تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 531 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 531

531 : تفسير الصفحة رقم 531 من القرآن الكريم

سورة الرحمن
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد عن عاصم عن زر أن رجلاً قال: كيف تعرف هذا الحرف من ماء غير آسن أو آسن ؟ فقال: كل القرآن قد قرأت. قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة واحدة, فقال: أهذا كهذا الشعر لا أبالك ؟ قد علمت. قرائن النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يقرن قرينتين قرينتين من أول المفصل, وكان أول مفصل ابن مسعود {الرحمن} وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد الرحمن بن واقد وأبو مسلم السعدي, حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد, عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم, كنت كلما أتيت على قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» ثم قال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد,ثم حكي عن الإمام أحمد أنه كان لا يعرفه, ينكر رواية أهل الشام عن زهير بن محمد هذا, ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عمرو بن مالك عن الوليد بن مسلم, وعن عبد الله بن أحمد بن شبويه عن هشام بن عمارة, كلاهما عن الوليد بن مسلم به ثم قال: لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد بن عباد بن موسى وعمرو بن مالك البصري قالا: حدثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال: «ما لي أسمع الجن أحسن جواباً لربها منكم ؟» قالوا: وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: «ما أتيت على قول الله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} إلا قالت الجن لا بشيء من نعم ربنا نكذب» ورواه الحافظ البزار عن عمرو بن مالك به, ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** الرّحْمَـَنُ * عَلّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلّمَهُ البَيَانَ * الشّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنّجْمُ وَالشّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ * وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ * وَالْحَبّ ذُو الْعَصْفِ وَالرّيْحَانُ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ
يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن, ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} قال الحسن: يعني النطق, وقال الضحاك وقتادة وغيرهما: يعني الخير والشر, وقول الحسن ههنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن, وهو أداء تلاوته, وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها. وقوله تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} أي يجريان متعاقبين بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} وقال تعالى: {فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم}.
وعن عكرمة أنه قال: لو جعل الله نور جميع أبصار الإنس والجن والدواب والطير في عيني عبد, ثم كشف حجاباً واحداً من سبعين حجاباً دون الشمس, لما استطاع أن ينظر إليها. ونور الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسي, ونور الكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش, ونور العرش جزء من سبعين جزءاً من نور الستر. فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عياناً, رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} قال ابن جرير: اختلف المفسرون في معنى قوله والنجم بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق, فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النجم ما انبسط على وجه الأرض يعني من النبات, وكذا قال سعيد بن جبير والسدي وسفيان الثوري, وقد اختاره ابن جرير رحمه الله تعالى. وقال مجاهد: النجم الذي في السماء. وكذا قال الحسن وقتادة, وهذا القول هو الأظهر والله أعلم لقوله تعالى: {ألم ترَ أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} الاَية.
وقوله تعالى: {والسماء رفعها ووضع الميزان} يعني العدل كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} وهكذا قال ههنا: {ألا تطغوا في الميزان} أي خلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل. ولهذا قال تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط كما قال تعالى: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} وقوله تعالى: {والأرض وضعها للأنام} أي كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات, لتستقر لما على وجهها من الأنام وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم في سائر أقطارها وأرجائها.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الأنام الخلق {فيها فاكهة} أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح {والنخل ذات الأكمام} أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً, والأكمام قال ابن جريج عن ابن عباس: هي أوعية الطلع وهكذا قال غير واحد من المفسرين, وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود, فيكون بسراً ثم رطباً ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عمرو بن علي الصيرفي, حدثنا أبو قتيبة, حدثنا يونس بن الحارث عن الشعبي قال: كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب: أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير, تخرج مثل آذان الحمير ثم تشقق مثل اللؤلؤ, ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر, ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر, ثم تينع فتنضج فتكون كأطيب فالوذج أكل, ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزاداً للمسافر, فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة, فكتب إليه عمر بن الخطاب: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم, إن رسلك قد صدقوك هذه الشجرة عندنا, وهي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها, فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين} وقيل: الأكمام رفاتها وهو الليف الذي على عنق النخلة, وهو قول الحسن وقتادة.
{والحب ذو العصف والريحان} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {والحب ذو العصف} يعني التبن. وقال العوفي عن ابن عباس: العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه, فهو يسمى العصف إذا يبس, وكذا قال قتادة والضحاك وأبو مالك عصفه تبنه. وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: والريحان يعني الورق. وقال الحسن: هو ريحانكم هذا, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: والريحان خضر الزرع, ومعنى هذا ـ والله أعلم ـ أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف, وهو ما على السنبلة, وريحان وهو الورق الملتف على ساقها. وقيل: العصف الورق أول ما ينبت الزرع بقلاً والريحان الورق يعني إذا أدجن وانعقد فيه الحب, كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة:
وقولا له من ينبت الحب في الثرىفيصبح منه البقل يهتز رابياويخرج منه حبه في رؤوسهففي ذاك آيات لمن كان واعيا
وقوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أي فبأي الاَلاء يا معشر الثقلين من الإنس والجن تكذبان ؟ قاله مجاهد وغير واحد, ويدل عليه السياق بعده, أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها, فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون به: اللهم ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب, فلك الحمد. وكان ابن عباس يقول لابأيها يا رب أي لا نكذب بشيء منها, قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يستمعون {فبأي آلاء ربكما تكذبان}.