تفسير الطبري تفسير الصفحة 544 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 544
545
543
 الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لّمْ تَجِدُواْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ياأيها الذين صدقوا الله ورسوله, إذا ناجيتم رسول الله, فقدّموا أمام نجواكم صدقة تتصدّقون بها على أهل المسكنة والحاجة ذَلكَ خَيْرٌ لَكُمْ يقول: وتقديمكم الصدقة أمام نجواكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, خير لكم عند الله وأطْهَرُ لقلوبكم من المآثم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26147ـ حدثني محمد بن عمر, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً قال: نُهُوا عن مناجاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصدّقوا, فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, قدّم دينارا فتصدّق به, ثم أنزلت الرّخصة في ذلك.
26148ـ حدثنا محمد بن عبيد بن محمد المحاربي, قال: حدثنا المطلب بن زياد, عن ليث, عن مجاهد, قال: قال عليّ رضي الله عنه: إن في كتاب الله عزّ وجلّ لاَية ما عمل بها أحد قبلي, ولا يعمل بها أحد بعدي: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة قال: فُرضت, ثم نُسخت.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا أبو أسامة, عن شبل بن عباد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة قال: نهوا عن مناجاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصدّقوا, فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, قدّم دينارا صدقةً تصدّق به, ثم أنزلت الرخصة.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت ليثا, عن مجاهد, قال: قال عليّ رضي الله عنه: آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي, ولا يعمل بها أحد بعدي, كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم, فكنت إذا جئت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم, فنسخت فلم يعمل بها أحد قبلي يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة.
26149ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة, فوعظهم الله بهذه الآية. وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدّم بين يديه صدقة, فاشتد ذلك عليهم, فأنزل الله عزّ وجل الرخصة بعد ذلك فإنْ لَمْ تَجِدُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً قال: إنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار.
26150ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً... إلى فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال: كان المسلمون يقدّمُونَ بين يدي النجوى صدقة, فلما نزلت الزكاة نُسخ هذا.
26151ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً وذاك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه, فأراد الله أن يخفف عن نبيه فلما قال ذلك صبر كثير من الناس, وكفوا عن المسألة, فأنزل الله بعد هذا فإذَا لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأَقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ فوسّع الله عليهم, ولم يضيق.
26152ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن عثمان بن أبي المغيرة, عن سالم بن أبي الجعد, عن عليّ بن علقمة الأنماريّ, عن عليّ, قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما تَرَى؟ دِينارٌ؟» قال: لا يطيقون, قال: «نِصْفُ دِينارٍ؟» قال: «ما تَرَى؟» قال: شعيرة, فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّكَ لَزَهِيدٌ» قال عليّ رضي الله عنه: فبي خفف الله عن هذه الأمة, وقوله: إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً فنزلت أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ.
26153ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً لئلا يناجي أهل الباطل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيشُقّ ذلك على أهل الحقّ, قالوا: يا رسول الله ما نستطيع ذلك ولا نطيقه, فقال الله عزّ وجلّ: أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ فإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأقِيمُوا الصّلاَةَ وآتُوا الزّكاةَ وقال: لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ, إلاّ مَنْ أمَرَ بِصدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ, من جاء يناجيك في هذا فاقبل مناجاته, ومن جاء يناجيك في غير هذا فاقطع أنت ذاك عنه لا تناجه. قال: وكان المنافقون ربما ناجوا فيما لا حاجة لهم فيه, فقال الله عزّ وجلّ: ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نَهُوا عَنِ النّجْوَى ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بالإثْم والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ قال: لأن الخبيث يدخل في ذلك.
26154ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا: قال في المجادلة: إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة ذلكَ خَيْرٌ لَكُمْ وأطْهَرُ فإنْ لَمْ تَجدُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فنسختها الآية التي بعدها, فقال: أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ فإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأقِيمُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاةَ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
وقوله: فإنْ لَمْ تَجِدُوا يقول تعالى ذكره: فإن لم تجدوا ما تتصدّقُون به أمام مناجاتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول: فإن الله ذو عفو عن ذنوبكم إذا تبتم منها, رحيم بكم أن يعاقبكم عليها بعد التوبة, وغير مؤاخذكم بمناجاتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تقدّموا بين يدي نجواكم إياه صدقة.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: أشقّ عليكم وخشيتم أيها المؤمنون بأن تقدموا بين يدي نجواكم رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات الفاقة, وأصل الإشفاق في كلام العرب: الخوف والحذر, ومعناه في هذا الموضع: أخشيتم بتقديم الصدقة الفاقة والفقر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26155ـ حدثني محمد بن عمر, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد أأشْفَقْتُمْ قال: شقّ عليكم تقديم الصدقة, فقد وُضِعَتْ عنكم, وأمروا بمناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير صدقة حين شقّ عليهم ذلك.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا أبو أُسامة, عن شبل بن عباد المكّي, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
26156ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ فإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأقِيمُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاةَ فريضتان واجبتان لا رجعة لأحد فيهما, فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الصدقة في النجوى.
