تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 53 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 53

052

قوله 23- "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب" فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من تصح منه الرؤية من حال هؤلاء وهم أحبار اليهود. والكتاب: التوراة، وتنكير النصيب للتعظيم: أي نصيباً عظيماً كما يفيده مقام المبالغة، ومن قال إن التنكير للتحقير فلم يصب فلم ينتفعوا بذلك، وذلك بأنهم يدعون إلى كتاب الله الذين أوتوا نصيباً منه وهو التوراة: "ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم" والحال أنهم معرضون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه مع علمهم به واعترافهم بوجوب الإجابة إليه.
24- و"ذلك" إشارة إلى ما مر من التولي والإعراض بسبب "أنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات " وهي مقدار عبادتهم العجل . وقد تقدم تفسير ذلك "وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون" من الأكاذيب التي من جملتها هذا القول.
قوله 25- "فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه" هو رد عليهم وإبطال لما غرهم من الأكاذيب: أي فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم الجزاء الذي لا يرتاب مرتاب في وقوعه، فإنهم يقعون لا محالة ويعجزون عن دفعه بالحيل والأكاذيب "ووفيت كل نفس ما كسبت" أي جزاء ما كسبت على حذف المضاف "وهم لا يظلمون" بزيادة ولا نقص. والمراد كل الناس مدلول عليهم بكل نفس. قال الكسائي: اللام في قوله "ليوم" بمعنى في وقال البصريون: المعنى لحساب يوم. وقال ابن جرير الطبري: المعنى لما يحدث في يوم. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح "قلت: يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس " إلى قوله "وما لهم من ناصرين" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله". وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: بعث عيسى يحيى بن زكريا في اثني عشر رجلاً من الحواريين يعلمون الناس، فكان ينهى عن نكاح بنت الأخ، وكان ملك له بنت أخ تعجبه فأرادها وجعل يقضي لها كل يوم حاجة، فقالت لها أمها: إذا سألك عن حاجة فقولي: حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا، فقال: سلي غير هذا، فقالت: لا أسألك غير هذا فلما أبت أمر به فذبح في طست، فبدرت قطرة من دمه فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر، فدلت عجوز عليه، فألقى في نفسه أن لا يزال يقتل حتى يسكن هذا الدم، فقتل في يوم واحد من ضرب واحد وسن واحد سبعين ألفاً فسكن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن معقل بن أبي مسكين في الآية قال: كان الوحي يأتي بني إسرائيل فيذكرون قومهم ولم يكن يأتيهم كتاب، فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم فيذكرون قومهم فيقتلون فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: الذين يأمرون بالقسط من الناس: ولاة العدل. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو الحارث بن زيد: على أي دين أتيت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه، قال: فإن إبراهيم كان يهودياً قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه، فأنزل الله "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله" الآية". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله "نصيباً" قال: حظاً "من الكتاب" قال: التوراة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله "قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات" قال: يعنون الأيام التي خلق الله فيها آدم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله "وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون" حين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "ووفيت كل نفس" يعني: توفى كل نفس بر أو فاجر "ما كسبت" ما عملت من خير أو شر "وهم لا يظلمون" يعني من أعمالهم.
قوله 26- "قل اللهم". قال الخليل وسيبويه وجميع البصرين: إن أصل اللهم يا ألله، فلما استعملت الكلمة دون حرف الندا الذي هو يا جعلوا بدله هذه الميم المشددة فجاءو بحرفين وهما الميمان عوضاً من حرفين وهما الياء والألف، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد. وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم يا ألله أمنا بخير، فحذف وخلط الكلمتان، والضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة. قال النحاس: هذا عند البصريين من الخطأ العظيم، والقول في هذا ما قاله الخليل وسيبويه. قال الكوفيون: وقد يدخل حرف النداء على اللهم، وأنشدوا في ذلك قول الراجز: غفرت أو عذبت يا اللهما وقول الآخر: وما عليك أن تقول كلما سبحت أو هللت ياللهما وقول الآخر: إني إذا ما حدث ألما أقول ياللهم ياللهما قالوا: ولو كان الميم عوضاً من حرف النداء لما اجتمعنا. قال الزجاج: وهذا شاذ لا يعرف قائله. قال النضر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه. قوله "مالك الملك" أي مالك جنس الملك على الإطلاق، ومالك منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان، أي يا مالك الملك، ولا يجوز عنده أن يكون وصفاً لقوله "اللهم" لأن الميم عنده تمنع الوصفية. وقال محمد بن يزيد المبرد وإبراهيم بن السري الزجاج: إنه صفة لاسم الله تعالى، وكذلك قوله تعالى "قل اللهم فاطر السموات والأرض". قال أبو علي الفارسي: وهو مذهب المبرد، وما قاله سيبويه أصوب وأبين، وذلك لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت والأصوات لا توصف نحو غاق وما أشبهه. قال الزجاج: والمعنى مالك العباد وما ملكوا، وقيل المعنى مالك الدنيا والآخرة، وقيل الملك هنا: النبوة، وقيل: الغلبة، وقيل: المال والعبيد. والظاهر شموله لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص "تؤتي الملك من تشاء" أي: من تشاء إيتاءه إياه "وتنزع الملك ممن تشاء" نزعه منه. والمراد بما يؤتيه من الملك وينزعه هو نوع من أنواع ذلك الملك العام. قوله "وتعز من تشاء" أي في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، يقال عز: إذا غلب، ومنه "وعزني في الخطاب". وقوله "وتذل من تشاء" أي في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، يقال ذل يذل ذلاً: إذا غلب وقهر. قوله "بيدك الخير" تقديم الخبر للتخصيص: أي بيدك الخير لا بيد غيرك، وذكر الخير دون الشر، لأن الخير بفضل محض بخلاف الشر فإنه يكون جزاء لعمل وصل إليه، وقيل لأن كل شر من حيث كونه من قضائه سبحانه هو متضمن للخير فأفعاله كلها خير، وقيل إنه حذف كما حذف في قوله "سرابيل تقيكم الحر" وأصله بيدك الخير والشر، وقيل خص الخير لأن المقام مقام دعاء. قوله "إنك على كل شيء قدير" تعليل لما سبق وتحقيق له.
