية وَحَمَلْناهُ على ذَاتِ ألْوَاح ودُسُر قال: الدّسُر: المسامير.
25330ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَحَمَلْناهُ على ذَاتِ ألْوَاحٍ ودُسُرٍ حدثنا أن دُسُرَها: مساميرها التي شُدّت بها.
25331ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: ذَاتِ ألْوَاحٍ قال: معاريض السفينة قال: ودُسُر: قال دُسِرت بمسامير.
25332ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَدُسُر قال: الدسر: المسامير التي دُسرت بها السفينة, ضُربت فيها, شُدّت بها.
25333ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَدُسُرٍ يقول: المسامير.
وقال آخرون: بل الدّسُر: صَدْر السفينة, قالوا: وإنما وصف بذلك لأنه يدفع الماء ويَدْسُرُه. ذكر من قال ذلك:
25334ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله: وحَمَلْناهُ على ذَاتِ ألْوَاحٍ ودُسُرٍ قال: تدسُر الماء بصدرها, أو قال: بِجُؤْجُؤِها.
حدثنا بشر. قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان الحسن يقول في قوله: وَدُسُرٍ جؤجؤها تَدْسُرُ به الماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن أنه قال: تدسر الماء بصدرها.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَدُسُرٍ قال: الدّسُر: كَلْكَل السفينة.
وقال آخرون: الدسر: عوارض السفينة. ذكر من قال ذلك:
25335ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن الحصين, عن مجاهد ذَاتِ ألْوَاحٍ وَدُسُرٍ قال: ألواح السفينة ودسر عوارضها.
وقال آخرون: الألواح: جانباها, والدّسُر: طرفاها. ذكر من قال ذلك:
25336ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ذَاتِ ألْوَاحٍ وَدُسُرٍ أما الألواح: فجانبا السفينة. وأما الدّسُر: فطرفاها وأصلاها.
وقال آخرون: بل الدّسُر: أضلاع السفينة. ذكر من قال ذلك:
25337ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن نجيح, عن مجاهد, قوله: وَدُسُرٍ قال: أضلاع السفينة.
وقوله: تَجْرِي بأعْيُنِنا يقول جلّ ثناؤه: تجري السفينة التي حملنا نوحا فيها بمرأى منا ومنظر. وذُكر عن سفيان في تأويل ذلك ما:
25338ـ حدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, في قوله: تَجْرِي بأعْيُنِنا يقول: بأمرنا جَزاءً لِمنْ كَان كُفِر.
اختلف أهل التأويل في تأويله: فقال بعضهم: تأويله فعلنا ذلك ثوابا لمن كان كُفر فيه, بمعنى: كفر بالله فيه. ذكر من قال ذلك:
25339ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: ثا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ قال: كَفَر بالله.
وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد جَزَاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ قال: لمن كان كفر فيه.
ووجه آخرون معنى «مَنْ» إلى معنى «ما» في هذا الموضع, وقالوا: معنى الكلام: جزاء لما كان كَفَر من أيادي الله ونَعمه عند الذين أهلكهم وغرّقهم من قوم نوح. ذكر من قال ذلك:
25340ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: جَزَاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ قال: لمن كان كفر نعم الله, وكفر بأياديه وآلائه ورسله وكتبه, فإن ذلك جزاء له.
والصواب من القول من ذلك عندي ما قاله مجاهد, وهو أن معناه: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر, وفجّرنا الأرض عيونا, فغرّقنا قوم نوح, ونجينا نوحا عقابا من الله وثوابا للذي جُحِد وكُفِر, لأن معنى الكفر: الجحود, والذي جحد ألوهته ووحدانتيه قوم نوح, فقال بعضهم لبعض: لا تَذرُنّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُونّ وَدّا ولا سُواعا ولاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ ونَسْرا, ومن ذهب به إلى هذا التأويل, كانت من الله, كأنه قيل: عوقبوا لله ولكفرهم به. ولو وَجّه مَوَجّه إلى أنها مراد بها نوح والمؤمنون به كان مذهبا, فيكون معنى الكلام حينئذٍ, فعلنا ذلك جزاء لنوح ولمن كان معه في الفلك, كأنه قيل: غرقناهم لنوح ولصنيعهم بنوح ما صنعوا من كفرهم به.
