تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 588 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 588

587

وقوله: 7- "كلا" هي للردع والزجر للمطففين الغافلين عن البعث وما بعده. ثم استأنف فقال: "إن كتاب الفجار لفي سجين" وعند أبي حاتم أن كلاً بمعنى حقاً متصلة بما بعدها على معنى: حقاً إن كتاب الفجار لفي سجين.
وسجين هو ما فسره به سبحانه من قوله: 8- " وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم " فأخبر بهذا أنه كتاب مرقوم: أي مسطور، قيل هو كتاب جامع لأعمال الشر الصادر من الشياطين والكفرة والفسفة، ولفظ سجين علم له. وقال قتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب: إنه صخرة تحت الأرض السابعة تقلب، فيجعل كتاب الفجار تحتها، وبه قال مجاهد، فيكون في الكلام على هذا القول مضاف محذوف، والتقدير: محل كتاب مرقوم. وقال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج "لفي سجين" لفي حبس وضيق شديد، والمعنى: كأنهم في حبس، جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم وهوانها.
قال الواحدي: ذكر قوم أن قوله: 9- "كتاب مرقوم" تفسير لسجين، وهو بعيد لأنه ليس السجين من الكتاب في شيء على ما حكيناه عن المفسرين، والوجه أن يجعل بياناً لكتاب المذكور في قوله: "إن كتاب الفجار" على تقدير هو كتاب مرقوم: أي مكتوب قد بينت حروفه انتهى، والأول ما ذكرناه، ويكون المعنى: إن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون: أي ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدون للقبائح المختص بالشر، وهو سجين. ثم ذكر ما يدل على تهويله وتعظيمه، فقال: "وما أدراك ما سجين" ثم بينه بقوله: "كتاب مرقوم". قال الزجاج: معنى قوله: "وما أدراك ما سجين" ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك. قال قتادة: ومعنى مرقوم: رقم لهم بشر كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر. وكذا قال مقاتل. وقد اختلفوا في نون سجين، فقيل هي أصلية واشتقاقه من السجن، وهو الحبس، وهو بناء مبالغة كخمير وسكير وفسيق، من الخمر والسكر والفسق. وكذا قال أبو عبيدة والمبرد والزجاج. قال الواحد: وهذا ضعيف لأن العرب ما كانت تعرف سجيناً. ويجاب عنه بأن رواية هؤلاء الأئمة تقوم بها الحجة، وتدل على أنه من لغة العرب، ومنه قول ابن مقبل: ورفقة يضربون البيض ضاحية ضرباً تواصت به الأبطال سجينا وقيل النون بدل من اللام، والأصل سجيل، مشتقاً من السجل، وهو الكتاب. قال ابن عطية: من قال إن سجيناً موضع فكتاب مرفوع على أنه خبر إن، والظرف وهو قوله: "لفي سجين" ملغى، ومن جعله عبارة عن الكتاب، فكتاب خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو كتاب، ويكون هذا الكلام مفسراً لسجين ما هو؟ كذا قال. قال الضحاك: مرقوم مختوم بلغة حمير، وأصل الرقم الكتابة. قال الشاعر: سأرقم بالماء القراح إليكم على بعدكم إن كان للماء راقم
10- "ويل يومئذ للمكذبين" هذا متصل بقوله: "يوم يقوم الناس لرب العالمين" وما بينهما اعتراض، والمعنى: ويل يوم القيامة لمن وقع منه التكذيب بالبعث وبما جاءت به الرسل.
ثم بين سبحانه هؤلاء المكذبين فقال: 11- "الذين يكذبون بيوم الدين" والموصول صفة للمكذبين، أو بدل منه.
12- "وما يكذب به إلا كل معتد أثيم" أي فاجر جائر متجاوز في الإثم منهمك في أسبابه.
13- "إذا تتلى عليه آياتنا" المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم "قال أساطير الأولين" أي أحاديثهم وأباطيلهم التي زخرفوها. قرأ الجمهور "إذا تتلى" بفوقيتين. وقرأ أبو حيوة وأبو السماك والأشهب العقيلي والسلمي بالتحتية.
