تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 536 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 536

535

51- "ثم إنكم أيها الضالون المكذبون" هذا وما بعده من جملة ما هو داخل تحت القول، وهو معطوف على إن الأولين ووصفهم سبحانه بوصفين قبيحين، وهما الضلال عن الحق والتكذيب له.
52- "لآكلون من شجر من زقوم" أي لآكلون في الآخرة من شجر كريه المنظر كريه الطعم، وقد تقدم تفسيره في سورة الصافات، ومن الأولى لابتداء الغاية، والثانية بيانية، ويجوز أن تكون الأولى مزيدة، والثانية بيانية، وأن تكون الثانية مزيدة، والأولى للابتداء.
53- "فمالئون منها البطون" أي مالئومن من شجر الزقوم بطونكم لما يلحقكم من شدة الجوع.
54- "فشاربون عليه من الحميم" الضمير في عليه عائد إلى الزقوم، والحميم الماء الذي قد بلغ حره إلى الغاية، والمعنى: فشاربون على الزقوم عقب أكله من الماء الحار، ويجوز أن يعود الضمير إلى شجر لأنه يذكر ويؤنث. ويجوز أن يعود إلى الأكر المدلول عليه بقوله: لآكلون، وقرئ من شجرة بالإفراد.
55- "فشاربون شرب الهيم" قرأ الجمهور "شرب الهيم" بفتح الشين، وقرأ نافع وعاصم وحمزة بضمها، وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرها، وهي لغات. قال أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم [الشين] وفتحها وكسرها. قال المبرد: الفتح على أصل المصدر والضم اسم المصدر، والهيم: الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، وهذه الجملة بيان لما قبلها: أي لا يكون شربكم شرباً معتاداً بل يكون مثل شرب الهيم التي تعطش ولا تروى بشرب الماء، ومفرد الهيم أهيم، والأنثى هيماء. قال قيس بن الملوح: يقال به داء الهيام أصابه وقد علمت نفسي مكان شفائيا وقال الضحاك وابن عيينة والأخفش وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل، والمعنى: أنهم يشربون كما تشرب هذه الأرض الماء ولا يظهر له فيها أثر. قال في الصحاح: الهيام بالضم: أشد العطش، والهيام كالجنون من العشق، والهيام: داء يأخذ الإبل تهيم في الأرض لا ترعى، يقال ناقة هيماء، والهيماء أيضاً: المفازة لا ماء بها، والهيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك في اليد للينه، والجميع هيم مثل قذال وقذل، والهيام بالكسر الإبل العطاش.
56- "هذا نزلهم يوم الدين" قرأ الجمهور "نزلهم" بضمتين، وروي عن أبي عمرو وابن محيصن بضمة وسكون، وقد تقدم أن النزل ما يعد للضيف، ويكون أول ما يأكله، ويوم الدين يوم الجزاء وهو يوم القيامة، والمعنى: أن ما ذكر من شجر الزقوم وشراب الحميم هو الذي يعد لهم ويأكلونه يوم القيامة، وفي هذا تهكم به، لأن النزل هو ما يعد للأضياف تكرمه لهم، ومثل هذا قوله: "فبشرهم بعذاب أليم". وقد أخرج الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم،" أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله ذكر في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها: قال: وما هي؟ قال: السدر فإن لها شوكاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس الله يقول: "في سدر مخضود"؟ يخضه الله شوكه، فيجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمراً يتفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما منها لوم يشبه الآخر". وأخرج ابن أبي داود والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن عيينة بن عبد السلمي قال: "كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعت تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكاً منها: يعني الطلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصية التيس الملبود: يعني الخصي منها، فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لون آخر" وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "سدر مخضود" قال: خضده وقره من الحمل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طرق عنه قال: المخضود الذي لا شوك فيه. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً قال: المخضود الموقر الذي لا شوك فيه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله: "وطلح منضود" قال: هو الموز. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي هريرة مثله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أنه قرأ وطلع منضود وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن قيس بن عباد قال: قرأت على علي بن أبي طالب "وطلح منضود" فقال علي: ما بال الطلح، أما تقرأ وطلع؟ ثم قال: " طلع نضيد "، فقيل له: يا أمير المؤمنين أنحكها في المصحف؟ قال: لا يهاج القرآن اليوم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "منضود" قال: بعضه على بعض. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرأوا إن شئتم "وظل ممدود"". وأخرج البخاري وغيره نحوه من حديث أنس. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما نحوه من حديث أبي سعيد. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وفرش مرفوعة" قال: ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام. قال الترمذي بعد إخراجه هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد انتهى، ورشدين ضعيف. وأخرج الفريابي وهناد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنا أنشأناهن إنشاء" قال: إن المنشئات التي كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً." قال الترمذي: بعد إخراجه غريب، وموسى ويزيد ضعيفان. وأخرج الطيالسي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وابن قانع والبيهقي في البعث عن سلمة بن يزيد الجعفي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله: "إنا أنشأناهن إنشاء" قال: الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: خلقهن غير خلقهن الأول. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "أبكاراً" قال: عذارى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "عربا" قال: عواشق "أتراباً" يقول: مستويات. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "عربا" قال: عواشق لأزواجهن وأزواجهن لهن عاشقون "أترابا" قال: في سن واحد ثلاثاً وثلاثين سنة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: العروب الملقة لزوجها. وأخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة "عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين " قال: جميعهما من هذه الأمة". وأخرج أبو داود الطيالسي ومسدد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي بكرة: في قوله: " ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين " قال: هما جميعاً من هذه الأمة. أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه. قال السيوطي بسند ضعيف "عن ابن عباس في قوله: " ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هما جميعاً من أمتي". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: الثلتان جميعاً من هذه الأمة. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "وظل من يحموم" قال: من دخان أسود، وفي لفظ: من دخان جهنم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "شرب الهيم" قال: الإبل العطاش.
قوله: 57- "نحن خلقناكم فلولا تصدقون" التفت سبحانه إلى خطاب الكفرة تبكيتاً لهم وإلزاماً للحجة: أي فهلا تصدقون بالبعث أو بالخلق. قال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئاً وأنتم تعلمون ذلك فهلا تصدقون بالبعث؟.
58- "أفرأيتم ما تمنون" أي ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف، ومعنى أفرأيتم: أخبروني.
ومفعولها الأول ما تمنون، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي 59- " أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون " أي تقدرونه وتصورونه بشراً أم نحن المقدرون المصورون له، وأم هي المتصلة، وقيل هي المنقطعة، والأول أولى. قرأ الجمهور "تمنون" بضم الفوقية من أمنى يمني. وهما لغتان، وقيل معناهما مختلف، يقال أمني إذا أنزل عن جماع، ومعنى إذا أنزل عن احتلام، وسمي المني منياً لأنه يمني: أي يراق.
60- "نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين" قرأ الجمهور "قدرنا" بالتشديد، وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير بالتخفيف، وهما لغتان، يقال قدرت الشيء وقدرته: أي قسمناه عليكم ووقتناه لكل فرد من أفرادكم، وقيل قضينا، وقيل كتبنا، والمعنى متقارب. قال مقاتل: فمنكم من يموت كبيراً ومنكم من يموت صغيراً. وقال الضحاك: معناه أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء "وما نحن بمسبوقين" بمغلوبين، بل قادرين.
61- "على أن نبدل أمثالكم" أي نأتي بخلق مثلكم. قال الزجاج: إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم يسبقنا سابقاً ولا يفوتنا. قال ابن جرير: المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم وما نحن بمسبوقين في آجالكم: أي لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم " وننشئكم في ما لا تعلمون " من الصور والهيئات. قال الحسن. أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم، وقيل المعنى: ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا. وقال سعيد بن المسيب: فيما لا تعلمون: يعني في حواصل طيور سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف. وبرهوت واد باليمن. وقال مجاهد " في ما لا تعلمون " يعني في أي خلق شئنا، ومن كان قادراً على هذا فهو قادر على البعث.
62- "ولقد علمتم النشأة الأولى" وهي ابتداء الخلق من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة ولم تكونوا قبل ذلك شيئاً. وقال قتادة والضحاك: يعني خلق آدم من تراب "فلولا تذكرون" أي فهلا تذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة وتقيسونها على النشأة الأولى. وقرأ الجمهور "النشأة" بالقصر، وقرأ مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو بالمد، وقد مضى تفسير هذا في سورة العنكبوت.
63- "أفرأيتم ما تحرثون" أي خبروني ما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيه البذر.