قوله 27- "تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل" أي: تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر، وقيل المعنى تعاقب بينهما ويكون زوال أحدهما ولوجاً في الآخر. قوله "وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي" قيل المراد إخراج الحيوان وهو حي من النطفة وهي ميتة، وإخراج النطفة وهي ميتة من الحيوان وهو حي، وقيل المراد إخراج الطائر وهو حي من البيضة وهي ميتة، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية، وقيل المراد إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. قوله " بغير حساب" أي: بغير تضييق ولا تقتير كما تقول فلان يعطي بغير حساب، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فنزلت الآية. وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: اسم الله الأعظم "قل اللهم مالك الملك" إلى قوله "بغير حساب". وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني عن معاذ "أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ديناً عليه، فعلمه أن يتلو هذه الآية، ثم يقول: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك، اللهم اغنني من الفقر واقض عني الدين". وأخرجه الطبراني في الصغير من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً لأداه الله عنك" فذكره، وإسناده جيد وقد تقدم عند تفسير قوله تعالى "شهد الله أنه لا إله إلا هو" بعض فضائل هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "تؤتي الملك من تشاء" قال: النبوة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله "تولج الليل في النهار" الآية، قال: تأخذ الصيف من الشتاء، وتأخذ الشتاء من الصيف "وتخرج الحي من الميت " تخرج الرجل الحي من النطفة الميتة "وتخرج الميت من الحي" تخرج النطفة الميتة من الرجل الحي. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "تولج الليل في النهار" قال: ما نقص من النهار تجعله في الليل وما نقص من الليل تجعله في النهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك نحوه أيضاً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "تخرج الحي من الميت" قال: تخرج النطفة الميتة من الحي ثم تخرج من النطفة بشراً حياً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة "تخرج الحي من الميت" قال: هي البيضة تخرج من الحي وهي ميتة، ثم يخرج منها الحي. وأخرج ابن جرير عنه قال: النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك مثله. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. والمؤمن عبد حي الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن سلمان الفارسي نحوه. وأخرج ابن مردويه عنه مرفوعاً نحوه. وأخرجه أيضاً عنه، أو عن ابن مسعود مرفوعاً. وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبيد الله بن عبد الله "أن خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من هذه؟ قيل: خالدة بنت الأسود، قال: سبحان الذي يخرج الحي من الميت" وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافراً. وأخرج ابن سعد عن عائشة مثله.
قوله 28- "لا يتخذ" فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب، ومثله قوله تعالى "لا تتخذوا بطانة من دونكم" الآية، وقوله "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، وقوله "لا تجد قوماً يؤمنون بالله" الآية، وقوله "لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء"، وقوله "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء". وقوله "من دون المؤمنين" في محل الحال: أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالاً أو اشتراكاً، والإشارة بقوله "ومن يفعل ذلك" إلى الاتحاد المدلول عليه بقوله "لا يتخذ" ومعنى قوله "فليس من الله في شيء" أي: من ولايته في شيء من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل حال. قوله "إلا أن تتقوا منهم تقاة" على صيغة الخطاب بطريق الإلتفات: أي لا أن تخافوا منهم أمراً يجب اتقاؤه وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال. وتقاة مصدر واقع موقع المفعول، وأصلها وقية على وزن فعلة قلبت الواو تاء والياء ألفاً، وقرأ رجاء وقتادة تقية. وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً. وخالف في ذلك قوم من السلف، فقالوا: لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام. قوله "ويحذركم الله نفسه" أي ذاته المقدسة، وإطلاق ذلك عليه سبحانه جائز في المشاكلة كقوله "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" وفي غيرها. وذهب بعض المتأخرين إلى منع ذلك إلا مشاكلة. وقال الزجاج: معناه ويحذركم الله إياه، ثم استغنوا عن ذلك بهذا وصار المستعمل. قال: وأما قوله "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك. وقال بعض أهل العلم: معناه ويحذركم الله عقابه مثل "واسأل القرية" فجعلت النفس في موضع الإضمار، وفي هذه الآية تهديد شديد وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه.أأأعلم
قوله 29- "قل إن تخفوا ما في صدوركم" الآية فيه أن كل ما يضمره العبد ويخفيه أو يظهره ويبديه فهو معلوم لله سبحانه، لا يخفى عليه منه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة "ويعلم ما في السموات وما في الأرض" مما هو أعم من الأمور التي يخفونها أو يبدونها، فلا يخفى عليه ما هو أخص من ذلك.