وقوله: 14- "كلا" للردع والزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له، وقوله: "بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" بيان للسبب الذي حملهم على قولهم بأن القرآن أساطير الأولين. قال أبو عبيدة: ران على قلوبهم: غلب عليها ريناً وريوناً، وكل ما غلبك وعلاك فقد ران بك وران عليك. قال الفراء: هو أنها كثرت منهم المعاصي والذنوب فأحاطب بقلوبهم، فذلك الرين عليها. قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب. قال مجاهد: القلب مثل الكف، ورفع كفه فإذا أذنب انقبض وضم أصبعه، فإذا أذنب ذنباً آخر انقبض وضم أخرى حتى ضم أصابعه كلها حتى يطبع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرين. ثم قرأ هذه الآية. قال أبو زيد: يقال قد رين بالرجل ريناً: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به. وقال أبو معاذ النحوي: الرين أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب هو أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع. قال الزجاج: الرين هو كالصدأ بغشى القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين.
ثم كرر سبحانه الردع والزجر فقال: 15- "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" وقيل كلا بمعنى حقاً: أي حقاً إنهم، يعني الكفار عن ربهم يوم القيامة لا يرونه أبداً. قال مقاتل: يعني أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم. قال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة. وقال جل ثناؤه " وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة " فأعلم جل ثناؤه أن النمؤمنين ينظرون، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه. وقيل هو تمثيل لإهانتهم بإهانة من يحجب عن الدخول على الملوك. وقال قتادة وابن أبي مليكة: هو أن لا ينظر إليهم برحمته ولا يزكيهم. وقال مجاهد: محجوبون عن كرامته، وكذا قال ابن كيسان.
16- "ثم إنهم لصالوا الجحيم" أي داخلو النار وملازموها غير خارجين منها، وثم [لتراخي] الرتبة، لأن صلى الجحيم أشد من الإهانة وحرمان الكرامة.
17- "ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون" أي تقول لهم خزنة جهنم تبكيتاً وتوبيخاً: هذا الذي كنتم به تكذبون في الدنيا فانظروه وذوقوه. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوم يقوم الناس لرب العالمين" حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه". وأخرج الطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: "يوم يقوم الناس لرب العالمين" قال: فكيف إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم". وأخرج أبو يعلى وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة "عن النبي صلى الله عليه وسلم "يوم يقوم الناس لرب العالمين" بمقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى الغروب إلى أن تغرب". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إذا حشر الناس قاموا أربعين عاماً. وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعاً. وأخرج الطبراني "عن ابن عمر أنه قال: يا رسول الله كبر مقام الناس بين يدي رب العالمين يوم القيامة؟ قال: ألف سنة لا يؤذن لهم". وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله: "كلا إن كتاب الفجار لفي سجين" قال: إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها، فيهبط بها إلى الأرض فتأبى أن تقبلها، فيدخل بها تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو خد إبليس، فيخرج لها من تحت خد إبليس كتاباً فيختم ويوضع تحت خذ إبليس. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "سجين" أسفل الأرضين. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفلق جب في جهنم مغطى، وأما سجين فمفتوح". قال ابن كثير: هو حديث غريب منكر لا يصح. وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سجين" الأرض السابعة السفلى. وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه مرفوعاً. وأخرج عبد بن حميد وابن ماجه والطبراني والبيهقي في البعث عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: لما حضرت كعباً الوفاة أتته أم بشر بنت البراء فقالت: إن لقيت ابني فأقرئه مني السلام، فقال: غفر الله لك يا أم بشر نحن أشغل من ذلك، فقالت: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حين شاءت، وإن نسمة الكافر في سجين؟ قال: بلى، قالت: فهو ذلك". وأخرج ابن المبارك نحوه عن سلمان. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه في القرآن "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون"".