64- " أأنتم تزرعونه " أي تنبتونه وتجعلونه زرعاً فيكون فيه السنبل الحب "أم نحن الزارعون" أي المنبتون له الجاعلون له زرعاً لا أنتم. قال المبرد: يقال زرعه الله: أي أنماه، فإذا أقررتم بهذا فكيف تنكرون البعث.
65- " لو نشاء لجعلناه حطاما " أي لو نشاء لجعنا ما تحرثون حطاماً: أي متحطماً متكسراً، والحطام: الهشم الذي لا ينتفع به ولا يحصل منه حب ولا شيء مما يطلب من الحرث "فظلتم تفكهون" أي صرتم تعجبون. قال الفراء: تفكهون تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم. قال في الصحاح: وتفكه تعجب، يقال تندم. قال الحسن وقتادة وغيرهما: معنى الآية: تعجبون من ذهابها وتندمون مما حل بكم. وقال عكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله. وقال أبو عمرو والكسائي: هو التلهف على ما فات. قرأ الجمهور "فظلتم" بفتح الظاء مع لام واحدة. وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية عنه بكسر الظاء. وقرأ ابن عباس والجحدري فظلتم بلامين: أولاهما مكسورة على الأصل، وروي عن الجحدري فتحها، وهي لغة. وقرأ الجمهور تفكهون وقرأ أبو حزام العكلي تفكنون بالنون مكان الهاء: أي تندمون. قال ابن خالويه: تفكه تعجب، وتفكن تندم. وفي الصحاح التفكن التندم.
66- "إنا لمغرمون" قرأ الجمهور بهمزة واحدة على الخبر، وقرأ أبو بكر والمفضل وزر بن حبيش بهمزتين على الاستفهام، والجنلة بتقدير القول: أي تقولون إنا لمغرمون: أي ملزمون غرماً بما هلك من زرعنا، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، قاله الضحاك وابن كيسان. وقيل [معناه] إنا لمعذبون، قاله قتادة وغيره. وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا، ومنه قول النمر بن تولب: سلا عن تذكره تكتما وكان رهينا بها مغرما يقال أغرم فلان بفلان: أي أولع. وقال مقاتل: مهلكون. قال النحاس: مأخوذ من الغرام، وهو الهلاك ومنه قول الشاعر: ويوم النسار ويوم الجبا ر كان عليكم عذاباً مقيماً والظاهر من السياق المعنى الأول: أي إنا لمغرمون بذهاب ما حرثناه ومصيره حطاماً.
ثم أضربوا عن قولهم هذا وانتقلوا فقالوا: 67- "بل نحن محرومون" أي حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا، والمحروم الممنوع من الرزق الذي لا حظ له فيه، وهو المحارف.
68- "أفرأيتم الماء الذي تشربون" فتسكنون به ما يلحقكم من العطش وتدفعون به ما ينزل بكم من الظمأ. واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثرة فوائد الماء ومنافعه، لأنه أعظم فوائده وأجل منافعه.
69- " أأنتم أنزلتموه من المزن " أي السحاب. قال في الصحاح: قال أبو زيد: المزنة السحابة البيضاء، والجمع مزن والمزنة المطر. قال الشاعر: ألم تر أن الله أنزل مزنة وعفر الظبا في الكنائس تقمع ومما يدل على أنه السحاب قول الشاعر: نحن كماء المزن ما في نصابنا كهام ولا فينا يعد بخيل وقول الآخر: فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها "أم نحن المنزلون" له بقدرتنا دون غيرنا، فإذا عرفتم ذلك، فكيف لا تقرون بالتوحيد وتصدقون بالبعث.
ثم بين لهم سبحانه لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة فقال: 70- "لو نشاء جعلناه أجاجاً" الأجاج الماء الشديد الملوحة الذي لا يمكن شربه، وقال الحسن: هو الماء المر الذي لا ينتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما "فلولا تشكرون" أي فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذباً تشربون منه وتنتفعون به.
71- "أفرأيتم النار التي تورون" أي أخبروني عنها، ومعنى تورون: تستخرجونها بالقدح من الشجر الرطب، يقال أوريت النار إذا قدحتها.
72- " أأنتم أنشأتم شجرتها " التي يكون منها الزنود، وهي المرخ والعفار، تقول العرب: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار "أم نحن المنشئون" لها بقدرتنا دونكم، ومعنى الإنشاء الخلق، وعبر عنه بالغنشاء للدلالة على ما في ذلك من بديع الصنعة وعجيب القدرة.
