تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 53 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 53

53 : تفسير الصفحة رقم 53 من القرآن الكريم

** أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىَ كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّىَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُمْ مّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ وَغَرّهُمْ فِي دِينِهِمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
يقول تعالى منكراً على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم, وهما التوراة والإنجيل, وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم, تولوا وهم معرضون عنهما, وهذا في غاية ما يكون من ذمهم والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد, ثم قال تعالى: {ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات} أي إنما حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة في الدنيا يوماً وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة. ثم قال تعالى: {وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} أي ثبتهم على دينهم الباطل, ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياماً معدودات, وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم واختلقوه ولم ينزل الله به سلطاناً, قال الله تعالى متهدداً لهم ومتوعداً {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} أي كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله, وكذبوا رسله, وقتلوا أنبياءه, والعلماء من قومهم, الاَمرين بالمعروف, والناهين عن المنكر,والله تعالى سائلهم عن ذلك كله ومحاسبهم عليه ومجازيهم به, ولهذا قال تعالى: {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} أي لا شك في وقوعه وكونه, {ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.

** قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
يقول تبارك وتعالى: {قل} يا محمد معظماً لربك وشاكراً له ومفوضاً إليه ومتوكلاً عليه {اللهم مالك الملك} أي لك الملك كله {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء} أي أنت المعطي, وأنت المانع, وأنت الذي ما شئت كان, وما لم تشأ لم يكن وفي هذه الاَية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة, لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي, خاتم الأنبياء على الإطلاق, ورسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن, الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله, وخصه بخصائص لم يعطها نبياً من الأنبياء, ولا رسولاً من الرسل في العلم با لله وشريعته, واطلاعه على الغيوب الماضية والاَتية, وكشفه له عن حقائق الاَخرة, ونشر أمته في الاَفاق في مشارق الأرض ومغاربها, وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع, فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار. ولهذا قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك} الاَية, أي أنت المتصرف في خلقك, الفعال لما تريد, كما رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}, قال الله رداً عليهم {أهم يقسمون رحمة ربك} الاَية, أي نحن نتصرف فيما خلقنا كما نريد بلا ممانع ولا مدافع, ولنا الحكمة البالغة, والحجة التامة في ذلك, وهكذا يعطي النبوة لمن يريد, كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} وقال تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} الاَية, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إسحاق بن أحمد من تاريخه, عن المأمون الخليفة, أنه رأى في قصر ببلاد الروم مكتوباً بالحميرية, فعرب له, فإذا هو بسم الله ما اختلف الليل والنهار, ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن ملك قد زال سلطانه إلى ملك. ومُلْكُ ذي العرش دائم أبداً ليس بفان ولا بمشترك. وقوله تعالى: {تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل} أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا, فيعتدلان, ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان, ثم يعتدلان, وهكذا في فصول السنة ربيعاً وصيفاً وخريفاً وشتاء, وقوله تعالى: {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي} أي تخرج الزرع من الحب, والحب من الزرع, والنخلة من النواة, والنواة من النخلة, والمؤمن من الكافر, والكافر من المؤمن, والدجاجة من البيضة, والبيضة من الدجاجة, وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء {وترزق من تشاء بغير حساب} أي تعطي من شئت من المال ما لا يعد ولا يقدر على إحصائه, وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل قال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي, حدثناجعفر بن جسْر بن فرقد, حدثنا أبي عن عمرو بن مالك, عن أبي الجوزاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الاَية من آل عمران {قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}.

** لاّ يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين, وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين, ثم توعد على ذلك, فقال تعالى: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء} أي ومن يرتكب نهي الله في هذا, فقد بريء من الله, كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ـ إلى أن قال ـ: ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السبيل}, وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين, أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبين}, وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض, ومن يتولهم منكم فإنه منهم} الاَية, وقال تعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} , وقوله تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} أي إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم, فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته, كما قال البخاري عن أبي الدرداء: أنه قال: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم». وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس: إنما التقية باللسان, وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء والضحاك والربيع بن أنس. ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى: {من كفر با لله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} الاَية. وقال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة, ثم قال تعالى: {ويحذركم الله نفسه} أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه, وعادى أولياءه. ثم قال تعالى: {وإلى الله المصير} أي إليه المرجع والمنقلب ليجازي كل عامل بعمله. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا مسلم بن خالد عن ابن أبي حسين, عن عبد الرحمن بن سابط, عن عمرو بن ميمون, قال: قام فينا معاذ بن جبل, فقال: يا بني أود, إني رسول رسول الله إليكم, تعلمون أن المعاد إلى الجنة أو إلى النار.

** قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر, وأنه لا يخفى عليه منهم خافية, بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان والأيام واللحظات وجميع الأوقات, وجميع ما في الأرض والسموات لا يغيب عنه مثقال ذرة, ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال, {والله على كل شيء قدير} أي وقدرته نافذة في جميع ذلك, وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم, فإنه عالم بجميع أمورهم, وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة, وإن أنظر من أنظر منهم, فإنه يمهل, ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر, ولهذا قال بعد هذا {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضر} الاَية, يعني يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير ومن شر, كما قال تعالى {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر} فما رأى من أعماله حسناً سره ذلك وأفرحه, وما رأى من قبيح ساءه وغاظه وود لو أنه تبرأ منه وأن يكون بينهما أمد بعيد, كما يقال لشيطانه الذي كان مقروناً به في الدنيا, وهو الذي جرأه على فعل السوء {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين}, ثم قال تعالى مؤكداً ومهدداً ومتوعداً {ويحذركم الله نفسه} أي يخوفكم عقابه, ثم قال جل جلاله مرجياً لعباده لئلا ييئسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه {والله رؤوف بالعباد} قال الحسن البصري: من رأفته بهم حذرهم نفسه وقال غيره: أي رحيم بخلقه يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم وأن يتبعوا رسوله الكريم.