وقوله: فإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ يقول تعالى ذكره: فإذ لم تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات, ورزقكم الله التوبة من ترككم ذلك, فأدّوا فرائض الله التي أوجبها عليكم, ولم يضعها عنكم من الصلاة والزكاة, وأطيعوا الله ورسوله, فيما أمركم به, وفيما نهاكم عنه.
وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلونَ يقول جلّ ثناؤه: والله ذو خبرة وعلم بأعمالكم, وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ تَوَلّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِم مّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر بعين قلبك يا محمد, فترى إلى القوم الذين. تولّوْا قوما غضب الله عليهم, وهم المنافقون تولّوا اليهود وناصحوهم, كما:
26157ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ تَوَلّوْا قَوْما غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ إلى آخر الآية, قال: هم المنافقون تولّوا اليهود وناصحوهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة تَوَلّوْا قَوْما غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ قال: هم اليهود تولاهم المنافقون.
26158ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله عزّ وجلّ ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ تَوَلّوْا قَوْما غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ قال: هؤلاء كفرة أهل الكتاب اليهود والذين تولوهم المنافقون تولوا اليهود, وقرأ قول الله: ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتابِ حتى بلغ وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبُونَ لئن كانَ ذلكَ لا يَفْعَلُونَ وقال: هؤلاء المنافقون قالوا: لا ندع حلفاءنا وموالينا يكونوا معا لنصرتنا وعزّنا, ومن يدفع عنا نخشى أن تصيبنا دائرة, فقال الله عزّ وجلّ: فَعَسَى اللّهُ أنْ يأتِي بالفَتْحِ أوْ أمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ حتى بلغ: فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ وقرأ حتى بلغ: أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرِ قال: لا يَبرزون.
قوله: ما هُمْ مِنْكُمْ يقول تعالى ذكره: ما هؤلاء الذين تولّوا هؤلاء القوم الذين غضب الله عليهم, منكم يعني: من أهل دينكم وملتكم, ولا منهم ولا هم من اليهود الذين غضب الله عليهم, وإنما وصفهم بذلك منكم جلّ ثناؤه لأنهم منافقون إذا لقوا اليهود, قالوا أنّا مَعَكمْ إنّما نَحنُ مُسْتَهزئون وَإذا لَقُوا الذّين آمَنُوا قَالوَا آمَنّا.
وقوله ويَحْلِفُونَ على الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يقول تعالى ذكره: ويحلفون على الكذب, وذلك قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نشهد إنك لرسول الله وهم كاذبون غير مصدّقين به, ولا مؤمنين به, كما قال جلّ ثناؤه: وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافِيِنَ لَكاذِبُونَ وقد ذُكِر أن هذه الآية نزلت في رجل منهم عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر بلغه عنه, فحلف كذبا. ذكر الخبر الذي رُوي بذلك:
26159ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن سماك, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَنْظُرُ بعَيْنِ شَيْطانٍ, أو بعَيْنَيْ شَيْطانٍ», قال: فدخل رجل أزرق, فقال له: «علامَ تسبني أو تشتمني؟» قال: فجعل يحلف, قال: فنزلت هذه الآية التي في المجادلة: وَيحْلِفُونَ على الكَذِبِ وَهَمْ يَعْلَمُونَ والآية الأخرى.
الآية : 15-16
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * اتّخَذْوَاْ أَيْمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ }.
يقول تعالى ذكره: أعدّ الله لهؤلاء المنافقين الذين تولّوُا اليهود عذابا في الاَخرة شديدا إنّهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا بغشهم المسلمين. ونصحهم لأعدائهم من اليهود.
وقوله: اتّخَذُوا أيمانَهُمْ جُنّةً يقول جلّ ثناؤه: جعلوا حلفهم وأيمانهم جنة يسجنون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم, وذلك أنهم إذا اطلع منهم على النفاق, حلفوا للمؤمنين بالله إنهم لمنهم فَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول جلّ ثناؤه: فصدّوا بأيمانهم التي اتخذوها جنة المؤمنين عن سبيل الله فيهم, وذلك أنهم كفرة, وحكم الله وسبيله في أهل الكفر به من أهل الكتاب القتل, أو أخذ الجزية, وفي عبدة الأوثان القتل, فالمنافقون يصدّون المؤمنين عن سبيل الله فيهم بأيمانهم إنهم مؤمنون, وإنهم منهم, فيحولون بذلك بينهم وبين قتلهم, ويمتنعون به مما يمتنع منه أهل الإيمان بالله.