73- "نحن جعلناها تذكرة" أي جعلنا هذه النار التي في الدنيا تذكرة لنار جهنم الكبرى. قال مجاهد وقتادة: تبصرة للناس في الظلام، وقال عطاء: موعظة ليتعظ بها المؤمن "ومتاعاً للمقوين" أي منفعة للذين ينزلون بالقواء، وهي الأرض القفر كالمسافرين وأهل البوادي النازلين في المقفرة، يقال أرض قواء بالمد والصر: أي مقفرة، ومنه قول النابغة: يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد وقال عنترة: حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقر بعد أم الهيثم وقول الآخر: ألم تسأل الربع القواء فينطق وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق ويقال أقوى إذا سافر: أي نزل القوى. وقال مجاهد المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، وتذكر نار جهنم. وقال ابن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم، يقال: أقويت منذ كذا وكذا: أي ما أكلت شيئاً، وبات فلان القوي: أي بات جائعاً، ومنه قول الشاعر: وإني لأختار القوي طاوي الحشا محافظة من أن يقال لئيم وقال قطرب: [القوى] من الأضداد يكون بمعنى الفقر، ويكون بمعنى الغنى، يقال أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. وحكى الثعلبي عن أكثر المفسرين القول الأول، وهو الظاهر.
74- "فسبح باسم ربك العظيم" الفاء لترتيب ما بعدها من ذكر الله سبحانه، وتنزيهه على ما قبلها مما عدده من النعم التي أنعم بها على عباده وجحود المشركين لها وتكذيبهم بها. وقد أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في الشعب وضعفه عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم زرعت، ولكن يقول حرثت". قال أبو هريرة: ألم تسمعوا الله يقول " أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "تفكهون" قال: تعجبون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. قال: "المزن" السحاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس "نحن جعلناها تذكرة" قال: تذكرة للنار الكبرى "ومتاعاً للمقوين" قال: للمسافرين.
قوله: 75- "فلا أقسم" ذهب جمهور المفسرين إلى أن لا مزيدة للتوكيد، والمعنى: فأقسم، ويؤيد هذا قوله بعد: "وإنه لقسم" وقال جماعة من المفسرين: إنها للنفي، وإن المنفي بها محذوف، وهو كلام الكفار الجاحدين. قال الفراء: هي نفي، والمعنى: ليس الأمر كما تقولون. ثم استأنف فقال أقسم، وضعف هذا بأن حذف اسم لا وخبرها غير جائز، كما قال أبو حيان وغيره. وقيل إنها لام الابتداء، والأصل فلا اقسم فأشعت الفتحة فتولد منها ألف، كقول الشاعر: أعوذ بالله من العقراب وقد قرأ هكذا فلأقسم بدون ألف الحسن وحميد وعيسى بن عمر، وعلى هذا القول، وهذه القراءة يقدر مبتدأ محذوف، والتقدير: فلأنا أقسم بذلك. وقيل إن لا هنا بمعنى ألا التي للتنبيه، وهو بعيد. وقيل لا هنا على ظاهرها، وإنها لنفي القسم: أي فلا أقسم على هذا لأن الأمر أوضح من ذلك.
وهذا مدفوع بقوله: 76- "وإنه لقسم لو تعلمون عظيم" مع تعيين المقسم به والمقسم عليه، ومعنى قوله: "بمواقع النجوم" مساقطها، وهي مغاربها كذا قال قتادة وغيره. وقال عطاء بن أبي رباح: منازلها. وقال الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، وقال الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون مطرنا بنوء كذا. وقيل المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوماً من اللوح المحفوظ، وبه قال السدي وغيره، وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن. قرأ الجمهور "مواقع" على الجمع، وقرأ ابن مسعود والنخعي وحمزة والكسائي وابن محيصن وورش عن يعقوب بموقع على الإفراد. قال المبرد: موقع هاهنا مصدر، فهو يصلح للواحد والجمع. ثم أخبر سبحانه عن تعظيم هذا القسم وتفخيمه فقال: "وإنه لقسم لو تعلمون عظيم" هذه الجملة معترضة بين المقسم به والمقسم عليه، وقوله: "لو تعلمون" جملة معترضة بين جزأي الجملة المعترضة، فهو اعتراض في اعتراض. قال الفراء والزجاج: هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن، والضمير في إنه على القسم الذي يدل عليه أقسم، والمعنى أن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون.