تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 544 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 544

543

12- "يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة" المناجاة المساررة، والمعنى: إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم فقدموا بين يدي مساررتكم له صدقة. قال الحسن: نزلت بسبب أن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم يناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك، فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى لتقطعهم عن استخلائه. وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته وكان ذلك يشق على المسلمين، لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول" فلم ينتهوا، فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الإيمان وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة فخخف الله عنهم بالآية التي بعد هذه، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى ، وهو مبتدأ وخبره "خير لكم وأطهر" لما فيه من طاعة الله، وتقييد الأمر بكون امتثاله خيراً لهم من عدم الامتثال وأطهر لنفوسهم يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب "فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم" يعني من كان منهم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة.
13- "أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات" أي أخفتم الفقر والعيلة لأن تقدموا ذلك، والإشفاق: الخوف من المكروه والاستفهام للتقرير. وقيل المعنى: أبخلتم، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين. قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. وقال قتادة: ما كان إلا ساعة من النهار "فإذ لم تفعلوا" ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ولم يفعل، وأما من لم يجد فقد تقدم الترخيص له بقوله: "فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم" "وتاب الله عليكم" بأن رخص لكم في الترك، وإذ على بابها في الدلالة على المضي، وقيل هي بمعنى إذا، وقيل بمعنى إن، وتاب معطوف على لم تفعلوا: أي وإذا لم تفعلوا وإذ تاب عليكم "فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" والمعنى: إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى فاثبتوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما تؤمرون به وتنهون عنه "والله خبير بما تعملون" لا يخفى عليه من ذلك شيء فهو مجازيكم، وليس في الآية ما يدل على تقصير المؤمنين في امتثال هذا الأمر، أما الفقراء منهم فالأمر واضح، وأما من عداهم من المؤمنين فإنهم لم يكلفوا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة، فمن ترك المناجاة فلا يكون مقصراً في امتثال الأمر بالصدقة، على أن في الآية ما يدل على أن الأم للندب كما قدمنا. وقد استدل بهذه الآي من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل، وليس هذا الاستدلال بصحيح، فإن النسخ لم يقع إلا بعد إمكان الفعل، وأيضاً قد فعل ذلك البعض، فتصدق بين يدي نجواه كما سيأتي. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أنزت هذه الآية " إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس " يوم جمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام، فلم يفسح لهم، فشق ذلك عليه، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: قم يا فلان وأنت يا فلان، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: ذلك في مجلس القتال "وإذا قيل انشزوا" قال: إلى الخير والصلاة. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" قال: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا درجات. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية قال: يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات. وأخرج ابن المنذر عنه قال: ما خص الله العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية، فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "إذا ناجيتم الرسول" الآية قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما قال ذلك ظن كثير من الناس وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا " أأشفقتم " الآية، فوسع الله عليهم ولم يضيق. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والنحاس وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: "لما نزلت "يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة" قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى دينار؟ قلت لا يطيقونه. قال فنصف دينار؟ قلت لا يطيقونه، قال فكم؟ قلت شعيرة، قال إنك لزهيد، قال: فنزلت: " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " الآية، فبي خفف الله عن هذه الأمة" والمراد بالشعير هنا وزن شعيرة من ذهب، وليس المراد واحدة من حب الشعير. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلا ساعة: يعني آية النجوى. وأخرج سعيد بن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضاً قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى "يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة" كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت: "أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات" الآية. وأخرج الطبراني وابن مردويه. قال السيوطي: بسند ضعيف عن سعد بن أبي وقاص وقال: "نزلت "يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة" فقدمت شعيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لزهيد، فنزلت الآية الأخرى "أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات"".
قوله: 14- "ألم تر إلى الذين تولوا قوماً" أي والوهم. قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود. وقال السدي ومقاتل: هم اليهود تولوا المنافقين، ويدل على الأول قوله: "غضب الله عليهم" فإن المغضوب عليهم اليهود، ويدل على الثاني قوله: "ما هم منكم ولا منهم" فإن هذه صفة المنافقين، كما قال الله فيهم "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء" وجملة "ما هم منكم ولا منهم" في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة "ويحلفون على الكذب" أي يحلفون أنهم مسلمون، أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود، والجملة عطف على تولوا داخلة في حكم التعجيب من فعلهم، وجملة "وهم يعلمون" في محل نصب على الحال: أي والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له.
