تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 536 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 536

536 : تفسير الصفحة رقم 536 من القرآن الكريم

** نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىَ أَن نّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النّشْأَةَ الاُولَىَ فَلَوْلاَ تَذَكّرُونَ
يقول تعالى مقرراً للمعاد, وراداً على المكذبين به من أهل الزيغ, والإلحاد من الذين قالوا {أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون ؟} وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد. فقال تعالى: {نحن خلقناكم} أي نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً, أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى ؟ ولهذا قال: {فلولا تصدقون} أي فهلا تصدقون بالبعث! ثم قال مستدلاً عليهم بقوله: {أفرأيتم ما تمنون ؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ؟} أي أنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه فيها أم الله الخالق لذلك ؟ ثم قال تعالى: {نحن قدرنا بينكم الموت} أي صرفناه بينكم, وقال الضحاك: ساوى فيه بين أهل السماء والأرض {وما نحن بمسبوقين} أي وما نحن بعاجزين {على أن نبدل أمثالكم} أي نغير خلقكم يوم القيامة.
{وننشئكم فيما لا تعلمون} أي من الصفات والأحوال. ثم قال تعالى: {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً, فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة, فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداءة, قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى, كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} وقال تعالى: {أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئ} {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} وقال تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ؟ ثم كان علقة فخلق فسوى. فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ؟}.

** أَفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكّهُونَ * إِنّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لّلْمُقْوِينَ * فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ
يقول تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون ؟} وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها {أأنتم تزرعونه ؟} أي تنبتونه في الأرض {أم نحن الزارعون} أي بل نحن الذين نقره قراره وننبته في الأرض. قال ابن جرير: وقد حدثني أحمد بن الوليد القرشي, حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي, حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن محمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقولن زرعت ولكن قل حرثت» قال أبو هريرة: ألم تسمع إلى قوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ؟} ورواه البزار عن محمد بن عبد الرحيم عن مسلم الجرمي به, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد عن عطاء عن أبي عبد الرحمن: لا تقولوا زرعنا ولكن قولوا حرثنا وروي عن حجر المدري أنه كان إذا قرأ {أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} وأمثالها يقول: بل أنت يا رب.
وقوله تعالى: {لو نشاء لجعلناه حطام} أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم بل ولو نشاء لجعلناه حطاماً أي لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده {فظلتم تفكهون} ثم فسر ذلك بقوله: {إنا لمغرمون * بل نحن محرومون} أي لو جعلناه حطاماً لظللتم تفكهون في المقالة تنوعون كلامكم فتقولون تارة إنا لمغرمون أي لملقون, وقال مجاهد وعكرمة: إنا لموقع بنا. وقال قتادة: معذبون وتارة يقولون بل نحن محرومون. وقال مجاهد أيضاً: إنا لمغرمون ملقون للشر أي بل نحن محارفون, قاله قتادة, أي لا يثبت لنا مال ولا ينتج لنا ربح, وقال مجاهد: بل نحن محرومون أي محدودون يعني لا حظ لنا, وقال ابن عباس ومجاهد {فظلتم تفكهون} تعجبون. وقال مجاهد أيضاً: فظلتم تفكهون تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم, وهذا يرجع إلى الأول, وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم, وهذا اختيار ابن جرير. وقال عكرمة: فظلتم تفكهون تلاومون, وقال الحسن وقتادة والسدي: فظلتم تفكهون تندمون, ومعناه إما على ما أنفقتم أو على ما أسلفتم من الذنوب, قال الكسائي: تفكه من الأضداد, تقول العرب تفكهت بمعنى تنعمت, وتفكهت بمعنى حزنت.
ثم قال تعالى: {أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن} يعني السحاب, قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد {أم نحن المنزلون} يقول بل نحن المنزلون {لو نشاء جعلناه أجاج} أي زعافاً مراً لا يصلح لشرب ولا زرع {فلولا تشكرون} أي فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذباً زلالاً {لكم)منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لاَية لقوم يتفكرون} . وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عثمان بن سعيد بن مرة, حدثنا فضيل بن مرزوق عن جابر عن أبي جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا شرب الماء قال: «الحمد لله الذي سقانا عذباً فراتاً برحمته, ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا» ثم قال: {أفرأيتم النار التي تورون} أي تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها {أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون} أي بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها. وللعرب شجرتان (إحداهما) المرخ, (والأخرى) العفار, إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالاَخر تناثر من بينهما شرر النار.
وقوله تعالى: {نحن جعلناها تذكرة} قال مجاهد وقتادة: أي تذكر النار الكبرى, قال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا قوم ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم» قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية. قال: «إنها قد ضربت بالماء ضربتين ـ أو مرتين ـ حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها» وهذا الذي أرسله قتادة قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وضربت بالبحر مرتين, ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد» وقال الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم» فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية, فقال: «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً» رواه البخاري من حديث مالك ومسلم من حديث أبي الزناد ورواه مسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به وفي لفظ «والذي نفسي بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها» وقد قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الخلال, حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي, حدثنا معن بن عيسى الفزار عن مالك عن عمه أبي سهل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهي أشد سواداً من ناركم هذه بسبعين ضعفاً» قال الضياء المقدسي وقد رواه أبو مصعب عن مالك ولم يرفعه وهو عندي على شرط الصحيح.
وقوله تعالى: {ومتاعاً للمقوين} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والنضر بن عربي: يعني بالمقوين المسافرين, واختاره ابن جرير وقال: ومنه قولهم أقوت الدار إذا رحل أهلها, وقال غيره: القي والقواء القفر الخالي البعيد من العمران. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقوي ههنا الجائع, وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: ومتاعاً للمقوين, للحاضر والمسافر لكل طعام لا يصلحه إلا النار, وكذا روى سفيان عن جابر الجعفي عن مجاهد, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قوله: للمقوين يعني المستمتعين من الناس أجمعين, وكذا ذكر عن عكرمة, وهذا التفسير أعم من غيره, فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الجميع محتاجون إليها للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع, ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه, فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى بها واشتوى, واستأنس بها وانتفع بها سائر الانتفاعات, لهذا أفرد المسافرين وإن كان ذلك عاماً في حق الناس كلهم! وقد يستدل له بما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي خداش حبان بن زيد الشرعي الشامي عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون شركاء في ثلاثة: النار والكلأ والماء» وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار» وله من حديث ابن عباس مرفوعاً مثل هذا زيادة وثمنه حرام, ولكن في إسناده عبد الله بن خراش بن حوشب وهو ضعيف, والله أعلم.
وقوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} أي الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة: الماء الزلال العذب البارد ولو شاء لجعله ملحاً أجاجاً كالبحار المغرقة, وخلق النار المحرقة وجعل ذلك مصلحة للعباد, وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم وزجراً لهم في المعاد.