قوله: 18- "كلا" للردع والزجر عما كانوا عليه. والتكرير للتأكيد. وجملة "إن كتاب الأبرار لفي عليين" مستأنفة لبيان ما تضمنته، ويجوز أن يكون كلا بمعنى حقاً، والأبرار هم المطيعون، وكتابهم صحائف حسناتهم. قال الفراء: عليين ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له، ووجه هذا أنه منقول من جمع علي من العلو. قال الزجاج: هو إعلاء الأمكنة. قال الفراء والزجاج: فأعرب كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ولا واحد له من لفظ نحو ثلاثين وعشرين وقنسرين، قيل هو علم لديوان الخير الذي دون فيه ما عمله الصالحون. وحكى الواحدي: عن المفسرين أنه السماء السابعة. قال الضحاك ومجاهد وقتادة: يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين. وقال الضحاك: هو سدرة المنتهى ينتهي إليه كل شيء من أمر الله لا يعدوها، وقيل هو الجنة. وقال قتادة أيضاً: هو فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى، وقيل إن عليين صفة للملائكة فإنهم في الملأ الأعلى كما يقال فلان في بني فلان: أي في جملتهم.
19- " وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم " أي وما أعلمك يا محمد أي شيء عليوم على جهة التفخيم والتعظيم لعليين، ثم فسره فقال: "كتاب مرقوم" أي مسطور، والكلام في هذا كالكلام المتقدم في قوله: " وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم ".
20- "كتاب مرقوم".
وجملة 21- "يشهده المقربون" صفة أخرى لكتاب، والمعنى: أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب المرقوم، وقيل يشهدون بما فيه يوم القيامة. قال وهب وابن إسحاق: المقربون هنا إسرافيل، فإذا عمل المؤمن عمل البر صعدت الملائكة بالصحيفة ولها نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض حتى تنتهي بها إلى إسرافيل فيختم عليها.
ثم ذكر سبحانه حالهم في الجنة بعد ذكر كتابهم فقال: 22- "إن الأبرار لفي نعيم" أي إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم لا يقادر قدره.
23- "على الأرائك ينظرون" الأرائك: الأسرة التي في الحجال، وقد تقدم أنها لا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة. قال الحسن: ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن، فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير. ومعنى "ينظرون" أنهم ينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامات، كذا قال عكرمة ومجاهد وغيرهما. وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار، وقيل ينظرون إلى وجهه وجلاله.
24- "تعرف في وجوههم نضرة النعيم" أي إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة والرونق، والخطاب لكل راء يصلح لذلك، يقال أنضر النبات: إذا أزهر ونور. قال عطاء: وذلك أن الله زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف. قرأ الجمهور "تعرف" بفتح الفوقية وكسر الراء، ونصب "نضرة"، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وطلحة وابن أبي إسحاق بضم الفوقية وفتح الراء على البناء للمفعول، ورفع "نضرة" بالنيابة.
25- "يسقون من رحيق مختوم" قال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج: الرحيق من الخمر ما لا غش فيه ولا شيء يفسده، والمختوم الذي له ختام. وقال الخليل: الرحيق أجود الخمر وفي الصحاح الرحيق صفرة الخمر. وقال مجاهد: هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية، ومنه قول حسان: يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل قال مجاهد: "مختوم" مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين، ويكون المعنى: أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار.