15- "أعد الله لهم عذاباً شديداً" بسبب هذا التولي والحلف على الباطل "إنهم ساء ما كانوا يعملون" من الأعمال القبيحة.
16- "اتخذوا أيمانهم جنة" قرأ الجمهور "أيمانهم" بفتح الهمزة جمع يمين، وهي ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين توقياً من القتل، فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم كما يجعل المقاتل الجنة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم. وقرأ الحسن وأبو العالية إيمانهم بكسر الهمزة أي جعلوها تصديقهم جنة من القتل، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل ولم تأمن قلوبهم "فصدوا عن سبيل الله" أي منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط وتهوين أمر المسلمين وتضعيف شوكتهم، وقيل المعنى: فصدوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم للإسلام "فلهم عذاب مهين" ، أي يهينهم ويخزيهم ، قيل هو تكرير لقوله " أعد الله لهم عذابا شديدا " للتأكيد، وقيل الأول عذاب القبر، وهذا عذاب الآخرة، ولا وجه للقول بالتكرر، فإن العذاب الموصوف بالشدة غير العذاب الموصوف بالإهانة.
17- "لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً" أي لن تغني عنهم من عذابه شيئاً من الإغناء قال مقاتل. قال المنافقون: إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذن، فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة فنزلت الآية "أولئك" الموصوفون بما ذكر "أصحاب النار" لا يفارقونها "هم فيها خالدون" لا يخرجون منها.
18- "يوم يبعثهم الله جميعاً" الظرف منصوب بقوله: مهين، أو بمقدر: أي اذكر "فيحلفون له كما يحلفون لكم" أي يحلفون لله يوم القيامة على الكذب كما يحلفون لكم في الدنيا، وهذا من شدة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم، فإن يوم القيامة قد انكشفت الحقائق وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة، فكيف يجترئون على أن يكذبوا في ذلك الموقف ويحلفون على الكذب "ويحسبون أنهم على شيء" أي يحسبون الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعاً، أو يدفع ضرراً كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا "ألا إنهم هم الكاذبون" أي الكاملون في الكذب المتهالكون عليه البالغون فيه إلى حد لم يبلغ غيرهم إليه بإقدامهم عليه وعلى الأيمان الفاجرة في موقف القيامة بين يدي الرحمن.
19- "استحوذ عليهم الشيطان" أي غلب عليهم واستعلى واستولى. قال المبرد: استحوذ على الشيء حواه وأحاط به، وقيل قوي عليهم، وقيل جمعهم، يقال أحوذ الشيء: أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، والمعاني متقاربة لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم واستعلى عليهم واستولى وأحاط بهم "فأنساهم ذكر الله" أي أوامره والعمل بطاعته، فلم يذكروا شيئاً من ذلك، وقيل زواجره في النهي عن معاصيه، وقيل لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى المذكورين الموصوفين بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره "حزب الشيطان" أي جنوده وأتباعه ورهطه "ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون" أي الكاملون في الخسران حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران لأنهم باعوا الجنة والهدى بالضلالة، وكذبوا على الله وعلى نبيه وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة.
20- "إن الذين يحادون الله ورسوله" تقدم معنى المحادة لله ولرسوله في أول هذه السورة، والجملة تعليل لما قبلها "أولئك في الأذلين" أي أولئك المحادون لله ورسوله المتصفون بتلك الصفات المتقدمة من حملة من أذله الله من الأمم السابقة واللاحقة لأنه لما حادوا الله ورسوله صاروا من الذل بهذا المكان. قال عطاء: يريد الذل في الدنيا والخزي في الآخرة.
21- "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي" الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها مع كونهم في الأذلين: أي كتب في اللوح المحفوظ، وقضى في سابق علمه: لأغلبن أنا ورسلي بالحجة والسيف. قال الزجاج: معنى غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب فهو غالب في الحر، ومن بعث منهم بغير الحرب فهو غالب بالحجة. قال الفراء: كتب بمعنى قال، وقوله: أنا توكيد، ثم ذكر مثل قول الزجاج: "إن الله قوي عزيز" فهو قوي على نصر أوليائه غالب لأعدائه لا يغلبه أحد.