الآية : 15-17
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ }.
يقول تعالى ذكره: ولقد تركنا السفينة التي حملنا فيها نوحا ومن كان معه آية, يعني عِبْرة وعظة لمن بعد قوم نوح من الأمم ليعتبروا ويتعظوا, فينتهوا عن أن يسلكوا مسلكهم في الكفر بالله, وتكذيب رسله, فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
25341ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدّكِرٍ قال: أبقاها الله بباقَرْدي من أرض الجزيرة, عبرة وآية, حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة نظرا, وكم من سفينة كانت بعدها قد صارت رمادا.
25342ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً قال: ألقى الله سفينة نوح على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة.
25343ـ قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن مجاهد, أن الله حين غرّق الأرض, جعلت الجبال تشمخ, فتواضع الجوديّ, فرفعه الله على الجبال, وجعل قرار السفينة عليه.
وقوله: فَهَلْ مِنْ مُدّكِرٍ يقول: فهل من ذي تذكر يتذكر ما قد فعلنا بهذه الأمة التي كفرت بربها, وعصت رسوله نوحا, وكذّبته فيما أتاهم به عن ربهم من النصيحة, فيعتبر بهم, ويحذر أن يَحِلّ به من عذاب الله بكفره بربه, وتكذيبه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم, مثل الذي حلّ بهم, فيتيب إلى التوبة, ويراجع الطاعة. وأصل مدّكر: مفتعل من ذكر, اجتمعت فاء الفعل, وهي ذال, وتاء وهي بعد الذال, فصيرتا دالاً مشدّدة, وكذلك تفعل العرب فيما كان أوّله ذالا يتبعها تاء الافتعال يجعلونهما جميعا دالاً مشدّدة, فيقولون: ادّكرت ادّكارا, وإنما هو اذتكرت اذتكارا, وفهل من مذتكر, ولكن قيل: ادّكرت ومدّكر لما قد وصفت, قد ذُكر عن بعض بني أسد أنهم يقولون في ذلك مذّكر, فيقلبون الدال ويعتبرون الدال والتاء ذالاً مشددة, وذُكر عن الأسود بن يزيد أنه قال: قلت لعبد الله بن مسعود: فهل من مدّكر, أو مذّكر, فقال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُذّكر» يعني بذال مشددة. وبنحو الذي قلنا في ذلك أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
25344ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: فَهَلْ مِنْ مُدّكِرْ قال: المدّكر: الذي يتذكر, وفي كلام العرب: المدّكر: المتذكر.
25345ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان فَهَلْ مِنْ مُدّكِرٍ قال: فهل من مذّكر.
وقوله: فَكَيْفَ كانَ عَذَابِي ونُذُرْ يقول تعالى ذكره: فكيف كان عذابي لهؤلاء الذين كفروا بربهم من قوم نوح, وكذّبوا رسوله نوحا, إذ تمادوا في غيهم وضلالهم, وكيف كان إنذاري بما فعلت بهم من العقوبة التي أحللت بهم بكفرهم بربهم, وتكذيبهم رسوله نوحا, صلوات الله عليه, وهو إنذار لمن كفر من قومه من قريش, وتحذير منه لهم, أن يحلّ بهم على تماديهم في غيهم, مثل الذي حلّ بقوم نوح من العذاب.
وقوله: وَنُذُرِ يعني: وإنذاري, وهو مصدر.
وقوله: وَلَقَدْ يَسّرْنا القُرْآنَ للذّكْرِ يقول تعالى ذكره: ولقد سهّلنا القرآن, بيّناه وفصّلناه للذكر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ, وهوّناه. كما:
25346ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: يَسّرْنا القُرْآنَ للذّكْرِ قال: هوّناه.
25347ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلَقَدْ يَسّرْنا القُرْآنَ للذّكْرِ قال: يسّرنا: بيّنا.
وقوله: فَهَلْ مِنْ مُدّكِرْ يقول: فهل من معتبر متعظ يتذكر فيعتبر بما فيه من العبر والذكر.
