تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 54 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 54

54 : تفسير الصفحة رقم 54 من القرآن الكريم

** قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ فإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ
هذه الاَية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي, والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله, كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ولهذا قال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم, وهو أعظم من الأول, كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تحب, إنما الشأن أن تَحب. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله, فابتلاهم الله بهذه الاَية, فقال {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا عبيد الله بن موسىَ عن عبد الأعلى بن أعين, عن يحيى بن أبي كثير, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وهل الدين إلا الحب والبغض قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} قال أبو زرعة عبد الأعلى هذا منكر الحديث.
ثم قال تعالى: {ويغفر لكم ذنوبكم, والله غفور رحيم} أي باتباعكم الرسول صلى الله عليه وسلم, يحصل لكم هذا كله من بركة سفارته, ثم قال تعالى آمراً لكل أحد من خاص وعام {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولو} أي خالفوا عن أمره {فإن الله لا يحب الكافرين} فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر, والله لا يحب من اتصف بذلك, وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين: الجن والإنس, الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه, والدخول في طاعته, واتباع شريعته, كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} الاَية, إن شاء الله تعالى.

** إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض, فاصطفى آدم عليه السلام خلقه بيده, ونفخ فيه من روحه, وأسجد له ملائكته, وعلمه أسماء كل شيء, وأسكنه الجنة, ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة, واصطفى نوحاً عليه السلام وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض, لما عبد الناس الأوثان, وأشركوا با لله ما لم ينزل به سلطاناً, وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلاً ونهاراً, سراً وجهاراً, فلم يزدهم ذلك إلا فراراً, فدعا عليهم, فأغرقهم الله عن آخرهم, ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به, واصطفى آل إبراهيم, ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء على الاطلاق محمد صلى الله عليه وسلم, وآل عمران والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم عليه السلام. قال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله: هو عمران بن ياشم بن أمون ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يويم بنْ عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان بن رخيعم بن سليمان بن داود عليهما السلام, فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام, إن شاء الله تعالى, وبه الثقة.

** إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىَ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالاُنْثَىَ وَإِنّي سَمّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ
امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام, وهي حنة بنت فاقوذ قال محمد بن إسحاق: وكانت امرأة لا تحمل, فرأت يوماً طائراً يزق فرخه, فاشتهت الولد, فدعت الله تعالى أن يهبها ولداً, فاستجاب الله دعاءها, فواقعها زوجها, فحملت منه, فلما تحققت الحمل, نذرت أن يكون محرراً أي خالصاً مفرغاً للعبادة ولخدمة بيت المقدس, فقالت: {رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً, فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} أي السميع لدعائي العليم بنيتي, ولم تكن تعلم ما في بطنها: أذكراً أم أنثى ؟ {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت} قرىء برفع التاء, على أنها تاء المتكلم, وأن ذلك من تمام قولها, وقريء بتسكين التاء, على أنه من قول الله عز وجل, {وليس الذكر كالأنثى} أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى {وإني سميتها مريم} فيه دليل على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق لأنه شرع من قبلنا, وقد حكي مقرراً, وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال «ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم» أخرجاه, وكذلك ثبت فيهما: أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله, وفي صحيح البخاري: أن رجلاً قال: يا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما أسميه ؟ قال «أسم ولدك عبد الرحمن», وثبت في الصحيح أيضاً: أنه لما جاءه أبو أسيد بابنه ليحنكه, فذهل عنه, فأمر به أبوه, فرده إلى منزلهم, فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سماه المنذر, فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «كل غلام رهين بعقيقته, يذبح عنه يوم سابعه, ويسمى ويحلق رأسه» فقد رواه أحمد وأهل السنن, وصححه الترمذي بهذا اللفظ, وروي: ويُدَمّى, وهو أثبت وأحفظ, والله أعلم.
وكذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, عق عن ولده إبراهيم يوم سابعه وسماه إبراهيم, فإسناده لا يثبت, وهو مخالف لما في الصحيح, ولو صح لحمل على أنه أَشْهَرَ اسمه بذلك يومئذ, والله أعلم, وقوله إخباراً عن أم مريم أنها قالت {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} أي عوذتها بالله عز وجل من شر الشيطان, وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام, فاستجاب الله لها ذلك, كما قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري, عن ابن المسيب, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله «ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد, فيستهل صارخاً من مسه إياه, إلا مريم وابنها» ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}, أخرجاه من حديث عبد الرزاق, ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج, عن بقية, عن الزهري عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, وروى من حديث قيس, عن الأعمش عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرةً أو عصرتين, إلا عيسى ابن مريم ومريم» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة, ورواه مسلم عن أبي الطاهر, عن ابن وهب, عن عمرو بن الحارث, عن أبي يونس, عن أبي هريرة. ورواه ابن وهب أيضاً, عن ابن أبي ذئب, عن عجلان مولى المشْمَعِلّ, عن أبي هريرة. ورواه محمد بن إسحاق, عن يزيد بن عبد الله بن قسيط, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم بأصل الحديث. وهكذا رواه الليث بن سعد, عن جعفر بن ربيعة, عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج, قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه إلا عيسى ابن مريم, ذهب يطعن, فطعن في الحجاب».

** فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَمَرْيَمُ أَنّىَ لَكِ هَـَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة, وأنه {أنبتها نباتاً حسن}, أي جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً, ويسر لها أسباب القبول, وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين, فلهذا قال {وكَفَلها زكري} وفي قراءة: {وكفّلها زكري} بتشديد الفاء, ونصب زكريا على المفعولية, أي جعله كافلاً لها. قال ابن إسحاق: وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة. وذكر غيره: أن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب, فكفل زكريا مريم لذلك, ولا منافاة بين القولين¹ والله أعلم. وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها, لتقتبس منه علماً جماً نافعاً وعملاً صالحاً, ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما, وقيل: زوج أختها, كما ورد في الصحيح «فاذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة» وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضاً توسعاً, فعلى هذا كانت في حضانة خالتها وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب, وقال «الخالة بمنزلة الأم», ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها, فقال {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزق}. قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والربيع بن أنس وعطية العوفي والسدي: يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء, وفاكهة الشتاء في الصيف. وعن مجاهد {وجد عندها رزق} أي علماً, أو قال: صحفاً فيها علم, رواه ابن أبي حاتم, والأول أصح وفيه دلالة على كرامات الأولياء. وفي السنة لهذا نظائر كثيرة, فإذا رأى زكريا هذا عندها {قال يا مريم أنى لك هذ} أي يقول من أين لك هذا ؟ {قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سهل بن زنجلة, حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا عبد الله بن لهيعة, عن محمد بن المنكدر, عن جابر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شق ذلك عليه, فطاف في منازل أزواجه, فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً, فأتى فاطمة فقال «يا بنية هل عندك شيء آكله, فإني جائع ؟» قالت: لا والله ـ بأبي أنت وأمي ـ, فلما خرج من عندها, بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم, فأخذته منها, فوضعته في جفنة لها, وقالت: والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي, وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام, فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرجع إليها, فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك. قال «هلمي يا بنية». قالت: فأتيته بالجفنة, فكشف عنها, فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً, فلما نظرت إليها بهت وعرفت أنها بركة من الله, فحمدت الله وصليت على نبيه وقدمته إلى رسول الله, فلما رآه حمد الله وقال «من أين لك هذا يا بنية» ؟ قالت: يا أبت {هو من عند الله, إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} فحمد الله وقال «الحمد الله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل, فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً وسئلت عنه, قالت: هو من عند الله, إن الله يرزق من يشاء بغير حساب» فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي, ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته حتى شبعوا جميعاً, قالت: وبقيت الجفنة كما هي, قالت: فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران, وجعل الله فيها بركة وخيراً كثيراً.