وقوله فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ يقول: فلهم عذاب مُذِلّ لهم في النار.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{لّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مّنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: لن تغني عن هؤلاء المنافقين يوم القيامة أموالهم, فيفتدوا بها من عذاب الله المهين لهم ولا أولادهم, فينصرونهم ويستنقذونهم من الله إذا عاقبهم أُولَئِكَ أصحَابُ النّارِ يقول: هؤلاء الذين تولوا قوما غضب الله عليهم, وهم المنافقون أصحاب النار, يعني أهلها الذين هم فيها خالدون, يقول: هم في النار ماكثون إلى غير نهاية.
الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُمْ عَلَىَ شَيْءٍ أَلاَ إِنّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ }.
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين ذكرهم هم أصحاب النار, يوم يبعثهم الله جميعا, فيوم من صلة أصحاب النار. وعُني بقوله يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللّهُ جَمِيعا من قبورهم أحياء كهيئاتهم قبل مماتهم, فيحلفون له كما يحلفون لكم كاذبين مبطلين فيها, كما:
26160ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: فَيَحْلِفُونَ لَهُ قال: إن المنافق حلف له يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, في قوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعا... الآية, والله حالفَ المنافقون ربهم يوم القيامة, كما حالفوا أولياءه في الدنيا.
26161ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن سماك بن حرب البكري, عن سعيد بن جُبَير, قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في ظلّ حجرة قد كاد يَقْلِصُ عنه الظلّ, فقال: «إنّهُ سَيأْتِيكُمْ رَجُلٌ, أو يَطْلُعُ رَجُلٌ بعَيْنِ شَيْطانٍ فَلا تُكَلّمُوهُ» فلم يلبث أن جاء, فاطلع فإذا رجل أزرق, فقال له: «عَلامَ تَشْتُمُنِي أنْتَ وَفُلانٌ وَفُلانٌ»؟ قال: فذهب فدعا أصحابه, فحلفوا ما فعلوا, فنزلت: يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللّهُ جَمِيعا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ على شَيْءٍ ألا إنّهُمْ هُمُ الكاذبُونَ.
وقوله: وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ على شَيْءٍ يقول: ويظنون أنهم في أيمانهم وحلفهم بالله كاذبين على شيء من الحقّ, إلا إنّهُمْ هُمُ الكاذِبُونَ فيما يحلفون عليه.
الآية : 19
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ حِزْبُ الشّيْطَانِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ الشّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ }.
يعني تعالى ذكره بقوله: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطانُ غلب عليهم الشيطان فأنْساهُمْ ذِكْرَ اللّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشّيْطانِ يعني جنده وأتباعه ألا إنّ حِزْبَ الشّيْطانِ هُمُ الخاسِرُونَ يقول: ألا إن جند الشيطان وأتباعه هم الهالكون المغبونون في صَفْقَتِهِمْ.
الآية : 20-21
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{إِنّ الّذِينَ يُحَآدّونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـَئِكَ فِي الأذَلّينَ * كَتَبَ اللّهُ لأغْلِبَنّ أَنَاْ وَرُسُلِيَ إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين يخالفون الله ورسوله في حدوده, وفيما فرض عليهم من فرائضه فيعادونه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26162ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّ الّذِينَ يُحادّونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ يقول: يعادون الله ورسوله.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, بنحوه.
26163ـ حدثني محمد بن عمر, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: يُحادّونَ الله وَرَسُولَهُ قال: يعادون. يشاقّون.
وقوله: أُولَئكَ فِي الأَذّلِينَ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يحادّون الله ورسوله في أهل الذلة, لأن الغلبة لله ورسوله.
وقوله: كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنّ أنا وَرُسُلِي يقول: قضى الله وخطّ في أمّ الكتاب, لأغلبنّ أنا ورسلي مَن حادّني وشاقّني. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26164ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنّ أنا وَرُسُلِي... الآية, قال: كتب الله كتابا وأمضاه.
وقوله: إنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ يقول: إن الله جلّ ثناؤه ذو قوّة وقدرة على كلّ من حادّه, ورسوله أن يهلكه, ذو عزّة فلا يقدر أحد أن ينتصر منه إذا هو أهلك وليه, أو عاقبه, أو أصابه في نفسه بسوء