وقد قال بعضهم في تأويل ذلك: هل من طالب علم أو خير فيُعان عليه, وذلك قريب المعنى مما قلناه, ولكنا اخترنا العبارة التي عبرناها في تأويله, لأن ذلك هو الأغلب من معانيه على ظاهره. ذكر من قال ذلك:
25348ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَلَقَدْ يَسّرْنا القُرْآنَ للذّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدّكِر يقول: فهل من طالب خير يُعان عليه.
حدثنا الحسين بن عليّ الصّدَائيّ, قال: حدثنا يعقوب, قال: ثني الحارث بن عبيد الإياديّ, قال: سمعت قتادة يقول في قول الله: فَهَلْ مِنْ مُدّكِرٍ قال: هل من طالب خير يُعان عليه.
25349ـ حدثنا عليّ بن سهل, قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة أو أيوب بن سويد أو كلاهما, عن ابن شَوْذَب, عن مطر, في قوله: وَلَقَدْ يَسّرْنا القُرْآنَ للذّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدّكِرٍ قال: هل من طالب علم فيعان عليه.
الآية : 18-21
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {كَذّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مّسْتَمِرّ * تَنزِعُ النّاسَ كَأَنّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }.
يقول تعالى ذكره: كذّبت أيضا عاد نبيهم هودا صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به عن الله, كالذي كذّبت قوم نوح, وكالذي كذّبتم مَعْشر قريش نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم وعلى جميع رسله, فَكَيْفَ كانَ عَذَابِي وَنُذُرِ يقول: فانظروا معشر كفرة قريش بالله كيف كان عذابي إياهم, وعقابي لهم على كفرهم بالله, وتكذيبهم رسوله هودا, وإنذاري بفعلي بهم ما فعلت من سلك طرائقهم, وكانوا على مثل ما كانوا عليه من التمادي في الغيّ والضلالة.
وقوله: إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا صَرْصَرا يقول تعالى ذكره: إنا بعثنا على عاد إذ تمادوا في طغيانهم وكفرهم بالله ريحا صرصرا, وهي الشديدة العصوف في برد, التي لصوتها صرير, وهي مأخوذة من شدة صوت هبوبها إذا سمع فيها كهيئة قول القائل: صرّ, فقيل منه: صرصر, كما قيل: فكبكبوا فيها, من فكبوا, ونَهْنَهْت من نَهَهْتُ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
25350ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: رِيحا صَرْصَرا قال: ريحا باردة.
25351ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا صَرْصَرا والصّرصر: الباردة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: الصّرصر: الباردة.
25352ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا مُعاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: رِيحا صَرْصَرا باردة.
25353ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان رِيحا صَرْصَرا قال: شديدة, والصرصر: الباردة.
25354ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: رِيحا صَرْصَرا قال: الصرصر: الشديدة.
وقوله: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرَ يقول: في يوم شرّ وشؤم لهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك, قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
25355ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: النّحْس: الشؤم.
25356ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فِي يَوْمِ نَحْسٍ قال النحس: الشرّ فِي يَوْمِ نَحْسٍ فِي يوم شرّ.
وقد تأوّل ذلك آخرون بمعنى شديد, ومن تأوّل ذلك كذلك فإنه يجعله من صفة اليوم, ومن جعله من صفة اليوم, فإنه ينبغي أن يكون قراءته بتنوين اليوم, وكسر الحاء من النّحْس, فيكون «فِي يَوْمٍ نَحِسٍ» كما قال جلّ ثناؤه فِي أيّامٍ نَحِساتٍ ولا أعلم أحدا قرأ ذلك كذلك في هذا الموضع, غير أن الرواية التي ذكرت في تأويل ذلك عمن ذكرت عنه على ما وصفنا تدلّ على أن ذلك كان قراءة. ذكر من قال ذلك:
25357ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: فِي يَوْمِ نَحْسٍ قال: أيام شداد.
25358ـ وحُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فِي يَوْمِ نَحْسٍ يوم شديد.
وقوله: مُسْتَمِرَ يقول: في يوم شرّ وشؤم, استمرّ بهم البلاء والعذاب فيه إلى أن وافى بهم جهنم. كما:
25359ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرَ يستمرّ بهم إلى نار جهنم.