وقال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي: ختامه آخر طعمه، وهو معنى قوله: 26- "ختامه مسك" أي آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك. وقيل مختوم أوانيه من الأكواب والأباريق بيسك مكان الطين، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته وطيب رائحته. والحاصل أن المختوم والختام الأشياء بالطين ونحوه. وقرأ الجمهور "ختامه" وقرأ علي وعلقمة وشفيق والضحاك وطاوس والكسائي " ختامه " بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قال علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: اجعل خاتمه مسكاً: أي آخره، والخاتم والختام يتقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم والختام المصدر، كذا قال الفراء قال في الصحاح: والختام الطين الذي يختم به، وكذا قال ابن زيد. قال الفرزدق: وبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاف الختام "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" أي فليرغب الراغبون، والإشارة بقوله: ذلك إلى الرحيق الموصوف بتلك الصفة، وقيل إن في بمعنى إلى: أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل كما في قوله: " لمثل هذا فليعمل العاملون " وأصل التنافس التشاجر على الشيء والتنازع فيه، بأن يحب كل واحد أن يتفرد به دون صاحبه، يقال نفست الشيء عليه أنفسه نفاسة: أي ظننت به ولم أحب أن يصير إليه. قال البغوي: أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس فيريده كل واحد لنفسه، وينفس به على غيره: أي يضن به. قال عطاء: المعنى فليستبق المستبقون. وقال مقاتل بن سليمان: فليتنازع المتنازعون.
وقوله: 27- "ومزاجه من تسنيم" معطوف على "ختامه مسك" صفة أخرى لرحيق: أي ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب الجنة،وأصل التسنيم في اللغة الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، ومنه تسنيم القبور.
ثم بين ذلك فقال: 28- "عينا يشرب بها المقربون" وانتصاب عينا على المدح. وقال الزجاج: على الحال، وإنما جاز أن تكون عينا حالاً مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله: "يشرب بها" وقال الأخفش: إنها منصوبة بيسقون: أي يسقون عيناً، أو من عين. وقال الفراء: إنها منصوبة بتسنيم على أنه مصدر مشتق من السنام كما في قوله: " أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما " والأول أولى، وبه قال المبرد. قيل والباء في بها زائدة: أي يشربها، أو بمعنى من: أي يشرب منها. قال ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش، قيل يشرب بها المقربون صرفاً، ويمزج بها كأس أصحاب اليمين.
ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين فقال: 29- "إن الذين أجرموا" وهم كفار قريش ومن وافقهم على الكفر "كانوا من الذين آمنوا يضحكون" أي كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين، ويسخرون منهم.
30- "وإذا مروا بهم" أي وإذا مر المؤمنون بالكفار وهم في مجالسهم "يتغامزون" من الغمز.، وهو الإشارة بالجفون والحواجب: أي يغمز بعضهم بعضاً، ويشيرون بأعينهم وحواجبهم، وقيل يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به.
31- "وإذا انقلبوا" أي الكفار "إلى أهلهم" من مجالسهم " انقلبوا فكهين " أي معجبين بما هم فيه متلذذين به، يتفكهون بذكر المؤمنين والطعن فيهم والاستهزاء بهم والسخرية منهم. والانقلاب: الانصراف. قرأ الجمهور "فاكهين" وقرأ حفص وابن القعقاع والأعرج والسلمي "فكهين" بغير ألف. قال الفراء: هما لغتان، مثل طمع وطامع، وحذر وحاذر. وقد تقدم بيانه في سورة الدخان أن الفكه: الأشر البطر، والفاكه: الناعم المتنعم.
32- "وإذا رأوهم" أي إذا رأى الكفار المسلمين في أي مكان "قالوا إن هؤلاء لضالون" في اتباعهم محمداً، وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر، ويجوز أن يكون المعنى: وإذا رأى المسلمون الكافرين قالوا هذا القول، والأول أولى.
وجملة 33- "وما أرسلوا عليهم حافظين" في محل نصب على الحال من فاعل قالوا: أي قالوا ذلك أنهم لم يرسلوا على المسلمين من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم.
34- "فاليوم الذين آمنوا" المراد باليوم: اليوم الآخر "من الكفار يضحكون" والمعنى: أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين قد نزل بهم ما نزل من العذاب، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا.
وجملة " على الأرائك ينظرون " في محل نصب على الحال من فاعل يضحكون: أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع، وقد تقدم تفسير الأرائك قريباً. قال الواحدي: قال المفسرون: إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله وهم يعذبون في النار، فضحكوا منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا. وقال أبو صالح: يقال لأهل النار اخرجوا ويفتح لهم أبوابها، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله: "فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون".