تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 544 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 544

544 : تفسير الصفحة رقم 544 من القرآن الكريم

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لّمْ تَجِدُواْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يسارّه فيما بينه وبينه, أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام, ولهذا قال تعالى: {ذلك خير لكم وأطهر} ثم قال تعالى: {فإن لم تجدو} أي إلا من عجزعن ذلك لفقره {فإن الله غفور رحيم} فما أمر بها إلا من قدر عليها. ثم قال تعالى: {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} أي أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون} فنسخ وجوب ذلك عنهم, وقد قيل إنه لم يعمل بهذه الاَية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب قدم ديناراً صدقة تصدق به, ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم, فسأله عن عشر خصال ثم أنزلت الرخصة, وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال علي رضي الله عنه: آية في كتاب الله عز وجل لم يعمل بهاأحد قبلي ولا يعمل بها أحد)بعدي, كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم, فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم, فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي, ثم تلا هذه الاَية: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} الاَية. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا مهران عن سفيان عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ترى, دينار ؟» قال: لا يطيقون. قال «نصف دينار» قال: لا يطيقون. قال «ما ترى» ؟ قال: شعيرة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «إنك لزهيد» قال: فنزلت {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} قال علي: فبي خفف الله عن هذه الأمة.
ورواه الترمذي عن سفيان بن وكيع عن يحيى بن آدم عن عبيد الله الأشجعي, عن سفيان الثوري عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} إلى آخرها قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ترى, دينار» قلت: لا يطيقونه وذكره بتمامه مثله, ثم قال: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه,ثم قال: ومعنى قوله شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب, ورواه أبو يعلى عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن آدم به. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ـ إلى ـ فإن الله غفور رحيم}. كان المسلمون يقدمون بين يدي النجوى صدقة فلما نزلت الزكاة نسخ هذا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول اللهصلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه, فأراد الله أن يخفف عن نبيه عليه السلام, فلما قال ذلك جبن كثير من المسلمين وكفوا عن المسألة, فأنزل الله بعد هذا {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فوسع الله عليهم ولم يضيق.
وقال عكرمة والحسن البصري في قوله تعالى: {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} نسختها الاَية التي بعدها {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} إلى آخرها. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ومقاتل بن حيان: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ففطمهم الله بهذه الاَية, فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة,فاشتد ذلك عليهم, فأنزل الله الرخصة بعد ذلك {فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم}.
وقال معمر عن قتادة {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} إنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار. وهكذا روى عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب عن مجاهد قال علي : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت, وأحسبه قال: وما كانت إلا ساعة.

** أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ تَوَلّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِم مّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * اتّخَذْوَاْ أَيْمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ * لّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مّنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُمْ عَلَىَ شَيْءٍ أَلاَ إِنّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ حِزْبُ الشّيْطَانِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ الشّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ
يقول الله تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن. وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين كما قال تعالى: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيل} وقال ههنا: {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم} يعني اليهود الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن ثم قال تعالى: {ما هم منكم ولا منهم} أي هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون, ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود, ثم قال تعالى: {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} يعني المنافقين يحلفون على الكذب, وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا وهي اليمين الغموس, ولا سيما في مثل حالهم اللعين عياذاً بالله منه, فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا, وإذا جاؤوا الرسول حلفوا له بالله إنهم مؤمنون, وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به, لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه وإن كان في نفس الأمر مطابقاً, ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك.
ثم قال تعالى: {أعد الله لهم عذاباً شديداً إنهم ساء ما كانوا يعملون} أي أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة وهي موالاة الكافرين ونصحهم ومعاداة المؤمنين, وغشهم, ولهذا قال تعالى: {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله} أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر واتقوا بالأيمان الكاذبة, فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم, فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس {فلهم عذاب مهين} أي في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الخانثة, ثم قال تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئ} أي لن يدفع ذلك عنهم بأساً إذا جاءهم {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ثم قال تعالى: {يوم يبعثهم الله جميع} أي يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحداً {فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء} أي يحلفون باالله عز وجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه, ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة ولهذا قال: {ويحسبون أنهم على شيء} أي حلفهم بذلك لربهم عز وجل.
ثم قال تعالى: منكراً عليهم حسبانهم {ألا إنهم هم الكاذبون} فأكد الخبر عنهم بالكذب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل, حدثنا زهير عن سماك بن حرب, حدثني سعيد بن جبير, أن ابن عباس حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين قد كاد يقلص عنهم الظل قال: «إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه» فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله فكلمه فقال: «علام تشتمني أنت وفلان وفلان» نفر دعاهم بأسمائهم, قال فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه, قال فأنزل الله عز وجل {فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون}.
وهكذا رواه الإمام أحمد من طريقين عن سماك به, ورواه ابن جرير عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن سماك به نحوه, وأخرجه أيضاً من حديث سفيان الثوري عن سماك بنحوه إسناد جيد ولم يخرجوه, وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} ثم قال تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله} أي استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله عز وجل, وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه, ولهذا قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس, حدثنا زائدة, حدثنا السائب بن حبيش عن معدان بن أبي طلحة اليعمري, عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية» قال زائدة: قال السائب: يعني الصلاة في الجماعة. ثم قال تعالى: {أولئك حزب الشيطان} يعني الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ثم قال تعالى: {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.