وقوله: تَنْزِعُ النّاسَ كأنّهُمْ أعجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ يقول: تقتلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم, فتندقّ رقابهم, وتبين من أجسامهم. كما:
25360ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: لما هاجت الريح قام نفر من عاد سبعة شمَاليّا, منهم ستة من أشدّ عاد وأجسمها, منهم عمرو بن الحُلَيّ والحارث بن شداد والهلقام وابنا تيقن وخَلَجان بن أسعد, فأدلجوا العيال في شعب بين جبلين, ثم اصطفوا على باب الشعب ليردّوا الريح عمن بالشّعب من العِيال, فجعلت الريح تخفِقُهم رجلاً رجلاً, فقالت امرأة من عاد:
ذَهَبَ الدّهْرُ بَعَمْرِو بْنِ حُلَيَ والهَنِيّاتِ
ثُمّ بالحارِثِ والهِلْقامِ طَلاّعِ الثّنِيّاتِ
وَالّذِي سَدّ عَلَيْنا الرّيحَ أيّامَ البَلِيّاتِ
25361ـ حدثنا العباس بن الوليد البيروتيّ, قال: أخبرني أبي, قال: ثني إسماعيل بن عياش, عن محمد بن إسحاق قال: لما هبّت الريح قام سبعة من عاد, فقالوا: نردّ الريح, فأتوا فم الشعب الذي يأتي منه الريح, فوقفوا عليه, فجعلت الريح تهبّ, فتدخل تحت واحد واحد, فتقتلعه من الأرض فترمي به على رأسه, فتندقّ رقبته, ففعلت ذلك بستة منهم, وتركتهم كما قال الله: أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ وبقي الخَلَجان فأتى هودا فقال: يا هود ما هذا الذي أرى في السحاب كهيئة البخاتيّ؟ قال: تلك ملائكة ربي, قال: مالي إن أسلمت؟ قال: تَسْلَم, قال: أيُقيدني ربك إن أسلمت من هؤلاء؟ فقال: ويلك أرأيت مَلكا يقيد جنوده؟ فقال: وعزّته لو فعل ما رضيت. قال: ثم مال إلى جانب الجبل, فأخذ بركن منه فهزّه, فاهتزّ في يده, ثم جعل يقول:
لَمْ يَبْقَ إلاّ الخَلَجانُ نَفْسُهُيا لَكَ مِنْ يَوْمٍ دَهانِي أمْسُهُ
بِثابِتِ الوَطْءِ شَدِيدٍ وَطْسُهُلَوْ لَمْ يَجِئْنِي جِئْتُهُ أحُسّهُ
قال: ثم هبت الريح فألحقته بأصحابه.
25362ـ حدثني محمد بن إبراهيم, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا نوح بن قيس, قال: حدثنا محمد بن سيف, عن الحسن, قال: لما أقبلت الريح قام إليها قوم عاد, فأخذ بعضهم بأيدي بعض كما تفعل الأعاجم, وغمزوا أقدامهم في الأرض وقالوا: يا هود من يزيل أقدامنا عن الأرض إن كنت صادقا, فأرسل الله عليهم الريح فصيرتهم كأنهم أعجاز نخل مُنْقَعِر.
25363ـ حدثني محمد بن إبراهيم, قال: حدثنا مسلم, قال: حدثنا نوح بن قيس, قال: حدثنا أشعث بن جابر, عن شهر بن حوشب, عن أبي هريرة, قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراعين من حجارة, لو اجتمع عليها خمس مئة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يحملوها, وإن كان الرجل منهم ليغمز قدمه في الأرض, فتدخل في الأرض, وقال: كأنهم أعجاز نخل ومعنى الكلام: فيتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر, فترك ذكر فيتركهم استغناء بدلالة الكلام عليه. وقيل: إنما شبههم بأعجاز نخل منقعر, لأن رؤوسهم كانت تبين من أجسامهم, فتذهب لذلك رِقابهم, وتبقى أجسادهم. ذكر من قال ذلك:
25364ـ حدثنا الحسن بن عرفة, قال: حدثنا خلف بن خليفة, عن هلال بن خباب, عن مجاهد, في قوله: كأنّهُمْ أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ قال: سقطت رؤوسهم كأمثال الأخبية, وتفرّدت, أو وتَفَرّقت أعناقهم «قال أبو جعفر: أنا أشك», فشبهها بأعجاز نخلٍ منقعر.
25365ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: تَنْزِعُ النّاسَ كأنّهُم أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ قال: هم قوم عاد حين صرعتهم الريح, فكأنهم فِلَق نخل منقعر فَكَيْفَ كانَ عَذَابي وَنُذُرِ يقول تعالى ذكره: فانظروا يا معشر كفار قريش, كيف كان عذابي قوم عاد, إذ كفروا بربهم, وكذّبوا رسوله, فإن ذلك سنة الله في أمثالهم, وكيف كان إنذاري بهم مَنْ أنذرت.

الآية : 22-24
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ * كَذّبَتْ ثَمُودُ بِالنّذُرِ * فَقَالُوَاْ أَبَشَراً مّنّا وَاحِداً نّتّبِعُهُ إِنّآ إِذاً لّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ }.
يقول تعالى ذكره: ولقد سهّلنا القرآن وهوّناه لمن أراد التذكر به والاتعاظ فَهَلْ مِنْ مُدّكِرٍ يقول: فهل من متعظ ومنزجر بآياته.
وقوله: كَذّبَتْ ثَمُودُ بالنّذُرِ يقول تعالى ذكره: كذّبت ثمود قوم صالح بنذر الله التي أتتهم من عنده, فقالوا تكذيبا منهم لصالح رسول ربهم: أبشرا منا نتبعه نحن الجماعة الكبيرة, وهو واحد؟.
وقوله: إنّا إذا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يقول: قالوا: إنا إذا باتباعنا صالحا إن اتبعناه وهو بشر منا واحد لفي ضلال: يعنون: لفي ذهاب عن الصواب وأخذ على غير استقامة وسُعُر: يعنون بالسّعُر: جمع سَعير.
وكان قتادة يقول: عنى بالسّعُر: العناء.
25366ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّا إذا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ: في عناء وعذاب.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: إنّا إذا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ قال: ضلال وعناء.

الآية : 25-26
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَأُلْقِيَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مّنِ الْكَذّابُ الأشِرُ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل مكذّبي رسوله صالح صلى الله عليه وسلم من قومه ثمود: أألقي عليه الذكر من بيننا, يعنون بذلك: أنزل الوحي وخُصّ بالنبوّة من بيننا وهو واحد منا, إنكارا منهم أن يكون الله يُرسل رسولاً من بني آدم.
وقوله: بَلْ هُوَ كَذّابٌ أشِرٌ يقول: قالوا: ما ذلك كذلك, بل هو كذّاب أشر, يعنون بالأشر: المَرِح ذا التجبّر والكبرياء, والمَرِح من النشاط. وقد:
25367ـ حدثني الحسن بن محمد بن سعيد القرشيّ, قال: قلت لعبد الرحمن بن أبي حماد: ما الكذّاب الأشر؟ قال: الذي لا يبالي ما قال, وبكسر الشين من الأشِر وتخفيف الراء قرأت قرّاء الأمصار. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقرأه: «كَذّابٌ أشُرٌ» بضم الشين وتخفيف الراء, وذلك في الكلام نظير الحِذر والحذُر والعَجِل والعَجُل.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا, ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: سَيَعْلَمُونَ غَدا مَنِ الكَذّابُ الأَشِرُ يقول تعالى ذكره: قال الله لهم: ستعلمون غدا في القيامة من الكذّاب الأشر منكم معشر ثمود, ومن رسولنا صالح حين تردون على ربكم, وهذا التأويل تأويل من قرأه «سَتَعْلَمُونَ» بالتاء, وهي قراءة عامة أهل الكوفة سوى عاصم والكسائي. وأما تأويل ذلك على قراءة من قرأه بالياء, وهي قراءة عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وعاصم والكسائي, فإنه قال الله: سَيَعْلَمُونَ غَدا مَنِ الكَذّابُ الأشِرُ وترك من الكلام ذكر قال الله, استغناء بدلالة الكلام عليه.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان, قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, لتقارب معنييهما, وصحتهما في الإعراب والتأويل